بطاقة معايدة وليد جنبلاط

د.ناصر زيدان (الأنباء الكويتية)

تحمل بطاقة المعايدة التي ارسلها رئيس اللقاء الديمقراطي النيابي وليد جنبلاط هذا العام بمناسبة عيدي الميلاد ورأس السنة، أكثر من معنى. وربما قصد من الصورة التي ظهرت على البطاقة تأكيد مجموعة من الثوابت، والايحاء إلى أكثر من هدف، ذلك أن مروحة الاشخاص الذين تصلهم البطاقة واسعة، وهي تشمُل مُعظم القيادات السياسية في البلاد، من رؤساء ووزراء ونواب، حاليون وسابقون، ورؤساء أحزاب وفعاليات إقتصادية وإجتماعية وثقافية وإعلامية، وسفراء وقيادات جامعية وعسكرية وقضائية وإدارية وبلدية. ولعلَّ الابرز من بين الذين تصلهم البطاقة هم رؤساء الطوائف الدينية الإسلامية والمسيحية، ورجال الكنيسة من مُختلف المذاهب على تنوعهم وتعدُدهم.

تحمل البطاقة الجنبلاطية صورة كنيسة بناها الشيخ بشير جنبلاط (من أبرز قادة الأسرة الجنبلاطية) في العام 1820م، على أرض يملكها في بلدته الجبلية المختارة، ليتمكن زواره من آل الخازن “الموارنة” من القيام بواجباتهم الدينية أثناء اقامتهم في البلدة، وعادةً ما كانت تستمر إقامتهم فترات طويلة. وفي المختارة لم يَكُن يوجد كنيسة للموارنة، بل كان هناك كنيسة لقسم من أبناء البلدة المسيحيين من الروم الملكيين الكاثوليك، وتختلف طقوس كل من المذهبين الكاثوليكيين في بعض الشكليات الطفيفة.

العلاقة بين آل جنبلاط زعماء المُسلمين الموحدين الدروز وآل الخازن زعماء كسروان والفتوح الموارنة، كانت مُتقدمة، ومُترسِخة، وقادة العائلتين، يشهدون على وصايا بعضهم البعض، بل، ويتناقل القدماء، وبعض المؤرخين، معلومات تُشير إلى أن إحدى العائلتين يمكن أن ترِث الأُخرى، فيما لو تعرَّضت إحداها للإنقراض، وهذا مُستبعد، لأن للعائلتين الكثير من الأبناء. والشيخ بشير جنبلاط أعاد بنفوذه الواسع عند الأمير بشير الشهابي الشيخ بشارة جفال الخازن إلى حكم منطقة كسروان بكاملها في العام 1808م، وآل الخازن وقفوا إلى جانب الشيخ بشير جنبلاط عندما إختلف مع الأمير بشير الشهابي عام 1825.

 يمكن إدراج مجموعة المعاني الرمزية التي تحملها الصورة التي التقطها للكنيسة السيدة نورا زوجة النائب جنبلاط في السياق السياسي العام الذي تمرُّ بها المنطقة، ولبنان على وجه التحديد، وتحملُ البطاقة رسائل تذكيرية، قد لا تتمكن الخطابات السياسية، والتصاريح من إيصالها:

أولاً: قبل الاضطراب الهائل الذي حصل في العام 1825 بين الأمير بشير والشيخ بشير – وأدى إلى إعدام الأخير بتحريض من محمد علي باشا حاكم مصر، ووالي عكا العثماني عبدالله باشا – لم يكُن في لبنان صراع طائفي. كان الصراع سياسي، والانقسام سياسي، وأدت التدخلات الأجنبية، لا سيما الفرنسية، إلى أحداث طائفية حصلت فيما بعد، خصوصاً في العام 1841 والعام 1860. وكانت في مُعظمها حرباً أهلية، بالنيابة عن قناصل الدول الكبرى الذين أفسدوا في تدخلاتهم الحياة المُشتركة التي كانت قائمة بين اللبنانيين.

ثانياً: بناء الكنائس في أماكن ذات غالبية سُكانية إسلامية، أو بناء جوامع في أماكن ذات أغلبية سكانية مسيحية، كان مسألة طبيعية، وبسيطة، ولا تحمل اي مؤشرات على النفور، أو الإعتراض، بل العكس، كان يوجد ما يُشبه التقليد في القرى اللبنانية، فيتبرَّع المسلمون بقطعة أرض لبناء كنيسة، ويتبرَّع المسيحيون بقطعة أرض بالمُقابل، لبناء خلوة، أو جامع.

ثالثاً: ربما أراد جنبلاط من خلال بطاقة المُعايدة هذا العام، تذكير بعض المسؤولين، لا سيما في البلديات الكُبرى، بضرورة المُحافظة على التراث المعماري القديم الذي يتميَّز به لبنان. وهذا التراث يتعرَّض للتدمير في بعض المناطق، وعلى وجه التحديد في وسط بيروت، من اجل بناء مجمعات سكنية إسمنتية شاهقة، فكنيسة المختارة المارونية، التي يُقارب عمرها 200 سنة، ما زالت في أبهى حلتها المعمارية القابلة للحياة.

في لحظة التوتر الهائلة في المنطقة، وفي ظلِّ حروب عبثية في سوريا والعراق تُهدد مُستقبل المسيحيين والأقليات الأُخرى، يبدو أن جنبلاط إستخدم صورة الكنيسة وبمناسبة عيدي الميلاد ورأس السنة، للتأكيد على أهمية الحفاظ على الوجود المسيحي في لبنان والمنطقة، مُتلاقياً مع النداء الذي أطلقه مؤتمر القاهرة لمواجهة التطرف الديني، الذي إنعقد بدعوة من الأزهر الشريف في 3و4 من ديسمبر الحالي، والذي ناشد المسيحيين عدم الهجرة، والتشبُّث بأرضهم اكثر من اي وقتٍ مضى.

المُعايدة الجنبلاطية لها رمزيتها في هذه الظروف الصعبة التي يمرُّ بها لبنان، لأن الموقع المسيحي الأول في الدولة – اي رئاسة الجمهورية – شاغر منذ ما يُقارب 6 اشهُر، من جراء فشل مجلس النواب المُمددة ولايته في انتخاب رئيسٍ جديد.

كما أن المبادرة التذكيرية من جنبلاط قد تُساهم في إنعاش قيَم التقاليد اللبنانية والعربية التي تحمل معاني التسامح الديني، والانفتاح الثقافي، بعيداً عن مقاربات التعصُّب الدخيلة، والتي لا تُشبه الأصالة العربية بشيء.

اقرأ أيضاً بقلم د.ناصر زيدان (الأنباء الكويتية)

الشراكة السياسية المهددة

عن لبنان النظيف

زيارة الحريري الى واشنطن.. ما لها وما عليها

جنبلاط في الفاتيكان: المرحلة ليست عادية

مواد مُتفلِّتة في الدستور اللبناني تُربك عمل المؤسسات

قرار رئاسي دستوري، ولكنه مُخيف

بعض ما لم يُقل عن لقاء المختارة

النسبية وبرنامج الحركة الوطنية

عون وجنبلاط والتفهُّم والتفاهُم

اولى قرارات الحكومة لا تشبه البيان الوزراي

حزب الله والواقعية السياسية

لبنان والرياح التأسيسية واللقآت النادرة

مُشكلة السجون اللبنانية وابعادها الامنية والسياسية

لبنان أمام مرحلة من الاختناق السياسي والإقتصادي

محاكمة سماحة: خبرٌ عادي لإعترافات غير عادية

نيسان 1975 ونيسان 2015!

عن الصحافة اللبنانية ونقابتها

حول المؤتمر الـ 13 لحركة أمل

تسريبات غير صحيحة حول الملف الرئاسي

لبنان لا يتحمَّل تجاذبات حول الملفات العسكرية