هشيم المناطق السورية المحاذية لإسرائيل

  في الوقت الذي يركّز فيه العالم على تقدّم تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق وسوريا» («داعش»)، تتمدّد الحرب السورية إلى مرتفعات الجولان الواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية. ففي 28 آب/ أغسطس، استولت مجموعات الثوار السوريين بقيادة ذراع تنظيم «القاعدة» – «جبهة النصرة»، على مدينة القنيطرة الحدودية القديمة، بعد أن كانت تحت سيطرة الجيش السوري و “قوات الدفاع الوطني” المدعومة من إيران. واحتجزت «جبهة النصرة» 45 عنصراً فيجياً من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة كرهائن، ثمّ عادت وهاجمت مركزيْن آخريْن تابعيْن لقوات الأمم المتحدة، ولكن تم صدّها هذه المرة بعد أن تجاهل القائد الفلبيني أوامر الأمم المتحدة القاضية بالاستسلام. ولم يتم التوصل إلى حل لمسألة الرهائن إلا يوم الخميس 11 أيلول/سبتمبر عندما تم الإفراج عن جميع قوات حفظ السلام سالمين بعد وساطة قطرية على ما يبدو.

ولكن على الرغم من احتمال انتهاء الأزمة الأخيرة في منطقة الجولان الحدودية، لا تزال التهديدات الأكبر التي تواجهها إسرائيل قائمة. فعلى الجانب الآخر من حدودها، لا تنفكّ أعداد متزايدة من الرايات الجهادية السوداء تظهر، على بعد أمتار قليلة من نجمة داوود الإسرائيلية. أضف إلى ذلك أنّ قوات الرئيس السوري بشار الأسد وجماعات المقاومة المتأثرة بـ «حزب الله»، والتي لا تزال تعمل تحت مظلة النظام، قد نفّذت هي الأخرى هجمات ضدّ مناطق تقع تحت السيطرة الإسرائيلية في الجولان. ويثير هذا الوضع الفوضوي استياء كبير في الأوساط السياسية في القدس وينهي عقوداً من الالتزام باستراتيجية إسرائيلية للتعامل مع سوريا.

ويتمركز الثوار السوريون، بمن فيهم «جبهة النصرة»، في منطقة هضبة الجولان الحدودية منذ عام تقريباً، ويتركّز تواجدهم الأكبر في وسط “المنطقة الفاصلة” بين القوات الإسرائيلية والسورية – الخاضعة لمراقبة قوات حفظ السلام التابعة لـ “قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك” (“أندوف”) منذ عام 1974 – قرب قرى بئر عجم والرويحنة وبريقة الحدودية. ولكن على مدى الأسبوعين الماضيين، شنّت «جبهة النصرة» وخمس مجموعات سورية معارضة أخرى هجوماً في المنطقة، فدحرت قوى النظام وأخلّت بالوضع القائم على الحدود الذي استمر لمدة أربعة عقود.

ويقول مسؤولون إسرائيليون إنّ الهجوم الأخير قد أدخل عنصريْن جديديْن على الجبهة السورية الجنوبية، قد يغيّران قواعد اللعبة. أولاً، وسّعت «جبهة النصرة» إطار عملياتها بشكل كبير من مدينة درعا السورية الجنوبية حتى المناطق المحاذية لهضبة الجولان الحدودية. وتختلف النظريات حول دوافع هذه الجماعة الجهادية: فمصادر إسرائيلية تقول إنّ تنظيم «الدولة الإسلامية» قد طرد هذه الجماعة من شرق سوريا، الأمر الذي دفعها إلى نقل رجالها وعتادها إلى الجنوب لاستخدامهم ضدّ نظام الأسد.

إن الهجوم يجعل من الصعب على النظام استخدام الأسلحة التي يفضّلها – من بينها المدفعية وصواريخ سكود والقذائف –  ضدّ مواقع المعارضة دون المخاطرة في ضرب المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، وبالتالي دفعْ قوات “جيش الدفاع الإسرائيلي” إلى الردّ. ففي 27 آب/أغسطس على سبيل المثال، وجّه النظام قذيفتيْ مورتر نحو قوات الثوار في القنيطرة على ما يبدو، ولكنّهما سقطتا على الجانب الإسرائيلي في كروم العنب في كيبوتس “عين زيوان” الحدودي، مما استتبع ضربة إسرائيلية مضادة بعد ساعات ضدّ منشأة قيادية تابعة للحكومة السورية. ويبدو أنّ هدف الثوار بشكلٍ عام هو تخفيف الضغط على مواقعهم التي يطوّقها النظام في جنوب غرب دمشق، بما في ذلك مناطق بيت جن وخان الشيخ والمناطق غرب الكسوة.

أمّا العنصر الثاني الذي قد يغيّر قواعد اللعبة فهو التواجد المتداعي لـ “قوة حفظ السلام لمراقبة فض الاشتباك” في الجولان. ولا يشكل احتجاز الرهائن في الحرب السورية ظاهرة جديدة، ولكنّ محاولة «جبهة النصرة» الحصول على فدية مقابل إطلاق سراح عناصر قوات حفظ السلام الفيجيين الخمس وأربعين يزيد من خطورة الوضع بالنسبة إلى إسرائيل والمجتمع الدولي على حدّ سواء. فقبل التراجع عن مطالبها يوم الخميس، كانت «جبهة النصرة» قد أصدرت ثلاثة مطالب تبيّن كيف أنّ المجاهدين بعيدون كلّ البعد عن الحقائق الدبلوماسية والعسكرية. فقد طالبت «جبهة النصرة» بإزالتها عن قائمة الأمم المتحدة للمنظمات الإرهابية وإيصال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة في دمشق والتعويض عن مقتل ثلاثة من عناصرها مؤخراً خلال مواجهة مع جنود “قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك”.

وقد أفادت التقارير أن قطر لعبت دوراً في المفاوضات التي أسفرت عن حلّ الأزمة، حيث يعتقد أنّ للدوحة بعض الاتصالات مع «جبهة النصرة»، إذ تفاوضت معها مؤخراً للإفراج عن أحد الرهائن الأمريكيين الذي كانت تحتجزه. وفي إشارة غير مباشرة إلى الدوحة، دعا بيان من قبل مجلس الأمن الدولي “الدول ذات النفوذ إلى الإعراب بشديد اللهجة للمسؤولين عن عملية احتجاز الرهائن عن ضرورة الإفراج الفوري عن قوات حفظ السلام.”

ومن السهل بمكانٍ أن تأخذ مسألة الرهائن منحىً أسوأ بكثير، حيث حاولت «جبهة النصرة» في 30 و 31 آب/ أغسطس الاستيلاء على مركزيْن لـ  “أندوف” تديرهما قوات حفظ السلام الفلبينية. وكانت القوات الفلبينية قدخالفت أمراً مباشراً من القائد الهندي لـ “قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك”، وردّت على مصادر النيران عندما حاولت شاحنة تابعة لـ «جبهة النصرة» دكّ بوابة المركز. وفي الساعات التالية، تمكّنت القوات الفلبينية من الهرب إلى مكانٍ آمن بفضل تدخّل كتيبة إيرلندية تابعة لقوات “أندوف” المتمركزة في مكانٍ مجاور، فضلاً عن المساعدة التي تلقّتها من القوات الإسرائيلية وقذائف الهاون التي أطلقها نظام الأسد. وحيث وبّخ القائد الهندي زميله الفلبيني منذ ذلك الحين لتعريضه حياة القوات الفيجية وغيرها من عناصر “أندوف” للخطر، إلا أنه تجري الإشارة في مانيلا إلى ما حصل بعبارة “أعظم عملية للهروب.”

ويقول مسؤولون إسرائيليون أنّ تقدّم «جبهة النصرة» و”تقلّص رقعة” أمن “قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك” على نحوٍ متزايد يعكس تحوّلاً تكتيكياً في التفكير الإسرائيلي. فإسرائيل لم تعتمد يوماً ما على قوات “أندوف” لحماية نفسها من الهجمات عبر الحدود – إلّا أن هذه القوات تبقى رمزاً للشرعية الدولية في هضبة الجولان الحدودية. ويشكل تقليص تمركز قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام إلى مجرّد ثلاث أو أربع قواعد انعكاساً لحالة عدم الاستقرار المتزايدة على طول الحدود.

وثمة عامل آخر وراء هذا التحوّل، وهو خلق حالة من غياب المسؤولية على الجانب الذي تسيطر عليه سوريا من مرتفعات الجولان. وبعبارة أخرى، لم يعد ثمة طرف واحد تستطيع إسرائيل أو الأمم المتحدة دعوته لحلّ النزاعات وردعه عن تنفيذ هجمات في المستقبل. وحتى الآن كان طرف نظام الأسد وحلفائه هو الذي يستغلّ غياب المسؤولية. بعد إعلان الأسد هذا العام أنّ “المقاومة” على طول الحدود في الجولان ستستمرّ على الرغم من الحرب، قامت عدة مجموعات متأثرة بـ «حزب الله» بزرع عبوات ناسفة على طول السياج الفاصل على الجانب السوري من الجبهة، مستهدفة الدوريات الإسرائيلية على الجانب الآخر من الحدود. وقد أبطلت إسرائيل العديد من هذه العبوات، ولكنها لم تتمكّن من العثور على جميعها؛ وقد انفجرت حتى الآن اثنتان منها على الأقلّ. وبإضافة هذه العبوات إلى الأخطار العادية المتمثلة بالقصف عبر الحدود جراء الحرب في سوريا، يتزايد قلق الإسرائيليين بشأن كيفية حماية جنود “جيش الدفاع الإسرائيلي” وسكان الجولان من حربٍ تبدو أن حدّتها أخذة في التصاعد كما يبدو.

وتكمن المشكلة الأكبر التي تقلق إسرائيل في ما يتعلّق بالشأن السوري في كيفية ردع «جبهة النصرة» والجهاديين بشكلٍ عام. وتشير تجربة إسرائيل مع القوى المعتدلة في جنوب سوريا – كما تبيّن مؤخراً عندما أجبرت «جبهة النصرة» أحد الثوار السورييين الذين ألقت القبض عليه على الكشف عن اتصالاته واجتماعاته مع إسرائيليين في فيديو تمّ نشره على يوتيوب – أنّ هذه القوى أضعف من الجهاديين على المستوى النوعي. ومع أنّ المصادر على شبكة الانترنت توفّر كمية لا بأس بها من المعلومات عن القادة الجهاديين وتطلعاتهم، تبقى المعلومات المتوفّرة عن حساباتهم العسكرية أقلّ بكثير. ويبدو أن التنبّؤ بتحركات نخبة الجماعات العسكرية وشبه العسكرية – التي تحظى بتدريبات إيرانية وتدعم نظام الأسد – هو أكثر سهولة، فهي على الأقلّ تنضوي تحت لواء دولة – مهما كانت مشلولة – تعاملت معها إسرائيل بشكلٍ غير مباشر على مدى عقود. وعلى حدّ قول يردّده المسؤولون الإسرائيليون دائماً: “على الأقل لدينا عنوان معروف نلجأ إليه.”

ولكنّ المسؤولين الإسرائيليين يدركون تماماً أنّ التعامل مع سوريا في المستقبل سوف يتطلب وجود المزيد من العناوين ولن يقتصر على مجرد قصر الأسد. وفي حين لا يزال بعض الإسرائيليين يفضّلون التعامل مع قوات الأسد في المناطق المحاذية للجولان، إلّا أن دعم طهران الكبير للنظام السوري في عمق البلاد يعني أنّ الفوز الصريح لهذا الأخير سيشكّل انتصاراً استراتيجياً لخصم إسرائيل اللدود.

و في الوقت الحالي، سوف يتابع المسؤولون الإسرائيليون التعامل مع التحديات التي تفرضها الدويلتان السوريتان: دويلة الأسد العاجزة في الغرب ودويلة القوى المتنوعة، بما فيها «جبهة النصرة» و «الدولة الإسلامية»، في “بلاد السنّة” الفوضوية في الوسط. وسيتابعون في الوقت نفسه البحث بعناية عن فرص سانحة في المناطق الواقعة تحت سيطرة الأكراد في شمال شرق البلاد والتي أعلنت الحكم الذاتي في وقت سابق من هذا العام. وعلى حدّ قول مسؤول إسرائيلي: “علينا أن نراقب كل منطقة، قريةً بعد قرية، وأن نحافظ على سقف توقعاتنا منخفضاً.”

 ———————————-

(*) أندرو تابلر / معهد واشنطن