صفحات من التاريخ النضالي للعقيد الراحل مفيد غصن

بقلم رضا بو فخر الدين

منذ أشهر قليلة، توفي العقيد المجاهد مفيد غصن عن عمر ناهز الـ96عاماً في بلدته البساتين التي فقدت رجلا من خيرة الرجال ومناضلا قل نظيره ومجاهدا آمن بالواجب والشرف وحب التضحية والفداء.

لم يسع مفيد غصن خلال مسيرته العسكرية الى أي منصب او مركز، بل تخلى عن إغراءات السلطة وشهواتها انسجاماً مع مبادئه وعقيدته، لكن التاريخ في الكثير من الاحيان يغفل عن اعطاء الابطال وانجازاتهم حقهم التأريخي، وعلى الرغم مما قامت به طلائع المجاهدين بقيادة العقيد من انتصارات في حرب الـ 1948، ظلت هذه القصص المشرفة مرمية في عتمة الماضي، وبقي المؤرخون والباحثون يمرون عليها مرور الكرام غير مدركين مدى اهميتها بالنسبة لتاريخ العرب الحديث والمعاصر.

بدأ أولى نضالاته في حرب فلسطين عام ١٩٤٨ حين استدعي الى سوريا لقيادة عدد من المجاهدين الدروز والاكراد الذين لبوا نداء الواجب. كان مفيد في تلك السنة لا يزال ظابطا في الجيش اللبناني برتبة نقيب حين بدأ بتدريب طلائع المجاهدين على القتال، فحولهم في فترة وجيزة الى مقاتلين اشداء قادرين على المواجهة والقتال.

تقدمت قوات مفيد غصن المؤلفة من حوالي ألف رجل وست دبابات وعدد من شاحنات نقل الجنود لمواجهة العدو وحققت انتصارات عدة ضد منظماته الارهابية كالهاغانا وشتيرن والارغون.

PALSTIN

في احدى الايام وصل مفيد وقواته الى احدى المستعمرات الصهيونية. حين استطلع القرية من بعيد ادرك ان شيئا ما غير طبيعي ولحالة السكون التام فيها، فأمر قواته بعدم دخولها والالتفاف من حولها وإكمال التقدم. عندئذ دوى انفجار كبير دمر المستعمرة حيث كان اليهود وقبل انسحابهم قد فخخوها، وهكذا نجت القوات من كمين محتوم وذلك بفضل قدرات غصن العسكرية.

وشارك قائد آخر أيضاً في هذه الحرب وهو شكيب وهاب الذي شن هجوما علي مستعمرتي الهوشا والكساير. وكان وهاب قد احتل عدداً من المستعمرات خلال تقدمه، وعلى الرغم من ان قواته حققت انتصارات على قوة الهاغانا المسؤولة عن الدفاع عن الهوشا والكساير فقد حوصرت قواته في احدى الهجمات التي قام بها، اتصل وهاب بمفيد طالبا النجدة، لبى مفيد النداء وتقدم بقوة مؤلفة من حوالي الـ ٥٠٠ مجاهد ودارت معركة عنيفة جدا استعمل فيها السلاح الابيض وتمكن مفيد من دحر الهاغانا وفك الحصار.

PALSTIN-OLD

وجاء في المصادر العبرية التي تروي هذه الواقعة: (…) ما أن بدأنا نتمركز داخل القريتين حتى فتح علينا “الدروز” بهجوم مضاد وعنيف وأغرب ما كان في هذه المعركة كان حالة قائد الكتيبة “أوليك” (أهرون نحشون) التي كانت متمركزة في خربة “هوشة” وقد هاجمها “الدروز” بغضب عارم وكادت الذخيرة تنفد منها!!… وفي نفس الوقت هاجموا قرية “الكساير”… كان المحاربون اليهود يتعجبون كلما رؤوا موجة انقضاض إضافية تنقض عليهم وكانوا يتساءلون: “من أين جاءتهم هذه القوة”؟!… كانت هناك أربع موجات انقضاضية قام بها “الدروز” الذين تكبدوا خسائر فادحة ومع كل موجة جديدة حملوا معهم جرحاهم وما أن انتهت الموجة السابقة حتى بدت في الأفق موجة جديدة… لقد كانوا “شجعانا” هكذا وصفهم محاربو فرقة “كرميلي” الذين حاربوا “الدروز” في معركة رمات يوحنان”!!…

اكمل مفيد غصن تقدمه وخاض معركة هامة وهي معركة سمخ التي تبعد 10 كلم جنوبي شرق بحيرة طبريا واستطاع تحريرها من الصهاينة. وصل الى بحيرة طبريا وكان قد فقد دبابتان من دباباته الست واحدة دمرت بقذيفة واخرى سقطت في البحيرة اثناء القتال حيث غرق طاقمها ومن بينهم صديق حميم للعقيد الذي تألم غصن لفقدانه كثيراً.

حين وصل مفيد الى مشارف البحيرة كانت المفاجأة! الم يصل سواه غيره وفشلت القوات الاخرى التي كان من المفترض ان تلاقيه هناك من الوصول وذلك بسبب الخيانة والغدر والعمالة؟ ألم يكن قائد الجيش الاردني بريطاني يدعى غلوب باشا؟؟ ألم يكن الملك فاروق مرتهن ايضا  للبريطانيين حتى تورط في صفقة الاسلحة الفاسدة؟؟ طبعا انتم تعلمون كل ذلك وما هو ليس معلوماً ان مفيد غصن حين اقتحم مركزا صهيونيا للقيادة رأى في داخله ضابطان سوريان يشربان الشمبانيا مع ضباط صهاينة حيث قال له احد الضباط السوريين ساخرا:”شو يا مفيد بعدك عم تقاتل” ثم تعالت قهقهاتم الخائنة. فما كان من مفيد الا ان انتشل سلاحه وارداهم قتلى جميعا.

 ???????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????

قرر النقيب الشاب التقدم بدبابته وحيدا للاستطلاع، وحين ابتعد عن قواته سمع اصوات مشبوهة في الخارج فصعد الى متن دبابته ليرى ان اليهود قد بدأوا بتفخيخها فإنتشل سلاحه وارداهم قتلى. لكن احدهم اطلق النار عليه فأخترقت ذراعه وكتفه وصدره سبع رصاصات غادرة. هوى القائد من على دبابته جريحا مضرجاً بالدماء. رأى المجاهدون ما حل بقائدهم فهبوا لنجدته واشتبكوا مع العدو الذي انهار وهرب. حاول المجاهدون نقل مفيد الى دبابة اخرى لكنه رفض الا المغادرة بدبابته فشرفه العسكري يمنعه من المغادرة وترك دبابته في ارض المعركة.

نقل المرحوم سعيد غصن الى احد مستشفيات بيروت حيث قال له الاطباء يجب بتر يدك فكان جوابه “اليد التي تقاتل اسرائيل لا تقطع”، ثم نقل الى مستشفى اوتيل ديو حيث مكث عدة اشهر حتى تعافى.

في العام ١٩٤٩ شارك مفيد في انقلاب أديب الشيشكلي وكان من الذين فرضوا السيطرة على جبل حوران لكن في احدى الاجتماعات  قال الشيشكلي “اليوم شربنا نخب جبل حوران بكرا منشرب نخب جبل الدروز” فما كان من مفيد الا ان أجابه بالرفض والتقط كوبا ليرميه عليه لولا تدارك الامر من احد الضباط. وهكذا دفع مفيد غصن ثمن موقفه هذا وابعد عن السلطة، بيد انه متصديا لسياسة اديب الشيشكلي وظلمه. كما وقف الى جانب جمال عبد الناصر وكان من مؤيدي الوحدة رافضا الانفصال.

عاد مفيد الى ضيعته البساتين ليفاجىء في اوائل التسعينيات بزيارة من احد كبار الضباط السوريين في لبنان لتوزيره هو او ابنه في احدى الحكومات، لكنه رفض بعد ان ادرك نوايا زائره وقال له انه لا يخون نضال وفكر المعلم الشهيد كمال جنبلاط وان مرجعيته هي المختارة فغضب الضباط من هذا الجواب وطلب منه اعطائه بطاقته العسكرية لمصادرتها وحين هم بالرحيل هدده قائلا “انتبه لأولادك”. وبعد وقت قصير زاره النائب وليد جنبلاط وشكره على وفائه وموقفه.

هذا جزء صغير من تاريخ هذا الرجل الكبير الذي آثر العيش في الظل معتبرا أن ما قام به لا يتعدى حدود الواجب، بيد ان من الواجب ان تخليد ذكراه وتسليط الضوء عليه للحفاظ على التراث والقيم والاصالة تراثنا وقيمنا واصالتنا فنحافظ عليهم ونتقدم الى الامام بفكر تقدمي منفتح خاصة ان بعض الكلمات الصغيرة بمعانيها الكبيرة ككلمة مروءة وشهامة قد شارفت على الانقراض، الحداثة والنهضة لا تقومان الا حين نكرم وننحني امام من حمل اصالتنا وقيمنا بشرف ووفاء.