الحوار والتعقل قبل فوات الأوان

غازي العريضي (الاتحاد الاماراتية)

في العراق سقوط جديد للجيش وتقدّم لتنظيم «داعش». الأنبار تكاد تكون بالكامل تحت سيطرة التنظيم الإرهابي. و«عين الأسد» مهددة، وهي موقع عسكري مهم في تلك المنطقة. تجربة تتكرر بعد الموصل. ومفاجآت. كيف سقط هذا الجيش الذي كلف مليارات الدولارات؟ سجالات ونقاشات وتعليقات تقول: المواقع العسكرية تباع في العراق حسب البورصة، حسب أهميتها. والفساد ينخر مؤسسات الدولة والكل يبيع ويشتري! في المقابل اتهامات لدول من أميركا إلى إيران وتركيا، تجسّد كلها حال الانقسامات المخيفة المسيطرة على العراق والمستمرة بعد تشكيل حكومة العبادي التي لم تكتمل بعد بتعيين وزيري الداخلية والدفاع، وبالتطمين المطلوب للطائفة السنية وعشائرها ورموزها، ولا بالاتفاق المالي والأمني مع الأكراد، لأن العلاقة مع الطرف الكردي وبحكم التطورات في العراق وسوريا والموقف الإيراني، هي أقرب منها إلى العلاقة مع المكون السني!

ويترافق ذلك مع نقاشات حول التدخل الأميركي من خلال التحالف الدولي أو غيره. نقاشات حول عودة الجيش الأميركي إلى العراق. كان مرفوضاً، وكان احتلالاً، فهل تصبح عودته مطلباً اليوم من خلال التأكيد على أن التدخل الجوي ليس كافياً لوقف تمدد «داعش»؟ إنما ينبغي التوافق على تدخل بري؟ أميركا زادت عدد مستشاريها وأمنييها ومخبريها وخبرائها. وثمة من يطالبها بوجود كثيف أكبر. وهي بدورها تطالب دولاً عربية بالتدخل البري إلى جانب أبناء المدن المعنية بالحرب الذين يجب أن يكونوا القوة الأساس المواجهة للتنظيم والمستفيدة من التدخل الجوي والبري. وثمة من يتحدث عن حفلة ابتزاز مفتوحة تتبادل فيها القوى المعنية الدولية والإقليمية والمحلية الأدوار في اللعب، فيصبح طلب النجدة الأميركية ضرورة، ولذلك أثمان من إيران إلى العراق إلى سوريا إلى الخليج! ومع تكريس الاقتتال المذهبي على الأرض، والسعي لبناء جيش عراقي جديد، وإنفاق مليارات إضافية من الدولارات، رغم الخلاف القائم حتى الآن على مكونات الجيش وكيفية إعادة تركيبه وهيكليته لإشراك كل القوى فيه وإعطاء التطمينات المطلوبة كي لا تتكرر تجربة المالكي، والسياسات الأميركية السابقة أيضاً!

في اليمن، سقوط مفاجئ للجيش. الحوثيون سيطروا على صنعاء وكان قادة اليمن يكابرون وينفون حصول مثل هذا الاحتمال، فأصبحوا أمام واقع وحقيقة. وقّع اتفاق سلام على قاعدة التوازن الجديد، واتهمت إيران بدعم الحوثيين. وعبّر المسؤولون الإيرانيون عن ارتياحهم لـ«النصر المؤزّر» الذي تحقق. لم يكتف الحوثيون بذلك، بل سيطروا – ودون مقاومة – على «الحديدة» وأطلوا على البحر. وأحد شروطهم كان الحصول على منفذ على البحر! حصلوا عليه اليوم، فانهار الجيش. دخلنا أكثر فأكثر في الحرب المذهبية وفي مشروع التفتيت مع توجه الجنوب نحو الانفصال، وعودة الدولة القديمة كما قال رئيس اليمن الجنوبي السابق علي سالم البيض. وتحركت مظاهرة مليونية في الجنوب، في إشارة إلى احتمال الانفصال رداً على ما جرى في صنعاء. وفي النهاية البلد مشلول. ساحة صراع وتجاذبات وحسابات ومنافذ برية وبحرية لقوى دولية وإقليمية، وفقر مدقع! والفتنة المذهبية فوق الجميع.

في سوريا، جيش منهك، وخسائر بشرية كبيرة في صفوفه. حالة من الفوضى في البلاد. مناطق عديدة خارج سيطرة النظام. في كوباني حسابات دولية هائلة يدفع ثمنها الأكراد. التحالف يتحرك في بغداد للأسباب التي ذكرنا ويتردّد ويتلكأ في سوريا. لكل طلعة حساباتها، في إطار مترابط. فأميركا عينها على الواقع كله من «عين العرب» إلى «عين الأسد» إلى طهران والخليج وكل المنطقة. فرفعت شعاراً واحداً، لكنها لا تعتمد معياراً واحداً. بغض النظر عن صدقية الشعار وحسابات المعايير المختلفة!

تركيا تتردّد في التدخل، وتريد ثمناً: في سوريا، المنطقة العازلة. ارتد الأمر عليها مشكلة مع الأكراد في الداخل وتهديداً لمسيرة الاتفاق مع «حزب العمال الكردستاني». فرنسا تؤيد المنطقة العازلة. أميركا لا تريدها الآن، والكل يريد تدخل تركيا. خلاف مع أنقرة على استخدام قواعدها من قبل القوات الأميركية في العمليات ضد «داعش» في كوباني. والتنظيم يتقدم عراقياً وسورياً على الأرض، وثمة تساؤلات كثيرة حول إمكانية إيقافه بعد سيطرته على مساحات شاسعة من الأرض! وتساؤلات عن خلفية اللعبة الأميركية: الجيوش تسقط وتنهار في أكثر من بلد، والفوضى تعم الأرض العربية والنار في كل مكان والفتنة المذهبية تهدد الجميع، ولكل حساباته.

الرئيس الأميركي عقد اجتماعاً للتحالف الدولي في أميركا، بمشاركة ممثلي الدول العربية والغربية. العنوان: استراتيجية مواجهة «داعش» لا اتفاق على بعض الآليات والتفاصيل في المواجهة. وانتهى الاجتماع بالحديث عن مرض «إيبولا» الذي يشغل العالم اليوم، والتأكيد أن المواجهة مع «داعش» قد تأخذ وقتاً طويلاً.

وفي سوريا أيضاً، وإلى جانب الحديث عن إعادة بناء الجيش العراقي، وبعد التردّد الأميركي في دعم المعارضة السورية منذ البداية، يجري الحديث اليوم عن إعادة بناء قوات معارضة «معتدلة»، وغداً يقال لها لن نعطيك سلاحاً فتاكاً! المعزوفة الأميركية منذ سنوات! جاءت إشارة تركية، نعم لبناء قوات من هذا النوع تواجه النظام والتنظيم في آن معاً.

في هذا الوقت عاد التوتر إلى العلاقات السعودية الإيرانية بعد تصريحات متبادلة، وبعد أن كان كثيرون يتوقعون جولة مفاوضات جديدة بين الدولتين كما وعد بذلك المسؤولون الذين التقوا في نيويورك. هذا التوتر، والأحداث على الأرض، ترافقهما نقاشات في كواليس مراكز القرار والعواصم والأندية الدبلوماسية ومراكز الأبحاث والدراسات وفي أوساط الإعلاميين، عن «الإرهاب السني» و«الاعتدال السني»، و«الإرهاب الشيعي» و«الاعتدال الشيعي». وهل يضرب «الإرهاب السني» ويبقى «الإرهاب الشيعي»؟ وهل يكون البازار مع «الإرهاب الشيعي» الأربح؟ وثمة نقاشات في دوائر بعض أنظمة الحكم حول هذه المسائل، بلغت حدّ الانقسام في عدد من المراكز.

المنطقة تغلي، والنار في كل مكان، وإسرائيل المستفيد الوحيد من كل ما يجري. وأميركا تعود للتحكم بمفاصل هذه اللعبة الخطيرة التي تهددنا وإن كانت ستصيبها شظاياها في مراحل معينة كما قال رئيسها في اجتماع التحالف: «المواجهات مفتوحة وفيها نكسات وعقبات ونجاحات»!

لكن بالتأكيد الخاسر الأكبر هم نحن. ورغم كل ما جرى ويجري لا يزال الوقت متاحاً للتفكير بعقل بارد ولحوار إيراني عربي لتفادي سقوط الجميع وابتزاز كل المنطقة ورهن خيراتها ومصيرها والتحكم بها من قبل الآخرين. هي دعوة للعقلاء.. ألا بادروا الآن قبل فوات الأوان.