نتنياهو وفلسفة قلب الحقائق

محمود الاحمدية

منذ نصف قرن قال الرئيس جمال عبد الناصر:

ان ظاهرتين هامتين، متشابهتي الطبيعة بيد انهما متعارضتان، لم تجذبا انتباه احد: يقظة الأمة العربية وجهد اليهود الخفي لاعادة تكوين مملكة اسرائيل القديمة على نطاق واسع ومصير هاتين الحركتين ان تتعاركا باستمرار حتى تنتصر أحداهما على الاخرى.

بعد قراءتي لكتاب رئيس وزراء اسرائيل الحالي بنيامين نتنياهو “مكان بين الامم” الصادر عام 1996، اول ملاحظة ترتسم امامك الاستقراء الاعجازي الذي كان يملكه الزعيم العربي الخالد جمال عبد الناصر وكانه يتنبأ بكل صفحات كتاب نتنياهو الذي وعبر 420 صفحة، يحفر في الصخر ويجتهد حتى يثبت حقيقة “أرض اسرائيل” ويشطب تاريخاً كاملا” للفلسطينيين بطريقة لا تنطلي حتى على السذج من الأطفال.. قيمة هذا الكتاب هي تسليط الضوء على الفكر الحقيقي لنتنياهو وماذا يواجه العرب من تعنت وتعصب وعنصرية وحقد وتعمية الحقائق.. أول ما يلفتك في الكتاب طمس الحقائق التاريخية والقفز فوق الجغرافيا وغوغائية التاريخ اليهودي دون وازع من ضمير للحفاظ على أخلاقيات الأمانة العلمية والتاريخية، وكان التركيز واضحاً على مأساة الشعب اليهودي أثناء الحكم النازي استدراراً لعطف الحكومات الغربية وتحميلها مسؤولية هذه المأساة، وشدد على قدرة الشعب اليهودي الذي تعملق حسب رأيه على هول المحرقة (الهولوكوست) والأفران حسب تعبيره لم تحطم الروح اليهودية مما يعزز طرحه على أهمية شعب الله المختار وأنه شعب وجد حتى يكون السيد المطاع وما عداه خدما”.

لاحظنا أنه حاول المستحيل حتى يؤكد أحقية اليهود في أرض فلسطين عندما خلط أوراق التاريخ والجغرافيا والتوراة والتلمود مستشهداً بشهادات صهيونية مشكوك في كل تفاصيلها وتواريخها.. وشدد على تسمية “أرض اسرائيل” بدلاً من فلسطين عازفاً على لحن الديمقراطية الموهومة والتي حاول الصهاينة منذ احتلالهم أرض فلسطين أن يميزوا شعبهم وحكمهم بها.. وليس من باب التجاهل او المكابرة القول آخر من يحق لهم ادعاء الديمقراطية، فالتمايز موجود حسياً ما بين اليهودي الغربي واليهودي الشرقي والعلماني والمتدين والفلاشا والطامة الكبرى هي في العربي الاسرائيلي الذي يتربع على آخر السلم… صحيح أننا نشهد مشدات في مجلس نوابهم ومناقشات صريحة وحزب ليكود وحزب عمل وأحزاب أخرى وفضائح يحاولون مقاضاتها ومتابعتها وتحليلات لهزائمهم وانتصاراتهم وطرق انتخابات على الطريقة الغربية مثل الأمم المتحضرة، ولكن الحقيقة تجافي ادعاءاتهم عندما يتعلق الأمر بتصنيف الشعوب وتراتبيتها في سلم الاولويات الاسرائيلي.. هي طريقة ذكية متميزة براقة تلمع وتسحر الغرب والشرق ولكنها تخفي حقائق مرعبة عن نظرة بعضهم الفوقية للبعض الآخر، وعن حقدهم على كل ما هو عربي بينهم وخنقهم لكل صوت حر وايداعهم السجون كل من تجرأ ونادى بصوت عال عن حقوق الفلسطينيين بينهم، الشاعر سميح القاسم واشعاره وقصصه وسجنه وعذاباته تركت بصمات خالدة في الثقافة العربية تبرز ظلم الانسان للانسان.. هذا على سبيل المثال لا الحصر..

حاول نتنياهو تجاوز مسألة الأقتتال على الارض بين الاسرائيليين والعرب معتبراً انها من المسلمات وانها “ارض اسرائيل” وحاول تحريف الحقائق على اساس ان كره العرب لهم يعود لتربية الشعوب العربية البعيدة عن الديمقراطية مما خلق شعوراً عند العرب بالكره للديمقراطية الغربية، وبما ان الديمقراطية الاسرائيلية هي المثال والمعجزة فانتقل كره العرب للغرب الى كرههم لاسرائيل!! هكذا بكل وقاحة وصفاقة وطمس لتاريخ فلسطين وكانه ليس هناك قضية ولا ارض ولا شعب فلسطيني! يتقاتلون مع اليهود لانهم يكرهون نظامهم الديمقراطي! كل العرب يقاتلون حسداً من نظامهم الديمقراطي، منتهى العهر في التحليل وهو تحليل براق وخطير! ليت شعوبنا وحكامنا يقرأونه. ومن هنا نجد ضخامة الهجمة الاسرائيلية على لبنان بالذات لأنه يشكل نقيض كلام نتنياهو وحقيقة دامغة تكذب وتدمر كل نظرياته.. لذلك هم مستعدون لعمل المستحيل للتخلص من هذا الولد الشقي المشاغب الذي اسمه لبنان الذي يتناقض مع نظامهم وطريقتهم، وانتصار المقاومة عام 2000 جعل عقدتهم تجاه لبنان تتعمق وتذهب بعيداً في تفكيرهم لكيفية الخلاص من هذا البلد المجاور الذي شكل مثلاً ناجحاً منتصراً علّ مسؤوليه يدركون اهميته ومحورية وجوده!!

والأنكى من كل ذلك عندما يتكلم نتنياهو عن الحضارة الغربية وتقاربها مع حضارته فيقفز عن سابق عمد واصرار عن حقيقة تاريخية ان العرب هم اساس الحضارات وهم آباء العلوم والآداب والطب والفلك وان الغرب لايستطيع ان يتخلص او ينكر هذه الحضارة التي كانت سبب نهضته، وان ايام الاندلس تشهد بأن العائلات الغربية كانت تتباهى بأنها تعلم ابناءها في جامعات الاندلس العربية وكان الغرب يغط في ظلام دامس عمره مئات السنين! والملاحظ وعلى مدى عشرات الصفحات ان نتنياهو حاول جهده لتحطيم كل ما جاء على لسان اليسار الاسرائيلي بشكل عام والشيوعيين الاسرائيليين بشكل خاص، ويتهمهم بأنهم يعيشون احلام اليقظة وانهم بعيدون عن فهم حقيقة دامغة بان العرب ومهما حاولوا ابراز صورتهم المعتدلة فهم شعب حاقد، ومهما كانت الحلول السلمية مقبولة منهم فهم يؤكد بانها ستكون مرحلية وستكون حدوداً جديدة متحفزة دائماً للقضاء على اسرائيل! ولا امل بقيام دولة فلسطينية هي مقدمة لقنابل موقوتة تحيط باسرائيل وخلفها طوفان عربي مسلم حاقد،ومجرد ان تأتيه اللحظة التاريخية فلن يتردد هذا المحيط ان ينقض على اسرائيل ويلقيها في البحر.. ضمانتهم في “ارض اسرائيل” هي الروح اليهودية المتوثبة دائماً وابداً، المسلحة بالفكر الصهيوني والثقافة الصهيونية وبالسلاح الرادع المتفوق وبالاراضي التي احتلتها منذ 1948 حتى1967 لانها الضمانة الوحيدة لبقاء اسرائيل موجودة في هذا العالم!! منتهى التطرف والعدائية والخلفية السوداء التي يتحلى بها نتنياهو! هذا هو المحاور الحالي للعرب!

من عجيب الصدف انه وبطريقة متذاكية يتهم العرب بانهم مبدعون في دعايتهم وفي اعلانهم!! وان اليهود تنقصهم اسس الدعاية والطريقة الاعلامية الذكية للعرب في تصوير الشعب الفلسطيني المقهور واستعمال مصطلحات مثل: “الاحتلال الاسرائيلي”، و”الشعب المشرد”، و “ارض عربية” وحسب قوله ان هذه العبارات تخدم العرب اكثر بما لايقاس من انتفاضة الشعب الفلسطيني! ويقول بان التلفزيونات خطيرة بما لايقاس بمصلحة القضايا العربية وان اسرائيل تدفع الثمن غالياً لتخلفها في البعد الاعلامي! هكذا حرفياً!!

وفي الصفحة 407 يقول حرفياً متهماً الاعلام العربي بالكذب: “كان أهم حدث في حرب لبنان، هو قضية الرئيس الاميركي ريغان والطفلة الفلسطينية مبتورة اليدين، بدأطرد الجيش الاسرائيلي قوات منظمة التحرير الفلسطينية من جنوب لبنان، بدأ بعملية قصف انتقائية على معقل المنظمة في غرب بيروت، وكان الهدف ارغامها على الاستسلام، وفي ذروة حصار بيروت، عرضت على الرئيس رونالد ريغان صورة لطفلة فلسطينية صغيرة فقدت ذراعيها نتيجة للقصف الاسرائيلي.

عندئذ اتصل ريغان وهو بحالة تأثر وغضب شديدين برئيس الحكومة الاسرائيلية مناحيم بيغن وأبلغه أن القصف الاسرائيلي يجب ان يتوقف فوراً وهكذا كان، ويزيد نتنياهو انه كان في ذلك الوقت يعمل كسكرتير سياسي في سفارة اسرائيل في واشنطن وعندما شاهد الصورة طلب تكبيرها، وقال انه كلما زاد تكبير الصورة زاد الشك لديه بأنها مزورة حسب قوله، وانها لم تصور اثناء الحرب الاسرائيلية بتاتا، وطلب من قيادة الجيش الاسرائيلي في بيروت العثور على الطفلة وبعد بضعة ايام عثر عليها وتبين حسب قوله انها مصابة ولكن منذ سنوات عديدة قبل الحرب على ايدي عرب، ويستطرد لم يكن آنذاكِ بالإمكان اصلاح ما حدث، تغلغلت حقيقة وحشية اسرائيل في وعي ملايين الناس في الولايات المتحدة والعالم كله!!! هذه الصورة لخطورة نتنياهو ومحاولته قلب الحقائق، هي حادثة تدل على عدم امانته وبراعته في قلب الحقائق وهذا ليس بالجديد على الصهاينة ولكن الخطورة تكمن في ان المتربع حالياً على عرش الحكومة هو نفسه نتنياهو!! فحري بالعرب حكاماً وشعوباً بشكل عام وباللبنانيين شعباً وحكاماً ومسؤولين بشكل خاص ان يقرأوا فكر عدوهم واستَِراتيجيته وهو من اخطر الذين تربعوا على سدة الحكم في فلسطين المحتلة!

هذه المقالة تشكل رسالة تنقل تفاصيل دقيقة تاركة للقارىء ان يحلل ويرى ويسمع ويقارن وصولاً الى الحقيقة دامغة: كيف لوطن ان يشمخ وفيه كل هذا التجاهل والتعامي عن واقع العدو المتربص بنا وعلى رأسه نتنياهو!

اقرأ أيضاً بقلم محمود الاحمدية

لبنان لن يموت

أكون حيث يكون الحق ولا أبالي

لماذا هذا السقوط العربي المريع؟!

جشع بلا حدود وضمائر ميتة في بلد ينهار!

جاهلية سياسية… بل أكثر!

معرض فندق صوفر الكبير والتاريخ والذاكرة

قال لي: عندما تهاجم الفساد ابتسم بألم!!

إذا أجمع الناس على مديحك سوف أطردك!!

التاريخ لا يرحم… يجب إعادة كتابته

ما هو دوري كوزير جديد؟

مشروع كمّ الأفواه تدمير للبنان الرسالة

الجامعتان اليسوعية والأميركية تنسحبان: التعليم العالي في خطر

السويداء في عين العاصفة

تقريران رسميان متناقضان عن تلوث بحر لبنان

في ذكراها الـ 74 اسمهان: قصصٌ خالدة

طبيعة بلا حدود ربع قرن من النضال البيئي

فريد الأطرش وشوبرت والفن العالمي الخالد

يوم البيئة العالمي: التغلب على تلويث البلاستيك

قطعة الماس في جبل من الزجاج

مسيرة منتدى أصدقاء فريد الأطرش تشع في دار الأوبرا في القاهرة