ليتهم يتشبهون بوليد جنبلاط

دافيد عيسى (الديار)

وليد جنبلاط مالىء الدنيا وشاغل الناس. هكذا كان وهكذا يبقى. تتبدل الظروف وتتحرك الأوضاع صعوداً وهبوطاً ويبقى جنبلاط محوراً أساسياً من محاور الحركة السياسية مفعماً بالحيوية والنشاط رغم المخاطر الامنية.

تتفق مع وليد جنبلاط أو تختلف معه، لكنك في الحالين لا يمكنك الا ان تعترف به كظاهرة سياسية غير مسبوقة. هذا الرجل القادر على التكيّف والتأقلم مع كل الأزمات والأوضاع. هذا السياسي ” الرادار” القادر على التقاط كل انواع الذبذبات والاشارات السياسية. هذا السياسي ” المحنك ” القادر على فكّ الالغاز والشيفرات واتقان فن المناورة بكل اشكالها ومفاجأة خصومه كما حلفائه من حيث لا يتوقعون في الوقت الذي يختاره او يراه مناسباً، انه يملك صفات الزعيم الحقيقي فهو قادر على اخذ طائفته وحزبه وناسه الى حيث يذهب ويميل فهم يثقون به وتجاربهم معه حتى اليوم لم تكن مخيبة …

استطاع وليد جنبلاط ان يجعل حجمه السياسي يفوق بدرجات حجمه الواقعي ليصبح دوراً مرجحاً وليكون “بيضة قبان ” حتى لو انه لا يحب هذه الكلمة.

وليد جنبلاط يسير وطائفته تلحق به وكلها ثقة انه لن يأخذها الى الهاوية، همه الاكبر حماية طائفته والمحافظة على دورها ووجودها، فهو يجيد لعبة السير بين ” النقاط” ولغة المواقف السياسية التي تُقرأ ما بين السطور وما وراء الكلمات.

لا تشعر مرة ان وليد جنبلاط مأزوم أو في مأزق فله لكل مقام مقال ولديه الموهبة والقدرة للافلات من الأزمات والخروج من الانفاق وإيجاد مخارج حتى لو اضطره الأمر إلى ممارسة حركات سياسية بهلوانية وممارسة تأثيره و” سحره ” على الآخرين …

ما دفعني إلى هذه المقدمة وإلى التحدث عن وليد جنبلاط باعجاب وحماسة، ما يقوم به من دور وطني جامع وحركة لافتة وتفاعل مع الناس وهواجسهم وقلقهم وما أظهره من سياسة متزنة ومتوازنة خلال هذه الايام الخطرة والمصيرية التي نعيشها …

وليد جنبلاط كان السبّاق في اكتشاف الخطر الفعلي والداهم الذي أوجده تنظيم ” داعش ” واخواته منذ ثلاثة أشهر، وأدرك خطورة المرحلة وحجم التهديدات وحدد السقف السياسي للمواجهة داعياً بوضوح وحزم إلى دعم الجيش واحتضانه والالتفاف حوله وتحصينه وحمايته سياسياً ووقف كل انواع التشكيك والانتقاد بحقه… كما دعا إلى التوقف عن التصويب سياسياً على حزب الله ووضع مسألة قتاله في سوريا جانباً اقله في الظرف الراهن وعدم الخوض في المسائل السياسية الداخلية الخلافية لان هناك اولويات اهم واخطر، وان الوقت ليس وقت تجاذبات وصراعات سياسية، بل انه وقت تحصين الساحة الداخلية ووقف التجاذبات العقيمة والوقوف يداً واحدة في وجه ما هو آت على لبنان.

استشعر جنبلاط خطر الفتنة النائمة مع تمدد الأزمة السورية إلى الداخل اللبناني عبر الحدود الشرقية. ولذلك قدّم نفسه وسيطاً بين السنّة والشيعة وقد اثمرت هذه المساعي على ولادة حكومة تمام سلام الذي كان جنبلاط مساهماً أساسياً في وصوله إلى رئاسة الحكومة وفي حصول توافق حوله . كما سعى ويسعى إلى بناء جسور الثقة والتفاهم بين (السنة – والشيعة) والدفع باتجاه قيام حوار بين تيار المستقبل وحزب الله لما يمثل كل فريق من ثقل داخل طائفته وفي المعادلة الوطنية واجرى من اجل ذلك سلسلة لقاءات بدأها مع السيد حسن نصرالله في تموز الماضي، ومع الرئيس سعد الحريري خلال زيارته السريعة الى لبنان وبعدها في العاصمة الفرنسية ناصحاً قطبيّ الطائفتين (الشيعية والسنية) بألا ينتظرا ما سيؤول اليه المسار السعودي – الايراني، لأن الحوار بين الرياض وطهران قد يطول، وملفاته تتوزع بين اليمن والعراق وسوريا والبحرين ولا احد يعرف أين موقع لبنان وسط هذه الزحمة.

وعندما شعر جنبلاط بحجم القلق داخل طائفته ولدى جمهوره، لم يتردد في النزول إلى الارض والقيام بجولة مناطقية واسعة متجاوزاً المحاذير والحجج الامنية، وفي كل محطة خاطب جنبلاط ابناء طائفته بلغة صريحة مباشرة لا عقد فيها ولا مواربة. ففي مناطق الجبل القريبة من الضاحية الجنوبية، دعا جنبلاط مناصريه إلى التفاهم والتعاون مع حزب الله انطلاقاً من ان الجبل والضاحية منطقة واحدة في أمنها ومصيرها والمخاطر التي تهددها هي مخاطر مشتركة، وفي المناطق الدرزية الحدودية بين حاصبيا وراشيا حيث هاجس تمدد “النصرة” عبر خطوط جبل الشيخ من القنيطرة إلى شبعا، حثّ جنبلاط الدروز على التفاعل والاندماج مع عمقهم ومحيطهم السني وعلى بناء الجوامع والالتزام بالفرائض الخمس… وجنبلاط الذي يقلقه جداً خطر الفتنة الشيعية – السنية، لا يسقط من حساباته وهواجسه احتمال قيام فتنة سنية – درزية تنطلق شرارتها من السويداء وحوران في سوريا ويصل حريقها إلى لبنان في جنوبه وبقاعه الغربي، فاستبق الامور وزار تلك المناطق محذراً ومنبهاً وداعياً الى الوعي والاندماج مع المحيط بما يحترم خصوصية كل طائفة …

وعندما تيقّن جنبلاط ان الأزمة السياسية تلقي بظلالها وثقلها على مجمل الوضع اللبناني وان الفراغ الرئاسي يؤدي إلى تعطيل المؤسسات وشلّ الحكومة والحدّ كثيراً من طاقتها وانتاجيتها، ومع انه يعلم ان الموضوع الرئاسي ليس داخلياً فقط بل يلزمه توافق اقليمي وان اغلبية القوى السياسية اللبنانية غير قادرة على اتخاذ اي موقف في هذا المجال بسبب ارتباطاتها الخارجية، وعلى رغم من كل ذلك لم يتردد في طرق الباب المسيحي والقيام بجولة على كل قادة الاحزاب المسيحية الاربعة واضعاً خصومته السياسية مع البعض جانباً ومتطلعاً الى المصلحة الوطنية العليا التي يجب ان تتقدم على كل ما عداها .

هذه الجولة التي لم تستثن احداً عكست اعترافاً بالدور السياسي والوطني للمسيحيين وان الحل غير ممكن من دونهم، وانه لا يمكن ولا يصح ان يتم الاتفاق على اسم رئيس عبر صفقة ثلاثية أو رباعية محصورة بين القوى الاسلامية، وان تكون من وراء ظهر المسيحيين وعلى حسابهم… واليوم يتأهب لزيارة بكركي التي يعوّل على دورها في اعادة صياغة وتصويب الموقف المسيحي العام واعادة جمع قادة الاحزاب الاربعة تحت سقفها لعلهم يتفقون حتى لا نقول لعلهم يتعظون .

وليد جنبلاط في حركة لا تهدأ لو انها حركة عكس التيار والواقع والمناخ السائد في المنطقة. ففي ظل وضع مقفل يحاول جنبلاط ان يسجل اختراقات، وفي ظل جمود قاتل يضفي جنبلاط حيوية وبريقاً على الحياة السياسية، وفي زمن الاحباط والقلق على المصير يحاول جنبلاط ان يعطي بارقة أمل.

وليد جنبلاط يحاول ويتحرك، بينما السياسيون اللبنانيون عموماً والمسيحيون خصوصاً مستنكفون عن القيام بأي مبادرة او التنازل لمصلحة الوطن والبعض الاخر يعيشون في عالم آخر ويتلهون في تسجيل النقاط وفي اطلاق التصاريح التي سئمها اللبنانيون والذي حفظوها على ظهر قلب، عوضاً عن فتح حوار مع خصومهم السياسيين والبحث عن مخارج وحلول لما يتخبط به الوطن …

والمفارقة هنا ونقولها بكل حسرة ان ما يقوم به جنبلاط هو ما كان يجب ان يقوم به السياسيون المسيحيون، لكن بدل ذلك تراهم مختلفون فيما بينهم يقتلهم الحقد والكراهية والطموحات الشخصية . فهم لا يجتمعون حتى على المسائل الاساسية التي تندرج في إطار المصلحة المسيحية العليا ولا يجمعهم مشروع سياسي فهم لا يعرفون ماذا يريدون وأي خيارات يسلكونها، وليست لديهم مبادرات ومحاولات للخروج من المأزق الذي يعنيهم أولاً ويعني طائفتهم وشعبهم …

وهنا يحق لنا أن نسأل بصراحة ووضوح لماذا لا يقوم السياسيون المسيحيون بدورهم الوطني والاتفاق فيما بينهم على اخراج الموقع المسيحي الاول في الدولة من اطار الاحقاد المزمنة والطموحات الشخصية والمصالح الخاصة حتى لا يخسر المسيحيون رئاسة الجمهورية الى الابد، ولماذا لا يقومون ايضاً بدورهم كجسر حوار وتفاهم بين السنة والشيعة عاملين على تقريب المسافات والمواقف فيما بينهم، عوضاً على اصرارهم على ان يكونوا في موقع التبعية ملحقين بهذا الفريق أو ذاك ومقسمين بين مسيحيين شيعة ومسيحيين سنة ؟

هل يدرك هؤلاء السياسيون حجم القلق الوجودي لدى المسيحيين ؟ ماذا فعلوا لتطمينهم وتهدئة روعهم؟ هل خاطبوهم أم زاروهم في مناطقهم وبلداتهم متفقدين احوالهم مطمئنين على اوضاعهم؟ لماذا لا يتحاورون بين بعضهم البعض في وقت ان باستطاعتهم محاورة حزب الله والتفاهم معه وكذلك التحاور مع تيار المستقبل والتفاهم معه؟ وهل التفاهم المسيحي – الاسلامي اسهل من التفاهم المسيحي – المسيحي؟

وليد جنبلاط واصل اضاءة هذه الشمعة في هذا الظلام الدامس الذي يخيم على الوطن، مدّ جسور الحوار مع كل القوى والاحزاب السياسية، قل لهم ان الوطن في خطر وان الشعب يئن من الالم والفقر والعوز والخوف على المستقبل والمصير، علمهم كيف يحمون طائفتهم وناسهم في هذه الظروف الخطرة التي تعيشها المنطقة، علمهم الحوار وفن الحوار، علمهم قبول الآخر…

في الختام اقول ان اللعنة التي حلت علينا منذ رحيل الكبار كميل شمعون وريمون اده وبيار الجميل وسليمان فرنجية وبشير الجميل وغيرهم من قيادات الزمن الجميل طال امدها واصبحت لا تطاق مع هكذا طبقة سياسية عيونها فارغة وبطونها جائعة على السلطة … لكن اعلموا ان التاريخ لن يرحمكم.