هاني فحص… داعية حوار يحذر من خطر الطائفية على الدولة والمجتمع

خالد غزال (الحياة)

قبل أشهر قليلة توفي رجل الدين السيد هاني فحص. كشفت موته وما تبعه من احتفالات تكريمية في معظم المناطق اللبنانية ولدى مجمل الطوائف، كم أن هذا الرجل المتنور التحديثي المناهض للطائفية والمذهبية، يشكل رحيله خسارة وطنية لبنانية وعربية في زمن الانهيارات وفلتان النزعات الطائفية وتحولها حروباً داخلية. ترك هاني فحص إرثاً للأجيال المقبلة، وأعطى في حياته ومسار نشاطه أمثولة صفعت قادة كثيرين عندما رفض توظيف الدين في الصراعات السياسية والطائفية واستخدامه شماعة تعلق عليها أحزاب مواقفها، ورفض الزعم «بالنطق بإرادة الله» وادعاء تحقيق إرادته في حيز السياسة. من مظاهر التكريم بعد رحيله، إصدار «منشورات صوت لبنان» أحاديث قدمها في الإذاعة ضمن فقرة «على مسؤوليتي» في عامي 2013 و2014، وهي تضم حوالى 130 حديثاً، تناول فيها شؤوناً دينية ودنيوية وسياسية بصراحة كاملة، ومن دون أي تدوير للزوايا. يمكن في هذا المجال اختيار بعض العناوين التي تحدث فيها السيد، وهي بالتأكيد لا تشمل المواضيع كلها التي غاص في بحرها.

– في التسوية التاريخية

كان هاني فحص مدركاً أخطار تواصل الحروب الداخلية في لبنان وتحولها إلى نزاعات طائفية ومذهبية، والخوف من انتصار طرف على آخر. لذا، رأى أن التسوية بين الأطراف المتنازعة، وبالتنازل المشترك في ما بينها، هي الشرط الضروري لمنع العصبيات الطائفية من ابتلاع الوطن. يصرخ قائلاً: «نريد تسوية من أجل إعادة بناء الدولة، نريد تسوية لنعيش تحت سقف الدولة، دولة الأفراد، لا دولة الطوائف، دولة القانون، لا دولة أخذ الحق أو ما يدعى أنه حق باليد». نبع موقفه التسووي من معايشته الحروب اللبنانية المتنقلة، الساخنة والباردة، إذ شاهد بأم العين معنى أن ترفض فئة الاعتراف بالأخرى، وأن تسود الوحدانية مكان التعدد والاختلاف، ومعنى أن يتوقف الحوار بين القوى والمكونات الاجتماعية لتسود مكانها لغة السلاح، وهو ما تجلى في قوله إننا نحن اللبنانيين قد أسقطنا دولتنا ووطننا وعمراننا على رؤوسنا عندما نحينا الحوار جانباً. لم يكن من قبيل الصدفة أن ينسب إلى هاني فحص في كل ما قيل عنه أنه رجل الحوار أولاً وأخيراً، بين اللبنانيين إلى أي طائفة انتسبوا، وبين أبناء الطوائف نفسها ومع الآخر، فالحوار في نظره هو «اكتشاف الذات في الآخر، ومعاونة الآخر على اكتشاف ذاته من دون إلغاء أي خصوصية».

– في الدولة المدنية

متوافقاً مع قناعاته في ضرورة عدم استخدام الدين وتوظيفه في السياسة، والتزاماً بموقف يرى أن النظام الطائفي في لبنان هو مصدر النزاعات الأهلية والحروب الداخلية واللامساواة الاجتماعية، أشهر هاني فحص موقفاً صريحاً وجازماً في ضرورة الدولة المدنية جواباً وطريقاً للخلاص. كان يعرف أنه يقف في وجه السائد لدى المؤسسات الدينية التي ترى في النظام الطائفي وتوظيف الدين مركز نفوذ وقوة ومصدر هيمنة على الشعب. يرفع صوته قائلاً: «أما الدولة المدنية فما زالت هي الحل، حتى لو تأخرنا قروناً. وأنا كرجل دين أريد الدولة المدنية من أجل الدين والمدنية معاً، ومن أجل الدنيا والآخرة. وإذا بقيت فكرة الدولة مسكونة بالرغبة في إنتاج الدين الرسمي، وبقي الدين مشغولاً بإنتاج الدولة، فلن تكون النتيجة إلا خراباً في الدين والدولة، وضد مصالح أهل الدين، بصرف النظر عن انتمائهم الفرعي». دفعه موقفه من الدولة المدنية إلى الدعوة لإنتاج «علمانيتنا التي تمر بالإسلام والمسيحية والعروبة والذاكرة والثقافة الجامعة والتي تشكل الكيان والميثاق». يستعين هاني فحص بما أنتجه بعض الفكر الديني حول الخلط بين الدين والدولة وما يسببه من أخطار، وإن الحاجة ماسة إلى تحرير الدين من الدولة والسياسة، وتحرير السياسة والدولة من الدين، للوصول إلى دولة مدنية تحترم الدين ويحترمها، له اختصاصه ولها اختصاصها، «وهذا لا يمنع الدين، بل يوجب عليه أن يكون رقيباً أخلاقياً على الدولة، والدولة المدنية هي الضمان لتوازن النشاط الديني بين الدين والسياسة».

– في الطائفية

يقول هاني فحص: «الحديث عن الطائفية في لبنان، كما في بلاد العرب والمسلمين، هو أيضاً حديث عن الدولة التي لم تأتِ إلا ناقصة، وتم تفريغها من كل معانيها ووظائفها لمصلحة السلطة بمعناها الانفصالي والإلغائي، ولمصلحة السلاطين الذين لم يجدوا حرجاً في اتخاذ المال العام منهبة، والوطن مزرعة، والمواطنين خدماً، حتى عزّت الحرية حيث عزّ الخبز، أو عز الخبز حيث عزّت الحرية». يعتبر الخلافات السياسية والصراعات التي بدأت تتخذ طابعاً طائفياً، في لبنان وفي العالم العربي، إنذاراً، إذا لم يجر تجنبه أو الحد من غلوائه، فسيتحول إلى النار في الهشيم ويطيح الدول العربية ومجتمعاتها على السواء. يحمّل القيادات السياسية مسؤولية رئيسية عن الاحتقان الطائفي واستخدام غرائزه في تحشيد الجموع حولهم، لكنه لا يبرئ القيادات الروحية من مسؤولية هذا الاحتقان. من موقعه كرجل دين يرى أن «القيادات الروحية في مؤسساتها العليا ومواقعها الراعية للنظام العلائقي والأفكار والقيم بين مكونات الاجتماع الوطني، مدعوة إلى الاعتبار مما حدث قبل الحرب اللبنانية الطويلة وأثناءها… إن القيادات الروحية التي لنا الحق في دعوتها إلى المبادرة هي القيادات التي تتطلع إلى السياسة من موقع الإيمان والتقوى والشعور بالمسؤولية أمام الله والتاريخ، ولا تبدل مواقعها بهدف أن تطل على الدين من موقع السياسة فقط». وما يقلق السيد أن الطائفية في لبنان بدأت تعبر عن نفسها بعصبيات مذهبية، بحيث بات كل فرد ملزماً العودة إلى «قطيعه»، بحيث ينكفئ الشيعي إلى شيعيّته والسنّي إلى سنيته، ويستعيد كل واحد الصراع المذهبي السنّي – الشيعي الذي لا تزال ناره متأججة على رغم مرور خمسة عشر قرناً على اندلاعه، ما يعني أن الطوائف لا تستطيع أن تحيا وتزدهر، إلا بالإقامة في الماضي واستحضاره ورفع راية العداء وسيلة للهيمنة على أبنائها.

– في الانتفاضة السورية

استبشر هاني فحص خيراً في الانتفاضة السورية، وكان يرى أن الربيع العربي ينتظر سورية لأنها بلد التعدد الحقيقي، «فإن نجحت سورية في حماية هذا التعدد، قدمت الدرس والأمثولة، وجعلت مشكلة التعدد في الدول الأخرى أسهل حلاً وأكثر يسراً، وإن قصرت أو فشلت، ولم تستطع أن تدير اختلافها على أساس الحوار والسلام والعيش المشترك في ظل الديموقراطية والحرية، فإنها ستقنع أطراف التعدد السوري والعربي بأن الاستبداد هو أقدر على الجمع أو أقدر على منع الفتنة، ولو بالقمع والقتل والتجويع والإذعان». لكن مجريات الانتفاضة السورية وتحويلها من النظام حرباً أهلية نغّص على السيد وغيره الآمال التي علقت عليها، وهذه الحرب الأهلية التي باتت واقعاً هي أكبر الجرائم بحق سورية والشعب السوري، حيث نجح النظام في تحويل الآمال إلى كوابيس من خلال ممارساته العنفية وعبر اللعب على التناقضات الطائفية، وكذلك من خلال استحضار المجموعات الإرهابية التي أطلق بعضها من سجونه ووظفها في قتال المعارضة. لا يبرئ هاني فحص النظام الإيراني من تحويل الانتفاضة إلى حرب أهلية من خلال تدخله في الحرب الدائرة وتغليبه الانحياز إلى النظام وتبرير جرائمه، ولكن، يبقى الأخطر الدور الإيراني في استحضار النزاعات المذهبية وتأجيج نارها وتحويل الانتفاضة إلى صراع طائفي مذهبي بين السنّة والشيعة، ولا يبرّئ هاني فحص الأميركيين من إطالة أمد الصراع وتدمير سورية جيشاً وشعباً وأرضاً، حتى لا تعود سورية قادرة على أن تشكل قوة يمكنها أن تهدد أمن إسرائيل إذا نجحت الانتفاضة وأتى نظام وطني مكان النظام الحالي.

– في الحضور المسيحي

كان هاني فحص رجل الحوار الإسلامي – المسيحي بامتياز، وكان يتمتع بتأييد لمواقفه في الأوساط المسيحية في شكل كبير، ولعل مظاهر التكريم بعد وفاته من الطوائف المسيحية خير دليل على ما كان يتمتع به من محبة. كان داعية شراكة إسلامية – مسيحية في حمل الإرشاد الرسولي حيث يصرّح «إني على اقتناع بأن الإرشاد شأني كمسلم أولاً وثانياً. وربما هو شأني الأول، لأن الحضور المسيحي والشراكة معه هي ضمانتي كمواطن مسلم، شيعي أو سنّي، أو كمسلم مواطن، وهو ضمانتي المعرفية في معرفتي لذاتي المشروطة بمعرفة الآخر، وهو ضمانتي الوجودية أي سلامة وجودي وكمالاته». من موقعه كمسلم كان يتفهم ما ورد في «الإرشاد» من قلق على الوجود المسيحي، وكان يرى في أي تهجير للمسيحيين مصدر خطر على الوجود الإسلامي والتعايش بين الأديان. هاله ما كان يرى في أواخر أيامه من إرهاب باسم الإسلام يسلط سيوفه ضد المسيحيين في العراق وسورية، مشدداً على أن هذا الإرهاب يفرض على المسلمين وعي أخطاره على وجودهم نفسه.

– عن الشيعة والشيعية السياسية

ينظر هاني فحص إلى موقع الطائفة الشيعية ودورها، سواء في الداخل اللبناني أو من خلال التدخل في الحرب السورية، بحذر وقلق. يشير إلى أن «حال الشيعة إلى مزيد من التماسك الذي يدخر أخطاراً عظمى. لذلك، أنا لا أمتدحه، بل أنبه الشيعة إلى عدم ترتيب أثار وهمية عليه. فهم يتماسكون ويتعاظم تماسكهم لا على أساس إيجابي، أي ليس على مشروع أو أطروحة بل على السلب، أي ضد الآخر الذي لا تعوزه مظاهر القوة، وإن كانت غير كافية وغير مضمونة أو نهائية». يحمّل المؤسسات الدينية ورجال السياسة مسؤولية استحضار العداوات القديمة وشحن الشيعة بالعداوات ضد السنّة وتأجيج نار الكره عبر التحريض الكلامي أو عبر السيطرة بالسلاح واستخدامه في النزاعات. ينظر بقلق أيضاً إلى تهميش القوى السياسية والمدنية من أبناء الطائفة الشيعية، والتي لا تماشي مقولات الشيعية السياسية والأدوار الانتحارية التي ترمي الطائفة في أتونها. يتخذ موقفاً معبّرا في شأن «عاشوراء» التي باتت اليوم مناسبة لاستعادة الأحقاد والتحريض الطائفي والمذهبي، فيرفض أن تكون «عاشوراء» للشيعة وحدهم. يستعيد كلاماً للشيخ محمد مهدي شمس الدين يقول فيه: «منذ العصر البويهي، أعطيت هذه الذكرى – ولدواعٍ طائفية محضة – مضموناً شيعياً، وكان ذلك تزويراً حقيراً وإجرامياً بحق هذه الذكرى وتزويراً للتاريخ واستغلالاً. سرقوا الذكرى وأعطوها مفهومها الطائفي على حساب جوانبها الإسلامية. والشيعة مخطئون في فهمهم هذه الذكرى على أنها ذكراهم. وحكم يزيد لم يعارضه الشيعة وحدهم».

ترجّل هاني فحص باكراً، لكن ما تركه من مواقف ومن تراث سيظل عـــلامة فــارقة في تاريخ الرجل، كما سيظل رمزاً للتنوير وللتحديث في الإسلام المعاصر.