كتاب يرصد مخاض التجربة «الثورية» خلال قرن

بقلم د. قصي الحسين

هل أدى استخدام الانقلابات العسكرية أو ما عرف بالثورات العربية في مطلع القرن الماضي، إلى تراجع في قدرة القادة الثوار وثوراتهم على التغيير والتصحيح والتجديد والعصرنة والحداثة، في البلدان التي انتفضوا بها وثاروا، بسبب انضواء مشروعاتهم وفلسفاتهم آلياً، ضمن مناهج وأساليب فرضتها هيكليات الثورات الأم قديماً وحديثاً: في أوروبا وأميركا وآسيا والعالمين العربي والإسلامي؟ وهل يشكل ذلك عملية استعمار جديدة تستهدف البلدان الصناعية المتقدمة والبلدان النامية والمتخلفة (والأوطان العربية إنما تقع في خانة البلدان المتخلفة) لأجل القضاء على التعدد وضمنه التنوع، لمصلحة السياسويات الشمولية، سواء كانت تحسب نفسها وليدة رحم الديموقراطية، أو وليدة أتون الطغيان والاستبداد.

مثل هذه التساؤلات مشروع اليوم، أكثر من أي وقت مضى، لمرور أربع سنوات على انتفاضات وثورات الربيع العربي التي بشرت بها سنونوة تونس الخضراء والنيران التي أشعلها البوعزيزي احتجاجاً على الفقر المجتمعي وعسف السلطة على حدّ سواء. لهذا، لا نرى من الباحثين والمثقفين، من لا يدلي بدلوه في الإجابة على هذه التساؤلات المعقدة والمشروعة. وفي هذا الإطار تأتي قراءة بهاء أبو كروم لتاريخانية التجربة الثورية ومخاضاتها العسيرة هنا وهناك، لأجل جلاء الصورة وتنوير الأفهام، حيث يقول في مطلع مقدمة كتابه «الممانعة وتحدي الربيع». (دار الساقي، بيروت 2013): «في معرض تجربتها السياسية خلال القرن العشرين خبرت الشعوب العربية الكثير من المقولات والمصطلحات التي عكست وجهة نظر السلطات الحاكمة بشكل عام، وأسهمت في تشويه البنية الثقافية للمجتمع. وكانت هذه المقولات تلعب على الوتر العاطفي، حيث وعدت الشعوب العربية بالتوازن الاستراتيجي مع العدو الإسرائيلي، وتحرير فلسطين، واستعادة المقدسات، ومقارعة المشاريع الاستعمارية، والصمود والتصدي، وغير ذلك من التعابير المشوقة التي تجتذب الجمهور. إلى أن برزت الممانعة كواحد من الأطر المفاهيمية التي اعتادت الأنظمة إنتاجها، وتفوقت على ما سبقها، وبنت منظومتها، وحددت مجال عملها، وتربعت على جزء من الوطن العربي واستكانت لغدها (ص 11).

تنير الدراسة جوانب غامضة انطلاقاً من مفهوم «الممانعة» وتحديه التغيير والنهوض والإصلاح، ما جعل للربيع العربي تحدياته الصلدة أيضاً لمواجهة سياسة الممانعة التي ارتهنت للسياسة المحورية الخارجية ورهنت الوطن والشعب للاستبداد الذي أخذ على عاتقه حماية هذه السياسة الغامضة للممانعة.

يجري أبو كروم، مسحاً تاريخياً وتسجيلياً شاملاً للربيع العربي وتوطنه في البلدان العربية منذ عام 2011، كما يجري بالمقابل مسحاً تاريخياً وتسجيلياً لجذور الاستبداد بمنشئه العربي والغربي، فيتحدث عن جدار برلين الذي نهض بوجه الهجرة الألمانية من عسف الشيوعية والبلاشفة الشيوعيين. كما يتحدث عن البوعزيزي في سيدي بو زيد الذي أشعل الثورة على الظلم والقهر وعتو الاستبداد بأثماله، فكانت كما يقول ملحمة الأوديسة العربية والخلاصات الدموية التي تبعتها. كما كان التغيير الداخلي الأعمق الذي هز أركان الشرق الأوسط وزلزل حصون الاستبداد من الداخل.

إلى ذلك يناقش المؤلف دواعي الاستبداد وجذوره القديمة، وتجذره لدى الحكام الذين مارسوه بكل قسوة على شعوبهم، خصوصاً في بعض الأوطان العربية، وقد عمد إلى قراءة دور الاستشراق والردود الاستبدادية عليه وذلك من جوانب سوسيولوجية وسياسية وفكرية. وناقشها جميعاً إن في الموقع المختلف، أو في القضايا الصلبة، مفرقاً بين سوسيولوجيا الفهم والأيديولوجيا، وبين التحرر والعسكرة وبين التمسك بالقومية والإيمان بها، وبين الاستبداد الذي جاء على موجتها وبسط سلطانه على القوميين بخدعة الحث على النهوض القومي. وقد عرض هذه المسائل في ضوء منهج غوستاف لوبون في كتابه «سوسيولوجية الجماهير»، وكذلك في ضوء منهج ميشال فوكو التفكيكي في مقالته الشهيرة «يجب الدفاع عن المجتمع». ويتساءل عمّا إذا كان النظام العربي القديم، علمانياً، حيث يقول إن التقدير العقلاني لأعلام القومية كان يعتمد على المرتكز القومي كأولوية وكرابطة في مجتمع يشكل الإسلام الرافد الأبرز لحضارته (ص 53). غير أن لبنات الفكر القومي ظهرت على أيدي مسيحيين أرادوا دعم فكرة الرابطة القومية كبديل عن الجامعة الإسلامية، ولكن من دون تحويل موضوع التحرر إلى صراع مع الإسلام. كذلك كان من الصعب نظرياً الفصل بين حضارة عربية وأخرى إسلامية، إلى حدّ أن أصحابها امتدحوا الحقبة الجاهلية، وانشغلوا بالبحث عن بعض المحاسن فيها لمجرد البرهنة على أنه كانت هناك حضارة عربية، سبقت الإسلام (ص 53). ويستنتج الباحث أن علمانية الدولة بقيت في إطار الفرضية لخدمة النظام فحسب، لأن الاستبداد كان قد تجاوز الحاجة المجتمعية إليها لأجل تسخيرها لخدمة سياساته المتقلبة التي تخدم ديمومته في السلطة لا أكثر ولا أقل.

وعن سورية والدور الإقليمي لها، يدرس الباحث ما عرف «بنظام الممانعة»، فيسلط الأضواء على أصوله من خلال الوقائع والأحداث التي جرت في المنطقة العربية، خصوصاً بعد انهيار المنظومة الاشتراكية عام 1990 وانفراد إيران بقيادة التحالف بعد وفاة حافظ الأسد عام 2000. ويقول إن الممانعة كانت تبني منظومتها متكئة على فشل المبادرات التي تتعلق بعملية السلام في الشرق الأوسط (ص 62). وأتت منظومة الشعارات، كنتاج فكري لزحمة عروبيين في غياب نظرية عروبية تواكب الحضارة وتفتح الآفاق. أما تحول سورية إلى المفاوضات، إنما جعلها تطلب الشيء وعكسه، فكان خطاب المغالاة، كما يقول، قد طبع مرحلة الخروج عن دائرة التخاطب العقلاني. وهذا ما جرّ النظام في سورية إلى مواجهات مع الفلسطينيين واللبنانيين الذين لم يشاطروه مسيرته.

تناولت الدراسة بدقة إشكالية القيادة والتبعية بين سورية ولبنان، في ضوء تجارب مخيبة في الماضي وجدال ساخن للمستقبل. وبوصول الرئيس بشار الأسد إلى السلطة، بدأ الحديث عن «سورية الجديدة» وعن الأداء السوري الثلاثي الأبعاد وعن تحديات ما بعد القمة الرباعية التي جمعت بشار الأسد والرئيس ساركوزي والشيخ أحمد وأردوغان في دمشق أيلول (سبتمبر) 2008، لتحقيق فرص السلام بين سورية وإسرائيل. فقد لعبت سورية دور الوسيط الاستراتيجي في 26 نيسان (أبريل) 2009، حين زار الرئيس بشار النمسا، وبشر به، على أن تكون سورية جسراً للحوار الثقافي والسياسي بين ضفتي المتوسط. وعلى رغم ذلك ظل اللبنانيون يعانون من ثقافة الممانعة وشعاراتها ودفع لبنان أثماناً غالية بسبب رؤية البعث الشقية إلى لبنان الشقيق وبسبب من الموقف الاستراتيجي السوري الممانع. وهذا ما شكل مأزقاً للديموقراطية وللممانعة، ما أرخى بظل ثقيل لهذه السياسات على الداخل السوري وعلى الديموقراطيات المحيطة به وعلى الصراع الدولي على دور النظام السوري وتصاعد الدور الروسي المؤيد له على حدّ سواء.

وفي حديثه عمّا سمي صحوة إيران وتحولات المنطقة، قال إنها جاءت في زمن التماس بين الحضارات، وإن القضيّة داخلياً، إنما هي قضية ثقافية بامتياز وانطلاقاً من ذلك ناقش الباحث مسألة الديموقراطية عند رجال الدين بعامة وعند رجال الدين الإيرانيين (الشيعة) بخاصة، وقد استنتج أن مثل هذه الصحوة وهذه الديموقراطية، لما يعرف بالسياق الشرقي. وقد تتبع الأبعاد الاقتصادية لسياسة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، كما تتبع مسألة تصدير الثورة الإسلامية الإيرانية بمفهوم «الأمر الواقع» و «القومي» و «الديني». وذلك يؤول برأيه لا إلى عمل سياسي منظم، وإنما إلى ما يشبه «إدارة الفوضى». فكانت له وقفة متأنية في هذا السبيل: عند حكم الملالي (ص 129) وتعميم المجتمع الكهنوتي والحضور الإيراني في أزمات المنطقة، وذلك في ضوء تقدم إيران وتراجع الوعي القومي، ناهيك عن قراءته العقائدية لانهيار الإمبراطورية الأميركية. وقد جاءت مناقشاته هذه في ظل قراءته للحرب البديلة تموز (يوليو) 2006، والتي خاضها «حزب الله» في لبنان بدعم من إيران. وهذا ما جعله يطرح السؤال: إلى أي مدى يمكن أن تذهب إيران في معاندتها الغرب، وما إذا كانت لحظة الحوار قد نضجت، وأصبح بالإمكان عقد الصفقة الأميركية – الإيرانية، موازياً بين الإمكان والاستحالة. (ص 115 – 152).

وتساءل المؤلف عن الأزمة القائمة في لبنان، وما إذا كانت تمثل أزمة نظام، أم مأزق منظومة سياسية تدور في فلك السياسة الإيرانية – السورية. وتوضيحاً لذلك، كان عليه أن يناقش أزمة النظام السياسي اللبناني من زاويتين أساسيتين: الاستقلال والتعريب. ومن خلال ما سماه صدام العقول في النظام اللبناني وفي السياسة اللبنانية. وقد انطلق في ذلك للحديث عن السوسيولوجيا الوطنية في لبنان، وعن مصطلح الوصاية السورية وسياسة الأمر الواقع المفروض على هذا الوطن الصغير. فناقش مسألة الوحدة الوطنية وعقد الوصاية التي تحكمت بها (ص 178). ليدخل في نقاش حول الطائف اللبناني وبنوده وظروفه ومسائل تطبيقه وعدم تطبيق كثير من مواده، إضافة إلى مناقشة طاولة الحوار الإقليمي التي عقدت لأجله (ص 181)، مستنتجاً أن الديموقراطية اللبنانية أبدت جرأة عظيمة في تحدي الممانعة، ناشدة الحل العربي في لبنان، في إطار مبادرة الجامعة العربية (ص 191). وقد أتيح له أن يقرأ بتأنٍّ ودقة ما وقع في لبنان من تقاطعات إقليمية على حسابه، وكيف كانت الاصطفافات والأولويات الإقليمية تأتي دائماً لإلغاء دور لبنان الفاعل في مسائل التقدم والتحضر والسلم الأهلي لمصلحة الأدوار الإقليمية الممانعة.

وعن المقاومة وإشكالية الداخل، تناول المؤلف ظهورها في لبنان في سياق النضال التاريخي في المنطقة، في شكلها القومي أولاً واليساري تالياً والإسلامي أخيراً. وقال إن لها دوافع حضارية ربما رسمت وجهة الصراع التي تخوضه ضد الاحتلال. وقدم قراءة تاريخية في ذلك. وبعد اندحار الجيش الإسرائيلي من الجنوب عام 2000، بدأ التحول في تاريخ «حزب الله» السياسي، إذ زاوج بين مشروع الدولة ومشروع المقاومة صوناً للشيعة في الجنوب، لئلا يتعرضوا لمشروع تهجير لإحلال طوائف أخرى مكانهم.

ومسألة التعايش بين الديموقراطية والسلاح، استأهلت نقاشاً طويلاً في العمق. ذلك أن المجتمع لا يستطيع انتظار القوى المسلحة للانتهاء من تحقيق أهدافها المعلنة، كي ينطلق في العملية الديموقراطية وقيام الدولة (ص 210). وقد استشهد المؤلف بأمثلة من العراق وفلسطين. وفرض ذلك الانتقال بالبحث لقراءة التحولات في مفهوم برامج المقاومات، منذ سقوط بغداد عام 2003، وحتى إمساك «حماس» بالسلطة بالقوة في قطاع غزة عام 2007. ووجد أبو كروم أن المقاومة الإسلامية في لبنان «أظهرت شيئاً مشابهاً عندما تحولت إلى الصراع الداخلي واستعملت المنهجيات واللغات التي تعتمدها في صراعها مع العدو الإسرائيلي وأسقطتها على صراعها مع اللبنانيين في 7 أيار (مايو) 2008 (ص 215)، مستنتجاً أن التجربة التي خاضتها مقاومات المنطقة، أظهرت استحالتين: 1- استحالة اكتفاء المقاومة بأهدافها الوطنية والتحريرية. 2- استحالة المواءمة بين مشروع المقاومة ومشروع الدولة (ص 216)، ما أدى إلى ارتفاع منسوب التشدد والاستبداد الذي يعاكس الحياة الاجتماعية الهادئة، والذي هو أحوج ما يحتاجه العرب بعامة واللبنانيون بخاصة في هذا المنعطف الخطر من التاريخ الحديث والمعاصر!

 ————————————-

(*) أستاذ في الجامعة اللبنانية