الأمن الغذائي مصيري… كذلك الأمن البيئي

محمود الاحمدية

منذ يومين وأثناء قيادتي السيارة من بيروت إلى صوفر… وخلال رحلة لا تزيد عن النصف الساعة، تراءت لي يسارًا ويمينًا المناظر التي تُثبت تدمير الإنسان لطبيعة وطنه ابتداءً من حيتان المال إلى أغلبية الناس… سلسلة مظالم يدفع ثمنها أخضر بلادي… تلال خضر أصبحت رمادية، إمّا بفعل الكسّارات والمرامل وإمّا بفعل الحرائق أو قطع الشجر… وديانٌ كانت سحيقةً وعميقةً أصبحت جبالاً من الردميّات إن لم نقل النفايات (وعِدّْ يا شاطِرْ عدد النَّقلاتْ وقْباضْ دولاراتْ) والأخضرُ يتحوّل رماديًّا… وعلى الطريق البحري رائحةٌ نتنة تقرّبك من جهنّم وتُجبرك على إقفال نوافذ السيارة ولا تتركك هذه الروائح والعطور “الباريسية” إلاّ عندما تبتعد عنها مسرعًا إلى الجبال…

وتتفاجأ بطريق دوليّ يسدّ عليك المنافذ عبر قوافل الشّاحنات الضّخمة تنفث الدّخان الأسود ويا ويلك إذا كنتَ وراءها وشغّلتَ مكيّفَ الهواء فسوف يدخل الدّخان مرفَّهًا ضاحكًا يقتحم سيارتك ويبدأ بإشعاركَ بخنْقٍ متعمَّد… وإذا صادفت نهرًا في طريقك، إذا بقي نهرٌ، فاعلم أنّه كتلة مياه آسنة سوداء تبعث بالأسى وفي نفس الوقت بالحنين إلى أيّام كنّا نقصد فيها نهر قريتنا والماء فيها صافٍ زلل ترى الحصى تحته كما هي والزهور جذلانة على الجانبين والأشجار الباسقة تضحك والفراشات من كل ألوان الدنيا تغطّ على الزهور في نظام كونيّ جميل متكامل هو سيمفونيّة جمال فأتى الإنسان ودمَّر كلَّ هذا الإبداع الكونيّ.

وعند انتهاء رحلتكَ ووصولكَ إلى منزلكَ تمسح جبينك بمنديل أبيض فيصبح أسودًا!!! فكيف بالروايا؟؟ ويقولون لك: نسبة السرطانات كبيرة ونسبة الأمراض أيضًا كبيرة وعدد نزلاء المستشفيات ضخمٌ نسبةً لعدد السكّان.. هذا كلُّه يختصُّ بالبيئة ولم نأكل بعد ولم نشرب هكذا بكلّ بساطة!!

أردتُ بهذه المطوَّلة الإصرار على حقيقة الارتباط الوثيق بين البيئة والصحّة، هي سلسلةٌ متّصلة كاملة لا تستطيع أن تفكّ عقدَها وتماسكَها ولا يُمكن أن ينشأَ غذاءٌ نظيف في ظلِّ طبيعة وبيئة غير نظيفة.

نظرةٌ بسيطةٌ إلى واقعنا البيئي المرعب بكلّ المقاييس ماذا نرى..

1- من أصل حوالي 800 شركة تعبئة مياه هناك 33 شركة فقط لا غير مرخَّص لها.

2- من أصل 832 كسّارة ومرملة “لم يتقيّد أيّ من المرخَّص لهم، حسب علمنا، بشروط الترخيص لا خلال الاستثمار ولا بتسوية أرض المقالع بعد انتهاء الإشغال وازدادت طرائق استثمار المقالع ضراوةً” هذا ما جاء في كتاب “التنظيم المدني في لبنان” لمدير عام التنظيم المدني السابق المهندس الصديق محمد فوّاز (ص 184).

3- نسبة الصيّادين في لبنان هي الأعلى في العالم، وللدّلالة على ذلك في فرنسا حيث عدد السكّان 61 مليون نسمة هناك 600 ألف صيّاد، وفي إيطاليا حيث عدد السكّان 63 مليون نسمة هناك 500 ألف صيّاد، أمّا في لبنان الذي يبلغ عدد سكّانها 4.5 مليون نسمة عندنا، والحمد لله، 600 ألف صيّاد. وهذه الأرقام المذكورة موثَّقة في كتاب إحصائي بيئي صادر عن وزارة البيئة.

4- هناك 900 ألف متر مكعب من المياه الآسنة الملوَّثة تصبُّ في البحر الأبيض المتوسّط وتلوِّث الشاطئ ليلاً نهارًا، ممّا جعل لبنان الأكثر تلوُّثًا بين بلدان البحر الأبيض المتوسّط نسبةً إلى سواحله.

MATMAR

5- مطمر الناعمة المأساة الكبرى والذي أُريدَ لها أن يشكِّلَ حلاًّ للنفايات الصّلبة ضمن خطّة طوارئيّة لبيروت الكبرى فإذا بالفساد يحوِّله من مطمر المفروض فيه أن يستقبل النفايات لمدّة عشر سنوات فإذا به يمتلئ خلال سنتين وتتوسّع مساحته حتّى أصبح فيه 13 مليون طنّ من النفايات… المطمر المقدَّر له حلّ مشكلة نصف نفايات لبنان ينتقل إلى مشكلة خطيرة بحاجة إلى حلٍّ عجائبيّ! وموعد 17/1/2015 يضع الجميع كالقدر أمام مسؤولياتهم!! وهذا الأمر ليس بالسّهل إقفال المطمر طالما لم يكن هناك حلٌّ بديلٌ لإقفاله. خلاصتها لا حلّ بدون اعتماد خطّين متوازيين وفي نفس الوقت اعتماد خطّة شاملة توازن بين حلّ المطامر المؤقَّت والبدء بالفرز من المصدر عبر سلسلة مدروسة كما تفعل الدول المتقدّمة وبعضٌ من دول العالم الثالث…

6- الحرائق وقد ابتلعت عام 2008 نحو 11 مليون شجرة ويكفي للدلالة العجز الكامل للدولة في إيجاد استراتيجية لمواجهة هذه الحرائق التي تحمل عنصر المفاجأة فدورتها كلّ عام من حزيران إلى تشرين الثاني!! أين الخطط لمواجهة هذه الحرائق التي تأكل أخضرَ لبنان.

7- الرّدميّات التي خنقت الوديان وألغت التضاريس وجسّدت قمّة فساد بعض البلديّات التي شاركت بشكل يُثير الاشمئزاز في تدمير المعالم الطبيعية وإذا بتلال رماديّة جديدة ترتفع ويرتفع معها أنين الأرض وصراخ الشجر التي تكسّرت وتدمّرت من خلال رميها بدون أيّ وازع أو ضمير. وبعض رؤساء البلديات يقهقه ضاحكًا وهو يعدُّ الدولارات وهي تُتخم جيوبه حارقًا كلَّ ضمير على مسمع من الجميع ومرأى من الجميع…

8- القائمة تطول وتطول… ولن أكمّل.

 أردتُ من هذه المقالة التوجُّه للمسؤولين بشكل عام ولوزير البيئة الصّديق الأستاذ محمّد المشنوق بشكل خاص لأقولَ له بمحبّة وبدون أيّة مزايدة: نحن بحاجةٍ إلى ثورة بيئية مشابهة للثّورة الصحيّة التي قادها الوزير وائل أبو فاعور، ثورة تقضي على الفساد ولا ترحم أحدًا ولا تخاف من حيتان المال وتسمّي الأشياء بأسمائها والمتعدّين على البيئة بأسمائهم وتُرسل بهم إلى السجن وتُغرِّم الآخرين حسب القوانين وأخيرًا إعادة لبنان إلى ابتسامته “الخضراء”!! ولن أزيد.

———————————–

(*) رئيس جمعية طبيعة بلا حدود

اقرأ أيضاً بقلم محمود الاحمدية

لبنان لن يموت

أكون حيث يكون الحق ولا أبالي

لماذا هذا السقوط العربي المريع؟!

جشع بلا حدود وضمائر ميتة في بلد ينهار!

جاهلية سياسية… بل أكثر!

معرض فندق صوفر الكبير والتاريخ والذاكرة

قال لي: عندما تهاجم الفساد ابتسم بألم!!

إذا أجمع الناس على مديحك سوف أطردك!!

التاريخ لا يرحم… يجب إعادة كتابته

ما هو دوري كوزير جديد؟

مشروع كمّ الأفواه تدمير للبنان الرسالة

الجامعتان اليسوعية والأميركية تنسحبان: التعليم العالي في خطر

السويداء في عين العاصفة

تقريران رسميان متناقضان عن تلوث بحر لبنان

في ذكراها الـ 74 اسمهان: قصصٌ خالدة

طبيعة بلا حدود ربع قرن من النضال البيئي

فريد الأطرش وشوبرت والفن العالمي الخالد

يوم البيئة العالمي: التغلب على تلويث البلاستيك

قطعة الماس في جبل من الزجاج

مسيرة منتدى أصدقاء فريد الأطرش تشع في دار الأوبرا في القاهرة