مشروع حلّ لبلدٍ ليسَ لهُ حلّ

أحمد منصور

لا تستطيع أن تقفَ مكتوفَ الكلمات ومنساب المدامع المكبوتة محترقاً مختنقاً في مجامرِ شرايينٍ لا تهدأ وأنتَ ترى شباناً في عمر الورود تعبث بهم نيران العصابات وتسمّرُ أرواحهم رصاصات رشاشات أهل الظلام ومتحجرو الكلام وأهلُ أسوأ طبقة سياسية عرفها لبنان.

لا تستطيع أن تظلَّ عامودَ كهرباء بلا كهرباء أو شاعوباً يتيماً يابساً ماثلاً أهبل كعلامة تعجّب أمامَ رجالٍ سـياج ٍللوطن يتساقطون كالعصافير على الزفت لعباً بأيدٍ تجاوز حدودها وعماها غرورُها ففقدت إستشرافَ الرؤيا وعواقبَ النتائج.

لا تستطيع أن ترى ما ترى وتضعَ ساعديك على عينيك وتسمل أذنيك كأنّكَ ما شفت ولا قشعت فأنتَ قدْ تكونُ غداً تحتَ رحمةَ رشاش غدا مُدامَ حاملهِ إنتشاءً بالقتل والاغتصاب والتشليح وبيع الأعراض السهلة بالعملة الصعبة.

لا تستطيع أن تتجفصن وتتمويأ ورجال الدولة بمعظمهم كالقراقيد والقرود والصخور كأنهم لم يتعلّموا إلاّ الجهل والرصد لافتراس الآخر ولعب الفارس الدونكيشوطي في أرضٍ لم يعد فيها ماء ولا هواء ولا طواحين…

يا ألله ! ما الذي تعلّمناه ونحنُ في القرن الواحد والعشرين .. خمسون جامعة للتعمية والتمويه والتفحيم والتلييل ورجالُ سياسةٍ فصاحتهم تسطعُ في الماركات الأوروبية التي يرتدونها، وفي فنّ الوصول والتمديد والتجديد في بلدٍ ينهشُ أبناءهُ المرضُ والفقر والجوع والألم والرصاص والهروب جواً وبحراً.

ألفُ كلا أيّها السادة: ليسَ هناكَ مشكلة لا حلَّ لها حتى ولو كانت معضلة إذا ما توافرت النوايا الحسنة والإرادات الصادقة والخوف من الله والشعور بالآخرين والمسؤولية تجاهَ الآخر والتضحية بالنفس واسترضاء الضمير.

بيت القصيد هو التغيير الجذري

إنَّ بلدنا المتميّز بحالتهِ الشّاذة التي يعيشها منذُ عشرات بلْ مئات السنين هو كونهُ مراكم شعوب أو أقوام أو طوائف تبحثُ عن ملجأ سرعانَ ما يستقوي أحدها حتى يطمحَ بإنتزاع السلطة من سواه بأيةِ وسيلةٍ كانت بما فيها القوة المعرّاة سيما والموقع الإستراتيجي للبلد يغري بالمغامرة والطّمع وفتح الخطوط مع الخارج.

لسنا بحاجةٍ لفلسفة الأمور لأنّها ستعرضنا للضعضعة والضياع والتعقيد أكثر مما هي في الواقع.

الطارىء في الوضع هو أنّنا مهددون بالمجازر التي لا تبقي ولا تذر لا بلْ بالزوال المطلق إذْ نحنُ بينَ قوىً كبرى مجاورة تتربّص وتتسابق للإنقضاض على هذهِ الفريسة الضعيفة التي هي لبنان أي نحن مستخدمةً في ذلك جميع السبل الدينية والسياسية ولا أقول الأخلاقية لأنّهُ لا أخلاقَ في السياسة.

إنَّ الجيش العامود الفقري لدولتنا ” المفقودة ” والذي برأيي أدبياً ومعنويّاً من أرقى وأهذب وأشجع جيوش العالم هو المستهدف رقم واحد لكلّ هذه ِالدول القريبة التي ليست ضعيفة فلذلك تستفعل المعارك الداخلية والخارجية لذبح هذا الجيش النموذجي في نهر البارد وعرسال وطرابلس وصيدا وبيروت وأنّى استطاعت.

كيفَ الخروجُ إذاً من هذا المأزق الرهيب؟

 إنَّ وضعاً شاذاً كالوضع اللبناني الذي نعاني منذُ عشرات السنين والتي لم تنفع الثورات بتغييرهِ يستلزمُ جرأةً غير عادية بالمعنى الرجوليّ الإيجابي العبقري غير المألوف لنخلصَ أنفسنا وابناءنا وأحجارنا وأشجارنا من أشداق تمساحيّة فاغرة تحيط بنا متربصةً من كلّ جانب. إذ بلغة الرياضيات: الموجب ضرب السالب يساوي سالباً أمّا السالب مضروباً بالسالب فيساوي موجباً. بكلام ٍآخر يجب أن تتغير طبيعة الدّولة الرسمية ودولة المقاومة وطبيعة العلاقة بينهما.

أمّا فيما يخص التغيير في الدولة الرسمية فهو تغيير الدستور الذي نهشَ هذه ِالجمهورية منذُ أكثر من تسعينَ عاماً، فالمعطيات تغيرت والأشخاص تغيروا والدول كذلك.

البلد في الوحل كالسيارة التي إذا فقدت قطعة أو برغيّاً فلا مجال لوجوده ِإلاّ بعدَ جهدٍ جهيد مديد ولئن انوجد فتركيبهُ ممنوع.

هناكَ مشروع حلّ بالنسبةِ لترويكا الرئاسيات العليا: الجمهورية، مجلس النواب، الوزارة.

ففي لبنان سبعةَ عشر طائفة أو أكثر لماذا لا نقسّم عدد الطوائف على عدد السنين الرئاسيّة الستّ ونتبنّى نظاماً تناوبيّاً حسبَ النظام الأبجديّ يعطي الأولوية البديهية إلى النائب الأكبر سنّاً كي يكونَ رئيساً وإذا ما تمنّعَ يعطى للأصغر منهُ سنّاً كذلك الأمر بالنسبة للرئاستين الأخريين فبذلكَ يتناوب الرؤساء بشكلٍ روتيني كما الحال في سويسرا.

الحياد حصانُ الخلاص حتّى إشعارٍ آخر

إنَّ ما حصلَ في غزّة أكثر من مرّة وكذلكَ في لبنان ناهيكَ عن حالاتٍ معزولة خاطفة ساحقة في أكثر من بلد عربي. كلُّ هذا يدفعنا إلى نشدان هذا الحلّ الذي قد لا يكون أبديّاً في حال تنفيذه ِ. كما علينا أنْ لا نستخف بقدرة التدمير الإسرائيلية على الإطلاق.

أضف إلى ذلك الحالة داخل لبنان فالبلد ينغلُ بالأسلحة. الرصاصة بثمن ربطة الخبز والرشاش بحوالي ألفي دولار أمريكي، فوقَ ذلكَ كلّه نرى وضعاً إقتصاديّاً متدهوراً بشكلٍ عام فأكثر من سبعين بالمئة من اللبنانيين ليسوا في حالةٍ ماليّةٍ مرضية وهذا ما يُشكّلُ تربةً خصبةً لبيع الشبان أنفسهم إلى الشيطان وليسَ إلى داعش والنصرة فقط.

والسعودية التي تبرّعت بأربعة مليارات دولار تبرّعاً عينيّاً لتجهيز الجيش اللبناني بأحدث الأسلحة من فرنسا لم تصل جِمالُها التي حملتها من الرياض حتّى اليوم إلى باريس. ربما العربان والقراصنة صادروها في الطريق أو البواليع المخفيّة المزروعة في أكثر من مسار شرقتها دونَ أن تراها عيون.

إنَّ لبنان بهشاشة وضعهِ الحالي ممكن أن يُشكّل بلداً مسانداً للعرب: مستشفى – جامعة – كليّة حربية – مرفأ – مصيف… وهذا ليسَ قليلاً ولا يقلّل من إنتمائهِ العربيّ، وكل الناس تدري أن بيروت منذُ أكثر من ثلثيّ قرن كانت ولا تزال بوصلة النضال العربي في صحافتها ودور نشرها وتظاهراتها.

إلاّ أنَّ للضرورات أحكامها ولا تستطيع أن تطلب من الآخر أكثر مما يستطيع. إنَّ تدمير لبنان لنْ يُفيد العرب بلْ إسرائيل وحلفاءها.

        لماذا لا نتبنّى حياداً ( مؤقتاً ) على الطريقة السويسرية أو النمساوية أو الفنلندية وما شابه كوننا في منطقةٍ بركانية بينَ حيتان لا مجالَ للمقارنة فيها بينَ قوات أطرافها وقوتنا التي بحجم سمكة السردين. إذ القوة لا تعرف لا الإنسان ولا الإنسانية ولا القيم. فكلُّ شيء كي يستمر يجب أن يقوم على التوازن فالموازين القووية هي التي تحدّد طبيعة العلاقات بينَ الدّول.

لماذا نُصرّ على أن تحكمنا الكهوف والروايات المتناقلة عبرَ العصور كأنّها كتابٌ منزل، أينَ الغلط إذا جنّبنا أنفسنا وذوينا وبلدنا الهلاك القادم؟ لمذا لا نترك الأجيال القادمة تقرّر مصيرها بعقولها وأيديها وإراداتها؟

إنَّ أخْذ نَفَسٍ بالنسبةِ لنا ليسَ جريمة في الوقت الذي نجابه فيهِ أحمالاً لا تحملها الجبال كالنزوح السّوري واللجوء الفلسطيني واستقدام مئات الآلاف من الآسيويين وسواهم ألخ… على أنّهُ في حال تحقّق مشروع كهذا برعاية مجلس الأمن وبناءً على البند السابع يُلزمنا وطنيّاً كشعبٍ من الشمال إلى الجنوب من الشرق إلى الغرب أن نكونَ جيشاً وشعباً مجيّشاً إلى الردّ الكاسح إثرَ مجرد إطلاق رصاصة إسرائيلية علينا لأنَّ الحياد لا يحميهِ إلاّ السلاح ففي الحرب العالمية الثانية كان لسويسرا جيش من ستمئة ألف جندي من أصل ستة ملايين. ولذلك سلمت سويسرا من الكبار المتحاربين.

إنَّ لينين عندما هادنَ بلْ تنازل عن أراضٍ للألمان في الحرب العالمية الأولى 1917 كانَ ذلكَ بمثابة تكتيك إجباري وليسَ خيانة وهذا ما برهنتهُ الأحداث فاستردَّ وأمتـدَّ.

إنَّ قوانين اللعبة صدئت وأهترات فآنَ الأوان لتغييرها الجذريّ. لماذا ندرس إذاً التاريخ؟ وما هي وظيفة العيون والعقول؟.وهل الندامة تجدي بعدَ الموت؟

على أنَّ كل من يريد – إيماناً منه – بإلا يقتنع بهذا المنطق ويأخذ جانباً في هذه ِالفوضى الخلاّقة الحرّاقة فهو حرّ شرط ألاّ يعود إلاّ بعدَ أنتهاء الثلاثين سنة أو أكثر حسبما يرتئي العقلاء في هذا الوطن في حال تبنّي الفكرة. إلاّ أنّنا لا نقدر أن ننقع أدمغتنا في دسْتٍ من الأسيد وننتظر الأسوأ.

بعد إنقضاء الثلاثينَ عاماً – في حال الموافقة على المشروع – نحتكم إلى استفتاءٍ عام يستلزمُ تمديدهُ أو إلغاؤهُ الحصول على خمسة وسبعينَ في المئة من الأصوات المقترعة التي يجب أن لا تقلْ عن خمسين بالمئة.

في الحديث الشريف: من اجتهدَ واخطأ فلهُ أجر وإذا ما أصاب فلهُ أجران أمّا أنا ( والله يشهد ) فلا أريد لا اجراً ولا أجرين. إنّما أسعى لخلاص شعبي حسبما يملي عليَّ عقلي ووجداني وضميري عساني ألاّ أكونَ من المخطئين.

أما آنَ لنا أن نعتبر – ولو قليلاً – يا أُولي الألباب؟ هذا هو التساؤل الكبير…