عبدالله العلايلي الشيخ الإصلاحي الذي لا يموت

هشام يحيى*

بعد مرور 10 سنوات على وفاة العلاّمة والمفكر العربي الشيخ عبدالله العلايلي تبقى ذكراه وأثاره حاضرة مضيئة في عالمنا الحاضر الذي يحتاج كثيرا إلى علماء ورجال دين أمثال الشيخ  عبدالله العلايلي الذي خرج بعلمه واجتهاده وفقهه من بوتقة القوالب المجمدة المحنطة والشعارات الجافة الفارغة  إلى رحاب الإنفتاح العقلاني المتجدد الذي سيبقى منارة تضيء بإشعاعها المتنور درب الساعين و الباحثين المناضلين دائما وأبدا من أجل الحقيقة والسعادة في هذا الوجود.

شيخ اللغة العربية

وكيف للموت أن يطوي صفحة الشيخ عبدالله العلايلي وهو الذي تجلى بإبداعات اللغة و الكتابة والأفكار التي أخرجها جميعها من نمطية الجمود والتقليد إلى مساحات التغيير والتجدد كي تنمو وتبقى وتستمر لأن اللغة والكتابة والأفكار التي تعبر عن حاجة الناس وعواطفهم وأحاسيسهم ومشاعرهم وحاجاتهم وتطلعاتهم لا يمكن أن تموت لأنها تتحرك وفق ثبات  قانون غاية الحياة  لا سببية الأحداث الآنية العابرة.

وما أحوج العروبة  بإنسانيتها وتقدميتها إلى اطلاع جيل الشباب العربي على أرث العلامة الشيخ العلايلي من خلال قراءة مؤلفاته باللغة العربية لينزعوا عن أفكارهم غشاوة الأوهام التي تضلل وتزعزع ثقافتهم و هويتهم العربية التي ترتكز بشكل أساسي على اللغة العربية التي للأسف هناك الكثيرين من الشبان العرب الذين عن جهل وضيق أفق في المعرفة والحضارة باتوا يستسهلون التعالي وحتى التخلي عن اللغة العربية التي عشقها حتى القداسة الشيخ عبدالله العلايلي الذي انطلق  من قول ديكارت “أنا أفكر إذاً أنا موجود” ليقول  “أنا أفكر بفكر عربي، فإذاً أنا موجود عربي”.

الشيخ السياسي

وقد سبق الشيخ عبد الله العلايلي الكثير من المفكرين بنظرته المنفتحة لمسألة انخراط رجل الدين في الأطر والتظيمات السياسية الحديثة البعيدة عن جمود وتقوقع رجل الدين في برجه العاجي البعيد عن آليات التفاعل مع حراك تطور العمل السياسي والإجتماعي الذي يمكن بتطوره أن يخدم المجتمع والإنسان على نحو أفضل… وضمن هذه النظرة الثاقبة المتحضرة التي تضع دائما خدمة الإنسان في المرتبة الأعلى والأسمى في أهداف كل نشاط وحراك وعمل، آمن الشيخ عبد الله بفكرة الحزب السياسي، على انه سبيل من سبل النهضة الواعية. وقد جاهد طوال سنوات في مناصرة وتأسيس بعض اعرق الاحزاب اللبنانية. فقد شارك في تأسيس عصبة العمل القومي، بعيد عودته من مصر. وشارك في 17 اذار “مارس” 1949، في تأسيس الحزب التقدمي الاشتراكي، الى جانب كمال جنبلاط واطلع على افكار “حركة انصار السلم” ذات الاصول الماركسية ومن هنا اتهم بالشيوعية، ولقب بـ”الشيخ الاحمر”.

وكان العلايلي قد طالع مذهب داروين في النشوء والترقي، ومؤلفات “غوستاف لوبون” خصوصا كتابه “روح الاشتراكية”، وتابع ما كتبه “ماركس” و “انجلز”. فوجد نقاطا مشتركة بين ما يؤمن به وبين ما تدعو اليه الماركسية من عدالة اجتماعية، من دون ان يتورط في تبني الدعوة الى المادية الالحادية. وعندما تعثر مشروع “المعجم” بسبب تقصير الدولة اللبنانية في مده بوسائل الحياة، رفض التوجه الى الاتحاد السوفياتي على الرغم من الاغراء الشديد.وقد ناصر العلايلي سائر الاحزاب اللبنانية، ومنها الكتائب والنجادة، ووقف خطيبا في مهرجاناتهم.

ودعا تكراراً الى دمج الكتائب والنجادة، ودمج الكتائب والحزب التقدمي الاشتراكي، لان في ذلك مصلحة الوطن. كما ناصر حزب النداء القومي، وكتلة التحرر الوطني، والحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب الشيوعي. ومن الملاحظ ان الاربعينيات والخمسينيات كانت حافلة بالنشاط الحزبي، تأسيساً ومشاركة.ومع ذلك كله، لم يبق العلايلي عضواً في أي حزب، ولم تستمر مشاركته في الحزب التقدمي الاشتراكي سوي سنة ونصف السنة، لأن اسلوب العلايلي لم يكن ليتطابق مع العمل الحزبي الضيق.

الشيخ المعاصر المتجدد

وتزداد الحاجة إلى استحضار فكر ونهج الشيخ العلايلي في زمن التطرف والأصوليات التي تكفر وتقتل وتسبي وتهجر بإسم الدين، لأن أهمية الشيخ العلايلي لا تقتصر فقط على ابداعاته في الصناعة اللغوية والكتابة بل أيضا في كونه علامة بارز في الإصلاح الديني خصوصا أن الدين في هذا العصر يعيش في  أسوأ حالاته من ناحية إضفاء الطابع الرجعي والمتخلف عليه بفعل ارتكابات وأفعال بعض من يتلبسون لباس الدين زورا وبهتنانا غير الإنسانية وغير الأخلاقية و التي تؤشر في مكان ما وكأن الدين الذي ولد منذ قرون طويلة قد أصبح عاجز عن التطور ولم يعد يصلح لإدراة وضبط المجتمع  بعد أن أصبح سببا رئيسياً  لإطلاق العصبيات والتوترات وزرع  بذور الفتن  والحروب على اطلاقها، وبعد أن أصبح أيضا  عائقا اساسيا في وجه احترام حقوق الإنسان بحريته وكرامته وتعدده وتنوعه الحضاري.

بناء على كل ذلك، وكي لا تصبح هذه الصورة القاتمة عن الدين مسألة ثاتبة مسلم بها في المجتمع الإنساني الحديث هناك ضرورة ملحة للعودة إلى  تجربة الشيخ العلايلي الذي  نجح من خلال اجتهاداته الفقهية من اسقاط الكثير من قشور التخلف التي نمت بفعل الجهل فوق جوهر الدين الحقيقي الذي وجد في الأساس رحمة للناس لا نقمة وتعاسة لهم.

وضمن هذا السياق كان للشيخ العلايلي أراء متقدمة في مسألة العقوبات الجسدية والزواج المختلط. ففي المسألة الأولى، رأى أن الحدود، مثل قطع يد السارق ورجم الزاني وسواها، ليست مقصودة لذاتها بل لغاياتها. واستنتج من قراءة الأحاديث والآيات المعنية، أن من الضروري “إقامة مطلق الرادع مقام الحد عينه، إلا في حال الإصرار، أي المعاودة تكراراً وتكراراً”. والأرجح أن إحدى أبرز مشاكل الدين الإسلامي في العصر الحديث هي مسألة العقوبات الجسدية التي تتبناها التنظيمات المتطرفة، وحتى بعض الدول المنغلقة المحكومة بالملالي والمطاوعة.

وفي المسألة الثانية (أي الزواج المختلط)، اعتبر العلايلي أن الآية القرآنية تحرِّم زواج المسلمة من المشرك، وليس من الكتابي، فأجاز هذا الزواج، مخالفاً بذلك الإجماع الفقهي. وهو رأى “أن الإجماع في هذه المسألة، من نوع الإجماع المتأخر الذي لا ينهض كحجة إلا إذا استند إلى دليل قطعي”، وهو ما لم يحصل، بحسب رأيه.

كما تشمل اجتهادات الشيخ  العلايلي الكثير من الآراء التي تحاول أن تواكب التحديات المعاصرة في ميادين عملية عدة ومفاهيم نظرية: مفهوم الثروة، الرؤية العلمية للقمر الرمضاني، الربا، توزيع الأضاحي، الصورة، والسينما. كان قد نشر هذه القضايا في كتابه “أين الخطأ”؟ الذي صدر في طبعته الأولى العام 1978، واضطر تحت الضغط إلى سحبه من التداول وأعيدت طباعته العام 1992. والمفارقة والغريب أن إصلاحات العلايلي بقيت في الهامش ولم يسعَ دعاة ما يُسمى “الاعتدال الديني” إلى تبنيها أو ترويجها. وهذا ما لاحظه الباحث اللبناني وجيه كوثراني إذ اعتبر أن آراء العلايلي التجديدية في مجال الفقه لم تحظ بالاهتمام الكافي ولم تشع كما شاعت اجتهاداته اللغوية لأسباب متعددة ومن مواقع مختلفة: “من موقع التقليديين والمحافظين الذين سخطوا على الشيخ وحاصروا فكره الفقهي وحاربوه، وربما من موقع الحداثيين الذين لم ينتبهوا في غضون الستينيات والسبعينيات”.

نبذة

ولد العلايلي في بيروت في عائلة متوسطة تشتغل في التجارة. أمضى نشأته الأولى في كتاتيب بيروت والتحق بمدرسة الحرج التي أسستها جمعية المقاصد الإسلامية حيث تلقى مبادئ القراءة والعلوم حتى العام 1924، تاريخ انتقاله إلى الأزهر في القاهرة حيث تابع دروسه إلى حين تخرجه العام 1936.
انتسب إلى كلية الحقوق في القاهرة، لكنه اضطر إلى قطع دراسته والعودة إلى بيروت بسبب نشوب الحرب العالمية الثانية. تسلَّم بعد عودته مهمة التدريس في الجامع العمري الكبير في بيروت واستمر فيه سنوات ثلاث يخطب في المصلين داعياً إلى نبذ الطائفية والانتفاضة ضد الانتداب الفرنسي.
كان العلايلي قد أصدر حتى ذلك التاريخ أربعة كتب عكست آراءه آنذاك: الأول “مقدمة لدرس لغة العرب” (القاهرة 1938)، “سورية الضحية” وفيه هاجم معاهدة 1936 مع الفرنسيين، “فلسطين الدامية”، و”إني أتهم” حيث هاجم التفكك الطائفي الذي استشرى في المجتمع اللبناني.
في السياسية، كان العلايلي حاضراً أيضاً، ففي العام 1940 شارك في تأسيس “كتلة التحرر الوطني” التي ترأسها عبدالحميد كرامي، وعندما رأى أنه، وكل من الراحل كمال جنبلاط والدكتور جورج حنا، تجمعهم أفكار واحدة، اقتنعوا بتكوين نواة لحزب دائم، فكان “الحزب التقدمي الاشتراكي” العام 1949، وبقي العلايلي فيه لغاية العام 1954، حيث ارتأى إيقاف نشاطه الحزبي والانصراف إلى العمل على “المعجم”.

أبرز آثاره

– “مقدمة لدرس لغة العرب”، “مدخل إلى التفسير”، مجلدان.
– “ورية الضحية”. “فلسطين الدامية”، “سمو المعنى في سمو الذات، أو أشعة من حياة الحسين”.
– سلسلة “إني أتهم”، سبعة أجزاء من بينها: “من المسؤول؟”، “الحياة تصور وإرادة”، “الحزب بوتقة تصنع الأمة”، “منطق الجماعة”، إلخ.
– “تاريخ الحسين: نقد وتحليل”.
– “دستور العرب القومي”.
– “السكون والفساد الاجتماعيان”، “رحلة إلى الخلد” منظومة خيالية تقع في ألف وخمسمئة بيت، ترجم بعضها إلى الفرنسية المستشرق الكبير درمنغهام.
– “المعري ذلك المجهول”.
– “الساحر: سيرة في قصة “.
– “أيام الحسين: مشاهد وقصص”.
– “مثلهن الأعلى أو السيدة خديجة”، “الفرق بين الأسلوب والتركيب – دراسة نقدية”.
– “شهيد القسطل أو عبدالقادر الحسيني”.
– “المعجم الكبير” صدرت منه أربعة أقسام من المجلد الأول.
– “العرب في المفترق الخطر- بحث نظري في أسلوب العمل العربي”.
– “المرجع- المعجم الوسيط”.

_________________

(*) خاص: جريدة الأنباء