نبيه بري..

صلاح تقي الدين

منذ أن تولى رئاسة مجلس النواب في العام 1992 وحتى اليوم، أثبت الرئيس نبيه بري أنه أحد الأرقام الصعبة في الحياة السياسية اللبنانية واكتسب لقب “الاستاذ” ليس انطلاقاً من كونه محامياً، بل لأنه أدار المجلس، ولا يزال، كما يدير “المعلم” قاعة الصف الذي يلقّن فيه تلامذته دروسهم.

كثيراً ما تختلف مع “الاستاذ” في مواقفه السياسية من هذا الموضوع أو ذاك، ويؤخذ عليه أنه اعتبر المجلس في ساحة النجمة “ملكية” خاصة له يوصد بابها بالمفتاح ساعة يشاء، ويفتحها حين يرتأي ذلك، لكنه لم يتخلّ يوماً عن دوره الجامع لـ “الأضداد” في السياسة ويمارس لعبته المفضّلة بـ “سحب الأرانب” لاجتراح الحلول حين تكون الآفاق مسدودة.

ولا يختلف اثنان عاقلان في لبنان اليوم على أن الرئيس بري صار مع وليد جنبلاط ركيزتي جسر يردم الهوة بين اللبنانيين ويربط في المقابل بين ضفتي ذلك الانشطار .. بل هو في رأي مريدين وبعيدين، حلفاء وأخصام، صمّام أمان يمنع قنبلة الفتنة من الانفجار.

كثيرون أصيبوا بنوع من الارتباكفي توصيفه: هل هو مسؤول لبناني آت من مدرسة الامام المغيّب موسى الصدر التي وضعت مصلحة لبنان في مقدّم شعاراتها و”قاتلت” كل من قاتلتهم من أجل تأكيد التمسّك بالدولة ولبنان باعتباره وطناً نهائياً لأبنائه جميعاً؟ أم أنه مسؤول لبنان وضعته الوصاية السورية في مكانه، ثم غيّرت رأيها به ووضعته في دائرة الاستهداف لأنه لم “يلتزم” تماماً توجيهاتها وقدّم لبنانيته على ما عداها؟

jomblat-berri

 لكن هذا الارتباك لا يلغي الحقيقة القائلة بأن الرئيس بري لبناني بالهوى والهوية، ومسلم بالعقيدة ومسيحي بالميثاق، شيعي بالانتماء وسنّي بالعروة الوثقى ونبذ الفتنة، وفي النتيجة، هو رجل اعتدال ووسطية، ويعرف أكثر من غيره أن لبنان لا يمشي بالقهر والقسر، ولا بالنفي أو الاكراه، ولا بالحديد ولا بالنار، ولا بالاغتيال ولا بالكفر ولا بالارهاب، بل هو وطن مضاد بالفطرة والتركيبة لكل تلك المعطيات الشيطانية، ولكل تلك الأهداف التي أرادت وتريد أخذه وأهله إلى مهاوٍ موحشة وكئيبة، قتّالة وقهّارة، يابسة وجافة حارقة وأسيدية.

يشبه كثيراً وليد جنبلاط بهذا المعنى .. ولمن يشاء وليد جنبلاط يشبه نبيه برّي كثيراً بهذا المعنى، ولذا لم يُبذل جهد كبير من أجل وصولهما سوياً وفي اللحظة ذاتها إلى المكان ذاته والخلاصة ذاتها: الذهاب إلى المستحيل لمنع الحرب، واجتراح المعجزات لمنع الفتنة، التطرّف في الاعتدال لمواجهة التطرّف وعدم تعويف طريقة أو مناورة أو تكتيك في هذه “المعركة” التي لا تشبه بالتأكيد معارك النفي والاكراه والتكفير والارهاب في هذه الأيام.

نبيه بري قد يكون أحد آخر “الكامشين” على عروبة الشيعة ولبنانيتهم، وأحد آخر المواقع المانعة لجعلهم وقوداً لفتن لا تبقي ولا تذر، وأحد آخر المحافظين على الروحية التاريخية للشيعة اللبنانية ومعانيها السياسية المباشرة لجهة التمسّك بالدولة ومشروعها وبالمؤسسات الشرعية على حساب نقائضها “الشارعية”، وبالميثاق الوطني باعتباره عنواناً حتمياً لتعايش مجموعات متمايزة في إطار مشترك واحد اسمه .. لبنان.

.. قل ما تشاء عنه، لكن نبيه بري “أستاذ” لبناني قبل أي شيء آخر.