شادي سرايا: كمال جنبلاط في فصل سابق للربيع العربي

بقلم د. قصي الحسين

لم يكن مؤلف كتاب: كمال جنبلاط الثائر من أجل العروبة(**) حين شرع بإعداد هذا الكتاب كما يقول عزت صافي ليعرف أن كتابه يأتي في وقت الضرورة لإلقاء نظرة على الفصول التي سبقت فصل الربيع العربي الذي بدأ في مطلع العام 2011، وبرأي الصحافي المخضرم والأريب، أن عواصف “ثورات الربيع” التي عمت البلاد العربية من مغربها إلى مشرقها، ولا تزال في الأوج، لم تأت من سحابة صيف، ولا هي “مؤامرة منظمة”، إذ عرف شادي سرايا، متى وأين يغطس في بحر كمال جنبلاط الثائر لأجل العروبة، ويكشف النقاب عن تاريخ مضى، قضى فيه ذلك القائد المدني اللبناني الفذ، معالجاً أمواج الديكتاتوريات العسكرية والأنظمة الصعبة التي صدرت عنها، متنكرة برايات العروبة تارةً وبرايات الدفاع عن فلسطين والقضية الفلسطينية تارة أخرى، حتى أزهر دمه ربيعاً عربياً في ذلك البدن الشاسع المثقب بالرصاص في 16 آذار 1977.

يعيد شادي سرايا ترتيب المحطات في زمن كمال جنبلاط، حيث يبرز المعلم والقائد الشعبي الشهيد كمال جنبلاط كأحد أكبر رموز التحضير لزمن الربيع العربي الذي كلف أعمار أجيال من المناضلين من كل الفئات والشرائح والطبقات. تدثروا مرة أخرى برداء “البوعزيزي” في مطلع العام 2011، بل “تقمصوا” فيه، وأضرموا النار في ثوب الشهادة العربية على الظلم والعتو انتقاماً من الديكتاتوريات المحصنة بالأوسمة والنياشين. فتاريخ الشعوب كما يقول مقدم الكتاب، “مثل النهر، قد ينحبس في مسافة من مجراه”، لكنه لا يتأخر حتى يفيض فيجرف الطغاة.

يجد الباحث رابطاً عروبياً تقدمياً وتاريخياً جامعاً بين كمال جنبلاط ومعاصره الفذ، القائد العربي التاريخي جمال عبد الناصر. ويقول إن كمال جنبلاط سبق عبد الناصر في رفع شعارات العروبة والوحدة العربية والتقدمية، والنضال العربي ضد إسرائيل التي كانت اغتصبت فلسطين سنة 1948، وضد الإمبريالية الغربية التي ساندتها في عدوانها واغتصابها لحق الشعب الفلسطيني في أرضه ومقدساته.

ويرى شادي سرايا، أن كمال جنبلاط، طرح إشكالية العروبة والقومية مبكراً، وسرعان ما فجرها جمال عبد الناصر في ثورة الأحرار. غير أنه في أوج تحالفه مع عبد الناصر، لم يكن قومياً بالمفهوم الناصري، لأنه كان يعي تناقض واقع الأوضاع الجغرافية العربية مع واقعية الميثاق الوطني اللبناني.

ينير كتاب “كمال جنبلاط الثائر من أجل العروبة”، جوانب من التاريخ هامة وجوانب من السياسة هامة أيضاً. فهو يسلط الأضواء على تاريخ آل جنبلاط من علي باشا جنبلاط، حتى ظهور كمال جنبلاط، مروراً بحرب البشيرين: بشير جنبلاط والأمير بشير الشهابي. وهي حقبة تاريخية هامة من عمر لبنان امتدت زهاء ثلاثة قرون (1605 – 1917). غير أن هناك جوانب سياسية كثيرة الأهمية أفرد لها الباحث صفحات طوال، وهي تتحدث عن التاريخ النضالي للمعلم الشهيد كمال جنبلاط وللعمل السياسي الذي عاشه من خلال مسيرة الحزب التقدمي الاشتراكي والذي جسد مفاهيمه العصرية للعروبة من جهة وللصراع ضد الاستعمار والصهيونية المغتصبة من جهة أخرى. وقد ابرز لذلك أهم مآثر ومواقف كمال جنبلاط المعلم والقائد التاريخي الشهيد، سواءً على مستوى نهج الإصلاح الداخلي في لبنان، أو على مستوى المواقف العربية والدولية التي ميزت خطاه إن في المسيرة العربية أو في المسيرة الدولية التي وسمت تاريخ الحزب التقدمي الاشتراكي وسياسته لأكثر من ربع قرن من النضال.

وقف كمال جنبلاط ضد قرار تقسيم فلسطين، وكان في ذلك أول مقاوم له في العالم العربي. وسجّل موقفاً تاريخياً من التدخل الأميركي في لبنان والمشرق العربي، وكان أول من دعا إلى بناء استراتيجية الدفاع المشترك بين الدول العربية لمواجهة العدو الإسرائيلي. كذلك سجّل موقفاً تاريخياً من حلف بغداد وقضية العنف والسلم، ودعا إلى تأييد نضال الشعب المغربي في وجه الاستعمار الفرنسيّ. وكانت لكمال جنبلاط مواقفه المشرفة في الحزب من العدوان الثلاثي على مصر، وقد كان من أوائل من نادى بالمعارضة الشعبية لمواجهة الأخطار الإسرائيلية والاستعمارية في آن معاً. ولهذا نراه يدعم الحركات الاستقلالية والتحررية في العالم وفي الوطن العربي. ويدعو للنضال لأجل صمود مصر في معركة القنال، كما يدعو للتضامن الأفرو أسيوي في وجه المعسكرات الإمبريالية في العالم، التي تريد الهيمنة على إرادة الشعوب في سعيها للحرية والاستقلال والتقدم.

وقبل النكسة (حزيران 1967)، وقف كمال جنبلاط ومن خلاله الحزب التقدمي الاشتراكي يعلن الاستعداد لمواجهة إسرائيل، وذلك حين شعر بنذر الحرب، وكان بيانه الخطير قبل النكسة لإعلان التعبئة العربية ضد أميركا وإسرائيل وبريطانيا، طارحاً خطة مقاومة متكاملة في الجنوب وذلك من خلال مؤازرة الجيوش العربية بحرب العصابات التي تستطيع أن تصل إلى مهاجع العدو الإسرائيلي والامبريالي وتهز أركانه.

وفي الكتاب تقييم علمي لمرحلة النضال العربي التي استطلع الباحث معالمها من خلال البيان الذي صدر عن الحزب التقدمي عقب الجمعية العامة التي عقدها سنة 1973. وكان له أن يكشف عن تفاصيل دقيقة اتصلت بمجازر الأردن عام 1971 وعن الأحداث التي وقعت في لبنان والعالم العربي والغربي بين عامي 1971 و1974. وكشف الباحث عن الجهود التي بذلها كمال جنبلاط للتوسط بين منظمة التحرير الفلسطينية والدول العربية كاشفاً بعض أسرار تلك المرحلة وما كان فيها من غموض على مستوى الأطراف السياسية والعسكرية المشاركة.

ويسلط الباحث الأضواء أيضاً على تعقيدات الأزمة الفلسطينية اللبنانية في العام 1975 وكيف تم تفجيرها من خلال حادثة عين الرمانة فكان أن اندلعت شرارة الحرب الأهلية التي أطاحت بجميع الجهود الإصلاحية وقدمت التدخل العربي ومن ثم السوري لحل النـزاع بدل أن يجلس اللبنانيون على طاولة الحوار. وقد كشف أيضاً عن الأسباب التي أنتجت حرب المخيمات وعن الحصار العسكري لها لأجل اسقاطها. متوقفاً عند سقوط تل الزعتر وتدخل الجامعة العربية وقمة الرياض وانقلاب القوات السورية وتدخلها منفردة للهيمنة على لبنان. فكان أن دفع كمال جنبلاط دمه على أرض المواجهة مع النظام السوري. وقد أفرد الباحث شهادات كثيرة، قيلت في مناسبة استشهاد المعلم فأنصفته وأنصفت تاريخ مسيرته السلمية التي تضرجت بدمه. فبدت اليوم في عيون الكثيرين من نبهاء السياسة وعلمائها كفصل سابق للربيع العربي الذي لا زالت أزاهيره تتفتح في ورود الطفولة أقله مؤخراً في الغوطتين.

 ——————————————–

(*) أستاذ في الجامعة اللبنانية