وجدي شيّا صخب في سكون المطارح

د. شوقي أبو لطيف (الأنباء)

حين ولجت المساكب، تقطّرت الورود بدمع قرير، ففاحت بشذىً خمري من كلوم دنانك، وارتعد الوجد الطفلي حين أبرقت في صقيع المدى، ليختلج النبض وترتعش النظرات، في الكن المنسي على حافة الثرى. كأنها عينا طفلة تكتحل بقوس قزح، فتلمح طيفك المهجور من الكلام، ولا تعود تسمع غير صوت الذات، التي تجوب البراري بحثاً عن زركشات سحريّة في كنف العشب، حيث تجوال العنادل وصداح المساكب. أخالك وقد نسيت أن تودّع المواويل في غمرة الذهول، وقد عدت لتجدها ساكنة، بعدما افتقدت الى أنامل الوشي، التي أزهرت على تخوم أوتارك.

وجدي، أيّها الطائر الذي تخفق أجنحته فوق ربى الجبل، فيبتني مواسيق الشعر في برجه الوادع؛ كم أيقظت الغاب من سباته، وكم راقصت الشجر بين أبيض صنين وزرقة البحر، فاستجابت لك السنابل القمحيّة في أحضان بعلبك، وانتشت في التيم شقائق النعمان بين حلم وذكرى، بينما تنشد الروح أعزوفة الحريّة، إذ ذاك يزدهي العقل باخضرار موسيقي في خريف العرب، وهناك حيث قطرت عرق الجبين كانت الصحراء ترقص للقمر، وكانت البروج تبترد بالنغم تحت وطأة الشمس. كم كنت تحلم بجنان الفن تزيّن المدائن، وتهتف للحسن في أمداء المكان، كلما اتسعت مشاعر، أوعلت منائر، فتسرج للبحر سفائن التحدّي، وحيث يشفّ الشراع في مجاوزة الأنواء، لكأنّما نسمة تمتطي الموج الى هدأة المدى في ليل السبيل.

أذكرك في خلائد الصمت تبرأ من دواهم الصخب، التي تضفي بهالات قدسيّة على مكامن الأهواء، في فسحات التيه الى التحقّق، لكأنّك نظرت من علٍ الى ما يخالج التحضّر المزعوم من تبلبل الفن والسياسة والإنسان، فحاولت أن تنسج عزفاً أثيريّاً تتمايل به الأفنان، على فضاءات الرؤيا الموسومة بالنور، الباسمة بالهزج النبيل، لتدغدغ موسيقاك جوّان المسامع التي جفّفها الهدير الكاسف للنجوى.

أذكرك حين سبرت أعماق الشعر العربي، فكنت تدندن الكلمات باللحن، تبتعث الموشّحات من أندلسٍ، أو تكفكف أدمع ما بين النهرين، أو تلملم رذاذ بردى، أو تشيد على ضفاف النيل قطعة سلوى تغني من هرمٍ…

أما وقد ولجت المسرح فيما قبل الرحيل، وقد قاربت المنى، فكان صهيلا على الموانئ الخاوية من السفر، كان سِفراً تدوّي فيه النفس شوقاً الى صحوها المعلوم، لتنتعش في مسرحك ثقافة الأمل بغدٍ مجيد، في دوحة من حريّة انسكبت فيها المهج، وقد عانقت تلك ما عانقته من أهوال تاريخ لبنان، حيث أدركت أن الكيان سحائب حلمٍ تُجْتَنى من نغم، وأن الإنتماء تهدار وعي في جنون العناصر، وفي جنوح المحابر.

وجدي كنت أعرفك الفارس الذي أوقد شعلة “أورنينا”، وهو يلتهب حماسة الى ملامسة الحدود العلويّة من الأجرام، التي يدقّ جرسها في جوارح الأمومة، تلك التي منها تنبثق فنون الشرق الجميلة. لقد أوسعت موسيقاك حفيفاً من صفصاف العيون، ورويتها من الجداول المترقرقة جذلاً، وشككتها من ألوان القرمز والجلّنار والبنفسج، ما يسحر العاشق بالسمع، ويِسكر الراشف باللون، فتغتبط الذائقة بالجمال، تموسقه أناملك بدعاً على مدائر الوله بالوطن وعلى مساحب الإفتتان بالروعة، وعلى مسائر الكلم الى بزوغ أوّلي.

وجدي ولئن لم يمهل الزمن تحقّق الوعد، بعد لقاء يتيم وحميم، فإنّنا لن ننسى، نحن أصدقاءك، ما كنت تتلوه علينا، بعد “شمسٍ وقمر”، من آيات حزنك الممزوجة بالفرح، كنت تشكو وتشك، لتفصح عن نضج في قراءة ما سلف من فنٍّ عربي، كانت لك رؤىً نقديّة نافذة الى ما يشوب التفنّن من قرصنة وتقليد وتثاقف وتثاقل، كنت تحلم إزاء ذلك كلّه بتجديد يعيد الى الذائقة الثقافيّة هويّتها الحقيقيّة، التي منها تنبعث الشخصيّة الحيّة للإبداع، في هذا المنقلب من الزمن العولمي.

لن ننساك ايّها الصديق الذي يدّخر شدواً في الحناجر المعلّقة بين أنجم الصبح والسكب المشذّى بالحنين. وجدي شيا عساك تسطع في تجلٍّ جديد عندما يأذن الهدي، فتُفرج الديمومة عن الحسن المنسي بين سطور الملاحم وسكون المطارح.