مع الشيخ عبد الله العلايلي إلى “الديار المقدسة”!

رؤوف قبيسي (النهار)

هل تريد أيها القارئ العزيز أن ترافق الشيخ عبد الله العلايلي في رحلة إلى “الديار المقدسة”؟ حسناً تفعل. لكن حاذر ألاّ تكون صبوراً، فالترحال مع الشيخ شاقّ طويل، فهو لا يصطنع السهل من الكلام، بل “اللغة العالية” أو لغة “المدارس العليا”، كما يسمّيها الفقهاء، أما منهجه في البحث والتأويل “فكلّي لا يؤخذ تفاريق ولا يُدرس أجزاء معزولة”. واذا اتفق أن أضعت الخطى، أو أدركك الفتور في وسط الطريق، فلا تجزع وأنصحك بألاّ تعود القهقرى.

أعرف أن حديقة الشيخ مليئة بالشوك والعوسج، ومنه الذي يدمي، لكن فيها من الفاكهة والورد الجوري، ما لم تره عين من قبل. أعرف أيضاً أن الرحلة ستتعبكَ وتضنيكَ، وتأخذ منكَ الجهد كله، لكن أضمن لكَ أنه ساعة تطأ قدماكَ عتبات تلك الديار، ستعتريكَ راحة لا تعدلها راحة، وصفاء لا يعدله صفاء، حتى لو كنتَ “كافراً” أو من الملحدين!
أراكَ تسألني أيها القارئ العزيز: كيف تريدني أن أعتلي ناقة وألتحق بقافلة شيخ معمّم، في هذه الأيام العصيبة التي كثر فيها التعسف، وعلت فيها حراب المتدينين؟ لن أجيبكَ عن هذا السؤال، فالشيخ الحكيم أقدر مني على ذلك، وهو سيقول لكَ “ما كانت قوافل الحكماء، من قبل ومن بعد، إلاّ قوافل الظمأ إلى الحق، إلى الخير، إلى الجمال، وما عرفت الدروب مذ أبدعت وعبدت غاية لنفسها إلا هذه الغاية، غاية العبور إلى النور الأسنى”.
وحده الشيخ المعلّم يقول لكَ هذا الكلام. وحده يخرج من بين الجموع والقوافل والقبائل ويقول: “لكم إسلامكم ولي إسلامي”! قد يأخذكَ العجب ويعتريكَ الدهش، وتريد أن تعرف ما سبيل هذا الرجل، فيأتيكَ جوابه بآية توّج بها فكره الإصلاحي: “قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة”.
أراكَ قد سمعتَ كلامه أيها القارئ العزيز، وأكاد أسمعكَ تقول له: “قد بدأت أرتاح إليكَ أيها الشيخ الجليل، وبدأت أرى في كلامكَ فعل إيمان، وأسمع زحزحة باب موصد. لقد سحرْتَني ساعة أسمعتني تلك الآية الكريمة، فأيّ أسلوب في العمل هو أسلوبكَ؟”.
أرى الشيخ قد ارتاح إليكَ أيها القارئ المسافر في محراب نسكه، وأراه بدأ يعهدكَ محبّاً للحكمة والمعرفة، تريد “التماس العلل والغوص على الينابيع، إرواءً لظمأ العقل المتشوف الطلعة”. أراه قد تنهّد من فوق ناقته، ومسح ما تندى على جبينه من عرق، وأخذ من جيبه ورقة صغيرة دفعها إليكَ، تشرح أسلوبه في الفقه والحياة: “ليس محافظةً التقليدُ مع الخطأ، وليس خروجاً التصحيحُ الذي يحقق المعرفة”.
تعود وتسأل الشيخ: هل هذه الديار التي نقصد هي الوحيدة المقدسة في هذا العالم؟ فيجيبكَ من فوره “لأية جماعةٍ الحريةُ في أن لا تتصل بالسماء من طريق محمد”. تعود فتسأله وهل في القرآن ما يدعو إلى ذلك أيها المعلّم؟ يضع يده في جيب جلبابه من جديد. يسحب مصحفاً صغيراً، يفتحه على سورة البقرة، ويطلب إليكَ أن تقرأ، فإذا الكلام آية تقول “لا إكراه في الدين”.
هل اتفق أن سمعتَ في حياتكَ كلها، فقيهاً أو شيخاً أزهرياً يقول مثل هذا الكلام أيها القارئ العزيز “لأية جماعة الحرية في أن لا تتصل بالسماء من طريق محمد”. ألا تجد فيه صورة مغايرة لصورة إسلام آخر، يقدّمه إلى العالم اليوم وثنيون جدد؟
أخالكَ بدأتَ تتنفس الصعداء، وتريد للرحلة أن تستمر. لا أبوح لكَ بسرّ إذا قلت إن الشيخ سوف يجيبكَ عن كل سؤال يخطر في بالكَ، فهو من طبقة الذين فكّروا وتأملوا وآمنوا وصعدوا في معراج الإيمان. وأكاد أسمعكَ تسألني عن الأسباب التي حملتهم على تسميته “الشيخ الأحمر”.
سوف أجيبكَ. لقد نعتوه ظلماً بهذه التسمية، لأنهم ظنّوا أنه “اشتراكي”، وأنه “شيوعي”، وهو ليس إلاّ فقيهاً يأخذ من الموروث ما يسند الحجة، فطالب بتوزيع الثروة، وقال إن استحواذ الفرد عليها استحواذاً أنانياً هو استحواذ على الجماعة نفسها! لم يكتفوا بذلك، فسلّطوا عليه الثيران التي تهوج وتموج ساعة ترى “اللون الأحمر”، وهؤلاء شيوخهم سيّئون، أحاديّو الجانب، يقرأون الكتاب بعين واحدة، ويسمعون التراتيل بأذن واحدة. يحتكمون إلى إمام واحد يروي غرائزهم، أما شيخنا فلا لون واحداً له كما يقول. هو مؤمن، واسع العقل والقلب والرحمة، عامل بوحي الآية التي تقول “لست عليهم بمسيطر”، وبآية أخرى تقول “إنما المؤمنون أخوة”.
لم يلتزم الشيخ مدرسة واحدة في الفقه وقال: “علينا التسليم بما قالت المدارس الفقهية على اختلاف تناكرها: الأباضية والزيدية والجعفرية والسنية، من حنفية ومالكية وشافعية وحنبلية وأوزاعية وظاهرية، ومن فيها من مدارس الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، وهكذا تصبح الثروة الفقهية منجماً لكل ما يجد ويحدث”.
قلت لكَ إن الشيخ سوف يجيبكَ عن كل سؤال تطرحه عليه في هذه الرحلة الطويلة، لأنه متسامح يأخذ بالآراء كلها. لا يعرف العصبية الدينية أو المذهبية، ويؤمن بأن الحياة في تغيير دائم، ويؤمن أيضاً “بأنه في حال واجهتنا مشكلة أو نازلة، نأخذ الحل من هذا المنجم الفقهي، بقطع النظر عن قائله أو دليله، وبتغير الظرف يتغير الحكم المعتمد. وما دمنا قد سلّمنا بأقوالهم جميعاً وقبلناهاً جميعاً، فالمرجح هو الظرف، وما هجرناه اليوم من قول في مسألة، ومن ثم اقتضاه الظرف بعد حين، نعمد إلى ترجيحه والأخذ به، فالأحكام تتغير بتغير الزمان والمكان، والمقتضي في ذلك كله هو التيسير”!
نعم أيها القارئ العزيز، “الأحكام تتغير بتغيّر الزمان والمكان والمقتضي في ذلك هو التيسير”! هل قرأتَ في حياتكَ كلها كلاماً لإمام معاصر أجمل من هذا الكلام؟! ألا ينطبق على الكلام المنسوب إلى الرسول “أنتم أدرى بشؤون دنياكم”، وعلى الآية الكريمة القائلة “إنما يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر”؟! ألا يبدو شيخنا هنا “مواطناً من العالم وللعالم” وعاملاً بالآية الكريمة التي تقول “يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة”.
لا أخفيكَ أيها القارئ الكريم، أني قد سبق وسافرتُ مع الشيخ في إحدى رحلاته الطويلة إلى “العتبات المقدسة” وقطعنا الصحارى والفيافي والقفار. لم تكن تلك الرحلة الصحرواية سهلة البتة. دامت شهراً أو بعض شهر، على ما أذكر، ومرّت أيام لم تغمض لي فيها عين، لا في الليل ولا في النهار. كثيرة كانت المرات التي أفقتُ فيها من نومي مرتبكاً، أفكر ما عساه الشيخ قد عنى بهذه الكلمة العويصة، وتلك الجملة التي استغلق عليَّ فهمها، فأعود إلى رشدي، ويعود إليَّ رشدي، وأتذكر قول الذي سأل أبا تمّام مرةً: لماذا لا تكتب الشعر الذي يفهم؟ فأجابه أبو تمّام: وأنتَ لماذا لا تفهم الشعر الذي يقال؟
مهما يكن من شيء، فقد كان من حسن حظي أنني اصطحبتُ في رحلتي حمامة زاجلة صنعتُ لها قفصاً من خشب ثبّتُّه على ظهر ناقتي، وكنت كلما استعصتْ عليَّ كلمة من كلمات الشيخ، طيّرتُ الحمامة إلى دار إبن منظور، الواقع على الجانب الآخر من الصحراء، فأروي غلتي من “لسانه”. لم أشأ طوال الرحلة أن أسأل الشيخ عن المعاني حتى لا أثقل عليه. يكفيني أنه أحسن الظن بي ساعة كان يتحدث معي بتلك “اللغة العالية”، الشبيهة بلغة القديسين، فشعرتُ بأن من اللازم عليَّ أن أجتهد، لأكون عند حسن ظنه.
قلت إني أمضيتُ مع الشيخ شهراً أو بعض شهر، وأكلتُ أثماراً شهية من حديقته الغنّاء، وأزكمتُ خياشيمي بأريج ورد جوري، لا أذكر أني شاهدتُ أجمل منه في حياتي. لكن هل تعرف أيها القارئ الكريم كم من الوقت أمضى هذا الشيخ الجليل وهو يتعهد تلك الحديقة، ليقدّم لي ولك تلك الورود الزكية العطرة، وتلك الأثمار الطيبة؟
سبعون سنة وأكثر. كان في العاشرة من عمره عندما أرسله أبواه إلى “الأزهر الشريف” فحفظ القرآن وألفية ابن مالك، وطائفة كبيرة من السير والأحاديث. سبعون سنة وهو يحرث الأرض البور، ويتعهد صغار الزرع كما تتعهد الأم طفلها الرضيع، ويعتني بالأشجار التي التهمنا كل أثمارها في شهر وبعض شهر. سبعون سنة وهو يزرع، وفي شهر وبعض شهر حصدنا نحن الزرع كله. يا للمفارقة!
عاش الشيخ على كفاف يومه، يدرس ويتأمل ويسهر الليالي الطوال، لا شراب أمامه إلا أكواب من الشاي على طبلية من الخشب مستديرة. لم تخلبه المفاتن، وكانت حياته حرة متواضعة أصيلة. كنت كلما رأيت صورته في الصحف جالساً القرفصاء، تذكرتُ شاعرنا المعري وحياته الخشنة المتواضعة، وما حصل له عندما أكل دبساً ذات يوم، فوقع بعضه على صدره، فلما دخل عليه تلاميذه سألوه: هل أكلت دبساً يا معلّمنا؟ فاحمرّت وجنتاه وأجاب: نعم نعم، قاتل الله الشره، وحرم الدبس على نفسه طوال الحياة.
أراك أيها القارئ الكريم قد ارتحتَ لهذا الشيخ الجليل، وتريد الآن أن تسأله عن الدين الذي به يدين. سأخفف عنكَ وأجيبكَ، لأنني سبق وسألته هذا السؤال. كان الوقت ليلاً، وكانت السماء مرصعة بالنجوم، والبدر يتلألأ كصحن من الفضة. أوقف الشيخ ناقته وقال لي: ديني هو الإيمان “بربّ العالمين الرحمن الرحيم”، هو مثل هذه النجوم، يراها البشر أينما ارتحلوا وحلّوا، ومن أيّ درب سلكوا، درب القدس والناصرة، والخليل والجليل، ومكة والمدينة، وكل مكان في هذا العالم.
عندما سألتُه عن جوهر الدين، أخرج من جعبته ورقة خطّ عليها هذه الكلمات: “جوهر الدين في غايته العليا هو الملاءمة والمواءمة بين الديانات جميعها ونبذ الفرقة”. وعندما سألتُه ما إذا كان القرآن يدعو إلى ذلك، فتح المصحف الصغير ودلّني على آية من سورة الشورى تقول: “شرع لكم من الدين ما أوصى به نوحاً، والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا”.
لا أخفيك أيها القارئ العزيز، أنني وجدتُ صعوبة شديدة في قراءة تلك الآية، لأن الوقت كان ليلاً كما بيّنتُ لك آنفاً، وإلى الآن، لا أعرف كيف تمكن الشيخ من فتح ذلك المصحف الصغير، على تلك السورة وعلى تلك الآية، ومن دون جهد يذكر، مع أن عينيه صغيرتان، ويكبرني بنحو أربعين عاماً. لم أعرف السبب إلا عندما يممتُ شطر الهند ذات سنة، وهناك في قرية من تلك البلاد، رأيتُ جمعاً من الناس من كل شكل ولون، قد جلسوا يتفيأون ظل سنديانة عتيقة، فيما كان أحد البراهمة يتحدث إليهم بلغة هادئة متزنة. كنت على عجلة من أمري، فلم أسمع كل ما قاله ذلك الحكيم، لكني أذكر أنني سمعتُه يقول: “من الناس مَن يسمع في الليل اصواتاً لا يسمعها الآخرون، ويرى ما لا يراه الآخرون”، عندها تذكرتُ تلك الواقعة بيني وبين الشيخ، في ذلك الليل الصافي الأديم.

* * *

تقدم الليل ودبّ النعاس في أجفان الشيخ. بسط لحافه ونام قرير العين، فيما بقيتُ أنا يقظاً أفكر في كلامه وريح الجنوب الحارة تلفح وجهي. غلبني النعاس فنمتُ، ثم أفقتُ بعد ساعات مذعوراً. أحسّ الشيخ بحالي فقال لي: ما بالك قد أفقتَ من نومك يا بني؟ أجبتُه بأني رأيتُ مناماً هزّ قلبي هزاً عنيفاً، رأيتُني جالساً على مرتفع من الرمل وندف الثلج تتطاير من حولي، كأنها جوالح القصب أو القطن. بعد هنيهة شاهدتُ من البعيد منظراً ظننتُه رؤوس أشجار النخيل، إلى أن أدركتُ بعدها أنها لم تكن إلا هوادي الخيل وأطراف الرماح. كان المشهد مهولاً. قافلة من رجال على الخيول يرفعون رايات سوداء، وأسنّة على رؤوسها رؤوس بشرية، يتقاطر منها دم أحمر قاتم. لم أستطع أن أتبيّن وجوه الخيالة. كانت ملفوفة بغترات سوداء، وعلى يمين القافلة سبايا تلفحت كل واحدة منهن بنقاب أسود.

غريبٌ أمري مع الشيخ، لأنه ما إن سمع كلمتي الأخيرة حتى سألني: “هل كان في حوزتهم مصاحف؟”. قلت: “كانوا يحملون كتباً يصعب عليَّ القطع بأنها كانت مصاحف”. ثم عاد وسألني “هل كانوا يحملون رايات عليها عبارة الله أكبر، أو شيئاً من هذا القبيل”؟ هالني سؤاله فقلت “نعم، رأيت رايات كتبت عليها عبارة لا إله إلا الله محمد رسول الله”.
سكت الشيخ سكوتاً رهيباً، وأخذ يتمتم بكلمات لم أستطع أن أتبيّن منها حرفاً واحداَ. مرت دقائق خلتها ساعات، ثم رأيته يسحب من جعبته قلماً وورقة وبدأ يكتب مع طلوع الفجر. عندما أنهى الكتابة طوى الورقة ودسّها في جيب جلبابي، ثم قال لي بصوت مبحوح تكاد زفرات الموت تخنقه: “سنتابع الرحلة يا بني وأمرنا إلى الله، لكن أطلب إليك الاّ تفتح هذه الورقة إلا بعد عشرين عاماً من رحيلي عن هذه الأرض”.

* * *

أظنّكَ تريد أن تعرف أيها القارئ الكريم ما كتب الشيخ في تلك الورقة، أليس كذلك؟ كنت أريد أن أفصح عن هذا السر، بعد أن تنهي رحلتكَ مع الشيخ، فتسمع كل ما قال لسانه وخطّ يراعه، لكن لا بأس. سأقرأ لكَ ما كتب، لأن عشرين عاماً قد مرّت على تلك الرحلة، وعلى ذلك العهد الذي قطعته للشيخ ولنفسي.

كتب الشيخ ما يأتي: “عشتُ حياتي كلها أحمل قنديلاً أين منه قنديل ديوجين. آمنتُ بالإسلام رسالة محبة وغفران وتسامح، وعملتُ بكتاب لا عصبية فيه ولا تفرقة ولا شيعاً ولا مذاهب، ولا حبل فيه إلا حبل الله الجامع المانع. آمنتُ بأن الناس، كل الناس في هذا العالم، أخوة لي في الإنسانية، الكريم منهم هو التقي الذي يخاف الله ولا يفتك بعباده، بقطع النظر عن الطريق التي يسلكها في التعبد، لأن الله لو شاء لجعلنا كلنا أمة واحدة. في الأزهر الشريف رأيتُ أن لكل شيخ طريقة، ثم علّمتني الحياة أن الأعمال بالنيات، ولكل أمرئ ما نوى، وأن المهم أن يعترف كل منا بالآخر، لأن هذا هو السبيل الوحيد للتواصل السمح.
“أيّدتُ الزواج المختلط بين المسلمين وأهل الكتاب، لأن المسألة كانت تتصل من بعض جوانبها بما هو حيوي وتعايشي، ولأنها، أي المسألة، وإن تك فقهية، تؤول بدورها إلى مشكلة وطنية، أو قل هي عقبة دون التآخي الوطني الأكمل. لم أسعَ إلى مجتمع مدني، لأن هذا في الإسلام من تحصيل الحاصل، ولأن الزواج في الإسلام عقد مدني من أساسه. لم أمهّد السبيل إلى العلمانية، الحلاّنية كما سمّيتُها، لأن هذا أيضاً من تحصيل الحاصل، فالإسلام لا يعرف الطبقات، ولا يعترف بكهنوتية إكليريكية، والآية الكريمة في هذا الباب واضحة: “قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله”.
هذا ما كتب الشيخ في الورقة التي دسّها في جيب جلبابي. أما الآن، فقد حان وقت الفراق بيني وبينكَ أيها القارئ الكريم، وأخالكَ تريد أن تتابع رحلتكَ مع الشيخ إلى “الديار المقدسة”، وأخالكَ تريد أن تعرف من الآن، كيف اتفق أن الشيخ سألني ما إذا كان الخيالة المحاربون الذين رأيتهم في منامي يحملون رايات سوداء، عليها آيات من القرآن. الحقّ الحقّ أقول لك أني لم أسأله عن ذلك، ولا أظن أنه كان سيجيبني لو سألته هذا السؤال على أيّ حال، لأني، كما قلت، لم أسمع حرفاً واحداً من الكلمات كان يتهامس بها بينه وبين نفسه. أعتقد بأنها ربما كانت سراً من تلك الأسرار التي يأخذها الحكماء معهم إلى القبور، وتبقى أسيرة التراب إلى الأبد.