نبوءة جورج قرم: الأرض المستباحة

د. قصي الحسين

في حوار أثير أجراه معه الأستاذ “كامل فاعور” لمجلة “حوار العرب”، والتي صدرت في أيار 2006، سجل المفكر والوزير اللبناني د. جورج قرم قراءته الاستباقية لما أتى على بلدان العالم العربي، أقله في العقد الذي تلى ذلك التاريخ. وللتذكير فقط إن هذا “الحوار النبوءة” جرى قبل حرب تموز الاسرائيلية على لبنان بنحو شهرين. وقد أثار فيه للأمانة والدقة والتاريخ، مسائل عديدة، تستحق منا التبصرة اليوم، لعرضها على الرأي العام اللبناني والعربي، باعتبارها وثيقة سياسية وفكرية بامتياز، تسجل للدكتور جورج قرم، الذي أهمل صوته، حين كان يجب أن يصغى إليه، ومن هذه المسائل:

1- “المسار الانحطاطي الذي غرق فيه العالم العربي” وقد أسماه اصطلاحاً “ديناميكية الفشل” بسبب نزف الأدمغة العربية الى الخارج. 2- عدم السيطرة على النظام العام في الأقطار العربية، وعدم القدرة على استيعاب واستثمار الثورات العلمية والتكنولوجية، بحيث أصبح العالم العربي كما يقول Terrae Nullai أي كما يقول: بمثابة “الأرض المستباحة”. 3- المواطن العربي يعيش في خضم “قنوات الأموال الهائلة التي تعبر المنطقة”، ويجد نفسه مهمشاً، وهو في “أشد القلق”. 4 – ضرورة وقف هذا المسار الانحطاطي الذي نسير فيه منذ عهد الاستقلال أي منذ نهاية الثورة الناصرية التي استمرت عشر سنوات. حيث بدأنا بالتراجع والتقهقر وأصبح ينظر الى المجموعة العربية في إطار النظام الدولي بعين الازدراء والاحتقار. 5- بروز حركات تكفيرية، تزرع الفوضى والرعب، ولا بد من ممارسة الفعل النقدي، وبدل التغني بالتراث، ننطلق للتجدد، لا للتقوقع والجمود. 6- أسباب “ديناميكية الفشل”، داخلية وخارجية وهي معاً تشكل وضعاً متشابكاً ومعقداً والجهد المطلوب منا، “تحديد طبيعة هذه العلاقة السلبية بين العوامل الخارجية والعوامل الداخلية وذلك من خلال مواجهة النـزوع الغربي للسيطرة على المشرق العربي باعتباره ستراتيجياً “على مفترق طرق بين القارات”، وبتميزه بمخزون هائل من النفط ومصادر الطاقة. كما من خلال مواجهة حب الزعامة والصراع على الزعامة داخلياً، على قاعدة الاستقواء بالخارج والتفيؤ بظلاله، وهي “تقاليد قديمة متجذرة تعود الى ما قبل الاسلام”. 7- معالجة الانتماء العربي لتخلي فريق منهم عن الهوية العربية والارتماء في أحضان الغرب، وتخلي الفريق الآخر عن السلطة و”تسليم أمورهم في الحكم لغير العرب من المسلمين”. 8- خروج العرب من تاريخ الدولة وتسليم أمورهم للفرس والترك، “فلم يطوروا خبرة في الحكم وإدارة الدولة خلافاً للأتراك والفرس الذين راكموا هذه الخبرات واعتادوها”. 9- العرب استقبلوا الاستقلال عن الاستعمار من دون خبرات سابقة.

وعندما نتحدث عن الدول العربية، إنما نتحدث عن أنظمة تابعة لأشخاص، “سوريا الأسد” و”مصر عبد الناصر” و”عراق صدام حسين”. 10- الصراع على الزعامة بدأ في أعقاب سقوط الخلافة العثمانية، ثم تجسد بالصراع السياسي للمحاور العربية وتعداه الى الاتجاه العقائدي الواحد والحزب الواحد (البعث مثلاً). 11- ظهور “الصحوة الاسلامية” في أعقاب تراجع وضمور القومية العربية العلمانية الاتجاه، فلم نعد نميز بين مرجعية الدولة ومرجعية الدين. 12- أتت الصحوة الاسلامية لتعالج الانقسامات، فأنتجت عناصر تفرقة، كانت أسوأ مما وقع للأمة في المرحلة القومية، فذهب البعض للاستنجاد بالخارج والاحتماء به. مما ساهم في زيادة الشرذمة، كحال العرب قبل الاسلام في طلب التحالف والحماية من البيزنطيين ومن الفرس. 13- السياسة الأميركية في المنطقة ترمي الى إعادة تكوين او تأسيس “شرق أوسط أكبر”. وهي تكرار للسياسات الاستعمارية الأوروبية في القرن التاسع عشر تجاه السلطنة العثمانية التي سميت حينئذ بـ”الرجل المريض”، وتدخلت لحماية الأقليات. وقد أسقط علينا مفهوم الأقليات كذريعة للتدخل وبتشجيع من الاستعمار قديماً. والمآل المحتوم للسياسات الأميركية في المنطقة، هو إثارة عوامل القلاقل والاضطراب والمذابح على غرار ماضي الاستعمار الأوروبي. 14- في القرن التاسع عشر كانت السلطنة العثمانية تعيش “فراغ القوة”، وهي “الرجل المريض”. واليوم العرب هم “الرجل المريض”. ولهذا أتى المعلم الأميركي للحكم بينهم من جهة وبينهم وبين اسرائيل من جهة ثانية.

وهذا سر “ما نحن عليه من الذل والتهميش والاحتقار”. 15- إن سياسة الممانعة باتت متروكة للأحزاب والمنظمات التي تنادي بالمرجعية الدينية، أما الاتجاهات العلمانية القومية فهي إما ساكتة وإما تعمل في ركاب الأميركيين والإسرائيليين. 16- يجب التفريق بين الحركات الجهادية والحركات التكفيرية. الأولى هي مقاومة مشروعة، أما الثانية فهي قضية مختلفة تماماً.

غير أن التأثير على المرجعية الدينية في الممانعة والمقاومة، من شأنه تقوية المنطق الصهيوني بدعوى العمل على إبادة اليهود. 17- وإذ نشكو الأنظمة العربية، التي استسلمت لمصيرها، فهي لم تهبط علينا من السماء، والمسؤولية تقع على عاتق الشعوب. 19- كففنا منذ زمن بعيد عن ممارسة التراكم المعرفي وطويت للأسف الصفحة المجيدة للنهضة العربية الأولى التي أنتجت تراثاً عملاقاً. ونحن اليوم أحوج ما نكون الى نهضة عربية ثانية تتواصل مع الأولى. 20- الحرية لا تعطى من الخارج بل يجب أن تكون الحصلية الطبيعية والبعد الطبيعي لمنظومة حضارية وثقافية نرتاح اليها. وإعادة تأسيس الاستقلالية الفكرية والعودة الى مبدأ التراكم المعرفي، لا بقبول الغزو الفكري بشكل مطلق، ولا رفضه بشكل مطلق أيضاً. 21- النقص الثقافي والحضاري يظهر جلياً في أوساط العنصر الشاب، سواءً كان لبنانياً أم مصرياً أم تونسياً أم سعودياً وهو يدخل في منظومة فكرية أجنبية مبنية على عنصرية تغذي ديناميكية الفشل والمسار الانحطاطي. 22- المسيحي اللبناني ينظر الى الكويتي او البحراني او التونسي والمغربي بعين تختلف تماماً عن نظرته للمسيحي الأوروبي. وأعتقد أن المسلم اللبناني ينظر الى العربي كائناً ما كان وطنه بعين تختلف تماماً عن نظرته للأندونيسي او الإيراني او التركي المسلم. 23- لو كان في المنطقة دولة نووية مقابل إسرائيل لكان الوضع أفضل.

وما أخشاه أن تصب الانقسامات العربية في خدمة الهيمنة الأميركية والإسرائيلية. وعلى المثقفين العرب أن يكون لديهم الجرأة الكافية، للضغط على بعض الأنظمة العربية لتوسيع قاعدة خط الممانعة ودعمه للحيلولة دون حصول انهيار لا نعرف متى ينتهي. 24- إن الصراع اليوم هو بين ما تبقى من تقاليد العيش المشترك للطوائف والجماعات المذهبية والعرقية، وهي تقاليد عريقة، وبين التقاليد وأدبيات الغرب حول الأقليات التي تستهدف تفتيت المنطقة.

ويختم د. قرم: لبنان كان ساحة تجربة، والعراق وسورية على مفترق طرق. وعوامل التفرقة بين السنة والشيعة والعلويين والأكراد مطروحة بقوة، ومن يدعي أن لديه جواباً يكون مخطئاً أو جاهلاً بحقيقة الأمور.


(*)  أستاذ في الجامعة اللبنانية

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث