مخاض الاستقلال الواحد والسبعون المنقوص

حزين استقلال لبنان هذا العام، لا رئيس للجمهورية، لا رسالة للاستقلال اعتاد اللبنانيون على استبشار الأمل بها، لا استعراض عسكري للقوى المسلحة، رمز الدولة ووحدتها، في ظل الانقسام الداخلي الحاد، ومعارك عسكرية متفرقة خاضها الجيش اللبناني بشجاعة وإقدام وتماسك، في مناطق مختلفة وباحتضان شعبي عارم، ضد مجموعات مسلحة تحاول ضرب الامن والاستقرار، حزين على العسكريين المخطوفين المهددين بالقتل على يد مجموعات مسلحة.

منذ اعلان استقلال لبنان عام 1943 حتى اليوم يعيش هذا البلد الصغير، الذي اعتبره البعض (بوابة الشرق)، وتغنى به البعض الآخر(سويسرا الشرق)، مخاض الاستقلال، حيث تأثر ولا يزال بصراعات وأزمات المنطقة وتوازناتها الاستراتيجية، فاستباحت حدوده البرية من كل حدب وصوب، فلم ينجح في النأي بنفسه في أي من تلك الصراعات، على الرغم من ان الميثاق الوطني القائم على قاعدة “اللا آن” (لا للدخول في احلاف دولية لا شرق ولا غرب).

عام 1958 واجه لبنان أزمة الدخول في تلك الأحلاف، فانقسم اللبنانيون، بين مؤيد للمشروع العربي، بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر، ومؤيد لمشروع حلف بغداد، الذي كانت تعمل الولايات المتحدة الأميركية على تشكيله لمواجهة الرئيس عبد الناصر بعد حرب السويس عام 1956. فكانت احداث 1958، التي استدعت تدخلا دوليا، وتسوية (أميركية – مصرية) لانتخاب الرئيس فؤاد شهاب خلفاً للرئيس كميل شمعون. لم تكن احداث الـ1958 وليدة الصدفة بل كانت جزء من تراكم الانقسامات الداخلية حول قضية النازحين الفلسطينيين الى لبنان بعد النكبة الكبرى عام 1948. والتي انفجرت بأشكال جديدة بعد الهزائم التي لحقت بالجيوش العربية ضد إسرائيل.

دفع لبنان وحيدا ثمن هذه الهزائم العربية وتحمل عبء مواجهة اسرائيل ملحقا بها الهزائم المتكررة لكنه دفع بالمقابل ثمن ذلك بانقسام داخلي نتيحة وقوف بعض القوى الداخلية الى جانب اسرائيل بوجه المقاومة الفلسطينية ما اجح الانقسام السياسي واغرق البلاد بحرب سرعان ما اخذت طابعا طائفيا استفادت منها اسرائيل وبعض الانظمة العربية التي استباحت حدود لبنان وارضه ومؤسساته، ما أرهق الدولة الهشة، المنقسمة في الداخل على نفسها، بين داعم للقضية الفلسطينية ومطالبا بتغيير النظام الطائفي واصلاح النظام السياسي، وبين رافض للوجود الفلسطيني متمسكا بالنظام لطائفي ما أفقد الجيش اللبناني القدرة على ضبط الحدود، وضمان الاستقرار الداخلي، فكانت مشاريع التسلح والامن الذاتي التي اسقطت لبنان دولة على حساب المشاريع الخارجية.

لقد شرع الانقسام الداخلي المرتبط بالخلافات العربية حول الصراع مع إسرائيل، دخول الجيش السوري الى لبنان ما أفقد الدولة ومؤسساتها معاني الاستقلال.

لم ينجح اللبنانيون في بناء دولة مدنية عصرية، تحصن اتفاقاتهم وتسوياتهم، وتبعد مخاوفهم الطائفية عن مصالح مواطنيهم، ومستقبل أبنائهم، فارتبط العام بالخاص، فتقدمت مصالح النافذين في هذه الجماعات الطائفية، على هم المواطن ومصالحه، فقامت الدولة على قاعدة تسوية المتحركة وفق مصالح الطوائف وتحولاتها وطموحاتها ومشاريعها وارتباطاتها، وبات الدستور رهن هذه التسويات وهذه التحولات، ما عزز العصبية الطائفية في النفوس، وبالتالي الانقسام الأهلي والتمييز بين المواطنين وفق قدرة ونفوذ هذه الطائفة أو تلك، كما وان الدستور اللبناني عزز هذه البنية بقوله (لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك)، وهذا ما أعطى لكل طائفة حق النقض على أي اتفاق او تسوية او حتى أي معركة عسكرية يخوضها الجيش اللبناني، وبرزت بالتالي نظرية (الديمقراطية التوافقية) والتي يفسرها كل طرف على هواه.

لم تنجح الطوائف اللبنانية الفصل بين مصالحها الوطنية وارتباطاتها العقائدية الفكرية، لا بل ذهبت كل طائفة ووفق الظروف المختلفة لكل طائفة وبنيتها، البحث عن حاضن إقليمي أو دولي لها، يعزز قوتها ومكانتها ونفوذها، حتى باتت الديمقراطية التوافقية، مرتبطة التسويات الدولية والإقليمية، وتداخلاتها وفق مصالحها، ما يبقي الاستقرار الداخلي رهن هذه المصالح ومتطلباتها الاستراتيجية.

اليوم يعيش لبنان ازمة هذه الصراعات، فالفراغ الرئاسي مرتبط بمصالح الدول الحاضنة للطوائف والمتحكمة بها، وبالتالي فإن انتخاب رئيس جديد الجمهورية، بحاجة لحوار بين تلك الطوائف برعاية دولهم، او تسوية بين الدول الحاضنة لتلك الطوائف تلتزم تنفيذ هذه التسوية، وبالتالي فإن انهاء الشغور الرئاسي رهن نتائج المفاوضات الغربية مع ايران من جهة، ورهن الاتفاق الدولي – السعودي – الإيراني – التركي على خارطة طريق حل الأزمة السورية.

تكرر مصادر حكومية قولها أمام كل منعطف امني، أو أزمة حكومية تعيشها الحكومة الحالية، “لا تقلقوا لا زالت الدول الراعية للبنان بحاجة لبقائه مستقراً”، ما يؤكد ان الاستقرار الهش مرتبط بحاجة الدول الكبرى، إبقاء لبنان مساحة تلاقي وحوار، ومركزا رعائيا للنازحين السوريين إلى حين، تسوية الازمات او رسم خارطة طريق لها، أو إعادة تركيبها وفق ديموغرافية جديدة، وتقول المصادر عينها “أي الحرب في لبنان ستكون كارثية على المنطقة والعالم، لأنها تهدد أمن إسرائيل أولاً وستصدر الإرهاب الى العالم، كما أنها ستغير وجه لبنان وتسقط معادلاته الطائفية بفعل اختلال موازين التعداد الطائفي بفعل النزوح السوري الى لبنان”. متطلبات حماية لبنان الدولية والإقليمية، شكلت مبرراً اساسيا للتمديد للمجلس النيابي الأخير، بعد فشل هذا المجلس في إقرار قانون جديد عصري للانتخابات، يوفق بين مصالح الجماعات وحقوق الأفراد، وفق ما اتفق عليه في الدوحة في أيار 2008.

اليوم وفي ظل ما يعيشه لبنان من انقسام سياسي حاد، وفي ظل فضائح الفساد الغذائي والصحي، وفي ظل ترهل مؤسسات الدولة المكتظة بأرتال الموظفين غير المنتجين بفعل المحسوبيات الطائفية والحزبية والزبائنية، وأمام فشل الطوائف والساسة في حماية الجمهورية ورأسها من الفراغ الرئاسي، وفي ظل الازمة الاقتصادية والاجتماعية الحادة، بفعل افتقاد لبنان للدور الذي لعبه في المراحل السابقة. آن الآوان البحث الجدي في كيفية الشروع في تنفيذ البنود الإصلاحية التي اقرها اتفاق الطائف، كمدخل أساسي لضمان ديمومة أي حل سياسي، وأولى هذه البنود، إنشاء مجلس الشيوخ حيث ينزع فيه اللبنانيون عباءاتهم الطائفية، ويدخلون عبره الى الدولة ومؤسساتها أفراد مواطنين.

إن لبنان الحالي لا يمكن ان يستمر او ان يلعب الدور العربي المناط به، ما لم يقدم نموذجا جديدا لأسس العيش المشترك، بين المواطنين أولا، والجماعات الفكرية ثانيا، وهذا يتطلب قيام دولة عصرية توفر للمواطن حقوقه الكاملة، وقيام هذه الدولة يتطلب أيضا الشروع في إقرار اللا مركزية الإدارية التي تعزز دور السلطات المحلية وتتيح للمبادرات الفردية فرص النجاح والتطوير.

إن التآلف بين الجماعات، يستدعي وبشكل دائم البحث عن المشتركات وتنظم الخلافات لضمان نجاح التسويات، وهذا يتطلب أيضا إعطاء الأفراد حرية الاختبار في العيش والبحث والابداع، فالاختبار الانساني والبحث في سبل العيش بكرامة يوفر المساحات المشتركة التي تتلاقى حولها الشعوب. فقدر اللبنانيين العيش سوياً، فهم يتنشقون الهواء نفسه ويتقاسمون الماء والغذاء ذاته، إضافة الى أنهم يولدون ويموتون على بقعة أرض واحدة، مهما اختلفت أفكارهم ومعتقداتهم.

————————————————

(*) فوزي ابوذياب