وداع مهيب للعلامة هاني فحص في بلدته جبشيت

ودع لبنان والجنوب العلامة السيد هاني فحص إلى مثواه الأخير في بلدته جبشيت الجنوبية، في مأتم مهيب وبمشاركة رسمية فلسطينية لافتة.

وكان نقل جثمان العلامة فحص صباحا من بيروت في موكب سيار، الى بلدته جبشيت، حيث سجي في منزله لالقاء النظرة الاخيرة عليه. وحمل النعش الذي لف بالعلمين اللبناني والفلسطيني على الأكف، وتقدمه حملة الاكاليل، ومنها أكاليل باسم رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه بري، الرئيس سعد الحريري، الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وشخصيات، إضافة إلى الأعلام اللبنانية والفلسطينية وحركة “فتح”.

شارك في التشييع ممثل رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه بري النائب هاني قبيسي، ممثل الرئيس الفلسطيني محمود عباس عضو اللجنة المركزية لحركة “فتح” عزام الأحمد، ممثل نائب رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى الشيخ عبد الأمير قبلان المفتي الجعفري الممتاز الشيخ احمد قبلان، ممثل شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن الشيخ غاندي مكارم، وزير الزراعة أكرم شهيب يرافقه وفد من الحزب التقدمي الاشتراكي، السفير الفلسطيني أشرف دبور، رئيس كتلة “الوفاء للمقاومة” النائب محمد رعد، والنواب: علاء الدين ترو، ياسين جابر، عبداللطيف الزين، علي عسيران، وعبد المجيد صالح، النائب السابق حبيب صادق، رئيس المجلس الاعلى للجمارك العميد نزار خليل، ممثل الأمين العام ل”حزب الله” السيد حسن نصر الله الشيخ نبيل قاووق، عضو هيئة الرئاسة في حركة “أمل” خليل حمدان.

وحضر وفد قيادي فلسطيني ضم رئيس الصندوق القومي الفلسطيني الدكتور رمزي خوري، أمين سر فصائل منظمة التحرير الفلسطينية وحركة “فتح” في لبنان فتحي أبو العردات، المستشار الاعلامي للامين العام ل”حزب الل”ه محمد عفيفي، رئيس مؤسسات “العرفان” الدرزية الشيخ علي زين، المنسق العام للحملة الأهلية لنصرة فلسطين والعراق معن بشور، إمام مدينة النبطية الشيخ عبد الحسين صادق، رئيس مؤسسة “أديان” الأب فادي ضو يرافقه وفد من المؤسسة، إضافة إلى شخصيات سياسية، حزبية، اجتماعية، تربوية، اعلامية، وعلماء دين من مختلف الطوائف.

وجاب الموكب الشارع الرئيسي للبلدة، وصولا الى باحة النادي الحسيني، حيث أم العلامة السيد محمد حسن الامين الصلاة على الجثمان ليوارى في الثرى في جبانة البلدة.

 تقبل التعازي في بيروت الثلثاء 23 منه في قاعة المعهد الفني الاسلامي، مستديرة شاتيلا، والأربعاء 24 منه في قاعة البيال، والخميس 25 منه في السفارة الفلسطينية، من الساعة الثالثة بعد الظهر ولغاية السابعة مساء.

نبذة عن حياته:

السيد هاني فحص (1946 – 2014 ) رجل دين مسلم شيعي، من رجال الدين القلائل عند الشيعة الذين انخرطوا في العمل الحزبي العلني، أديب وكاتب ومؤلف وناشط في المجتمع المدني، وداعية حوار بين الأديان، ومن أبرز المنظرين في مجال مقاربة الإسلام لمواضيع الحداثة المطروحة.

نشأته ودراسته

ولد السيد في بلدة جبشيت (النبطية) عام 1946، وتلقى الدراسة الابتدائية في القرية والمتوسطة في مدينة النبطية. تابع دراسته الثانوية و نال شهادة الدروس الثانوية (الموحدة السورية) كطالب حر. بعدها هاجر إلى النجف (العراق) عام 1963 ودرس في حوزتها الدينية، ونال إجازة (بكالوريوس) في اللغة العربية والعلوم الإسلامية من كلية الفقه في النجف.

عاد من النجف عام 1972 ليستقر في بلدته جبشيت، وكان قد تزوّج في سنّ التاسعة عشر من السيدة (نادية علّو) وله خمسة أبناء ذكور وابنتان.

في السياسة

انتسب إلى حركة فتح ايام وجودها في لبنان، وهو عضو في المؤتمر الدائم للحوار اللبناني، كذلك فهو عضو في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى.

ترشّح للانتخابات الفرعية عام 1972 متحالفا مع كمال جنبلاط، ولكن سرعان ما انسحب من المعركة بسبب اعتراض السيد موسى الصدر آنذاك. عاد وترشح للانتخابات النيابية عام 1992 عن محافظة النبطية ولم يحالفه الحظ.

Hani fahs-04

نشاطاته

أشرف على مجلة النجف لمدة عام أيام إقامته فيها

لدى عودته من النجف مارس عمله الديني إماما لبلدة جبشيت من العام 1972 وحتى العام 1975 ميلادي.

شارك في تأسيس وتفعيل منتدى ادباء جبل عامل مع عدد من الأدباء والشعراء الجنوبيين.

شارك في قيادة انتفاضة مزارعي التبغ المطلبية عام 1972.

تقرّب من قيادات حركة فتح في لبنان ولم يتخلّ -رغم قربه منهم- عن انتقاداته لدورهم بالحرب الأهلية الداخلية اللبنانية.

عندما بدأت الثورة الإيرانية عمل عام 1978 على إنشاء التواصل بين ياسر عرفات والسيد الخميني، وقد زار السيد الخميني في منفاه الباريسي، ورافق ياسر عرفات على نفس الطائرة التي زارت إيران بعد أيام من انتصار الثورة الإيرانية ضد الشاه.

في العام 1982 سافر إلى إيران مع عائلته وأقام فيها حتى العام 1985، عمل خلالها مستشاراً في مكتب إعلام الحوزة في قم، ومشرفاً على مجلة (الفجر)، كما أقام علاقات مع بعض المراجع فيها مثل الشيخ منتظري وغيرهم.

أيام وجوده في إيران سافر في بعثات خارجية مع الإيرانيين إلى الغابون ومدغشقر وكينيا والكاميرون في نشاطات تهدف لتسليط الضوء على القدس.

عاد من إيران عام 1985 ميلادي، وقد تخلّى بعد التجربة عن أفكاره القومية، وخاض في العام 1992 ميلادي الانتخابات النيابية في لبنان ولم يحالفه الحظ فيها.

بعد الانتخابات تفرّغ للحوار والكتابة والعمل الفكري والثقافي، فأسس مع سمير فرنجية (المؤتمر الدائم للحوار اللبناني)

يعتبر من الأعضاء المؤسسين للفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي، وكذلك من المؤسسين (للقاء اللبناني للحوار) كما انه عضو في الهيئة الشرعية للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وكان من المقربين للشيخ محمد مهدي شمس الدين.

كان عضوا في الإتحاد العالمي للعلماء المسلمين واستقال منه بعد المؤتمر الأول.

عضو في أكاديمية أهل البيت في عمان في الأردن، وكذلك في منتدى الوسطية في عمان أيضا.

عضو مجلس إدارة و عضو مجلس أمناء مؤسسة ياسر عرفات الخيرية الثقافية.

مؤلفاته

له ما يقرب من الثلاثة عشر كتاباً مطبوعاً منها

– ماضي لا يمضي

– ذكريات ومكونات عراقية

– الإمامان الصدر وشمس الدين ذاكرة لغدنا

– خطاب القلب

– تفاصيل القلب

– أوراق من دفتر الولد العاملي

– مشروعات أسئلة

– في الوحدة والتجزئة

– ملاحظات في المنهج

– المسرح

– كتابات

– الحوار في فضاء التوحيد والوحدة

– الشيعة والدولة في لبنان

– الهوية الثقافية

– الكتب غير المطبوعة

أما الكتب والمؤلفات غير المطبوعة:

– مرايا

– ذاكرة الأمكنة

– المعرفة والاختلاف

– لبنانيات سياسية

– في الوحدة

– مقاربات نقدية

– الشيعة في لبنان

– دروس من الحوار.

وفاته

توفي في بيروت إثر معاناته من مشاكل في الرئة، وذلك في يوم الخميس 18 ايلول.

كتبوا في السيد هاني فحص

*رجل على الحافة / بقلم محمد علي شمس الدين (السفير)

غالباً ما كنت أنظر إلى السيد هاني فحص على أنه رجل على الحافة، ولعله واحد من أولئك النازلين على الريح، الذين سلكت نفسي فيهم، وكتبت منهم وفيهم الكثير من الأوصاف، ورسمت البورتريهات المتعددة بالكلمات، من ذلك قصيدة «رجل طائر شجرة» و«ظل ملك» و«الرجل المؤجل».. وقصائد أخرى، إذ كان الرجل بالنسبة إلي ملهماً ومحرضاً على الكتابة. وهي مسألة حرصت في علاقاتي مع الأصدقاء، وهم قلة على كل حال، أن تتغلغل الصفات التي فيهم إلى ذاتي، وإلى مواضع الأسرار في هذه الذات، فلا أزجرها وأقول لها قفي بل امتزج بها وتكون الكتابة فيضاً من هؤلاء.

ومن نعومة أظفارنا، وأنا والسيد تربان أو نوشك، كنت أنظر إليه على أنه أكثر من رجل. على أنه رجل وأطيافه، ولعل أول لقاء لنا به، كان في قريته «جبشيت» في أول سبعينيات القرن الفائت، خرج إلينا وكنا ننتظره في صالون داره، وقد لبس قفطانه الأسود، ووضع عمته السوداء فوق رأس مستديرة بوجه أسمر، ولحية خفيفة وعينين متسعتين أكثر مما هما، يلمع فيهما مزيج من الذكاء والمودة والأدب، فقد كان داعينا إليه هو التعرف إلى كاتب جمعتنا معه الكتابة، وروح هذه الكتابة الشعر.

وقد كان مشهد رجل الدين الشاعر أوالأديب، مشهداً مألوفاً في جبل عامل، إذ غالباً ما كنا نقصد، في زياراتنا لبلدة «جبشيت»، المؤرخ المعروف والأديب الشيخ علي الزين، وغالباً ما كنا نصطحب السيد هاني إلى هناك، فنتبادل الأشعار والأخبار والنقد الذكي اللامع الذي يبدر من الشيخ علي… كل ذلك كان على رنات الكؤوس (كؤوس الشاي).

جلس السيد هاني في صدر الصالون، تماماً تحت صورة له معلقة على الجدار، وهي تصوره فتى يافعاً بعمامة على الرأس ونظرة شاردة. قال لنا ضاحكاً: هذا الفتى الذي ترونه في الصورة، هو أنا، وأنا لا اعرف ماذا في الأمر.

هل كان يقصد يومذاك، بقوله إنه لا يعرف ما «السيرة»، أنه لا يعرف الحال، والمصير، والمقدر، أو ما يجري في هذا العالم من حوله وحولنا؟ أم كانت واحدة من إشارات روحه المرحة، التي ما لبثنا أن تعرفنا إليها فيما بعد، والتي كانت تكسر ما يفرضه الزي الديني من تحفظ أو من وقار غالباً ما يحجبان عن الناس توهج الروح وسحر البديهة.
كان السيد هاني يومذاك، متوهج الروح وساحر البديهة، وكان يشبهنا نحن المرضى بالشعر شبهاً تاماً.. لذلك حين نظرت إليه على أنه رجل واقف على الحافة، تخيلت انه مرتفع مثل طائر أو مثل غصن، وأنه، وهو على الحافة، مهيأ للطيران، او للوقوع في هاوية، وأنه لو رسمته في بورتريه من خطوط وألوان، لرسمته بجناحين زرقاوين، وقوادم ترابية، وأن الجناحين يشيلان به إلى الأعالي، وذلك من خلال روحه الشعرية، أما القوادم فترابية بالضرورة وجمالها هو في ما انغمست فيه من تراب الحقول الجنوبية، وتبغ الفلاحين وعرق الكادحين. ولم يكن ثوب السيد هاني او عمامته يمنعانه من ان يجمع في كيانه هذين الحدين، فقد استطاع الرجل، بعد صراع مرير، أن يجذب الزميتين من رجال الدين، إلى مزاج الشاعر والفنان، وأن يمد خيوطاً من الحب والتعارف، إلى متناقضات شتى في المجتمع الجنوبي وفي المجتمع اللبناني، ومن ثم في المجتمع الإنساني، لذلك فإنه يصور نفسه، فيما يصوره، أنه، غير ملزم أن يدخل البيوت من أبوابها، بل يدخلها، كفنان، من الأماكن الأكثر رفاهة، ربما منى نفسه بأن يدخل من ثقب الإبرة إلى الفضاء الرحب، من ثغرة في جدار المنزل الأمامي أو الخلفي، إلى الخدر حيث تنام المعرفة أو تسهر، يوقظها أو يسهر إلى جانبها.. وربما كسر زجاج النافذة….
هذا شيء مما رميت إليه بالقول إن السيد هاني رجل يقف على الحافة. إن كمية التوتر التي تحرك قلبه وأصابعه وكلماته، تكاد تضيق عنها الكتابة.

تراه ينهال أحياناً في نصوصه كوابل من مطر، أو كوابل من حبات البرد حين تضرب الإسفلت أو الرأس أو الشجر. يرادف ويلح ويستطرد ويصرخ ويعنف ويلين ويغذ الخطى ويمشي الهوينا في كتابة حرة لا يليق بها سوى الشعر.

وهذه الكتابة على الحافة، التي يمارسها هاني فحص، هي محاولته للهروب من غربته الكثيرة. وغربة هاني فحص غربة طويلة وكثيرة. لعله حين قال لي في أول الشباب، عن صورته هي صورة من لا يعرف ما السيرة …. لعله كان يقصد الغربة. والوضع الذي يتناوله في كتاباته، من سيرة ذاتية أو غيرية، ومن تواصل مع الشعراء وأشعارهم (بعض أشعارهم) ومن كتابة القلق الديني والاجتماعي والسياسي…. لعل الوضع الذي يتناوله، بدوره، قائم على هذه الحافة من قلق المعرفة، وقلق اللغة، وقلق الحال، والحال هنا هو الوجد العميق الذي أدنى رتبته طقوس الدين، وأهم مراتبه العرفان.

لذلك، أنى لهذا الرجل أن يرتاح؟

كان اساس تعارفنا، من أول الشباب، ولا زال، هوأننا كنا في حياة مضطربة وعلى أرض متشابهة من قلق ونشوة، مصابين بنشوة الكلمات فيما هي دم العالم. كانت نصوص السيد هاني الأولى التي نشرها في احد اعداد مجلة «مواقف» في العام 1970، اقرب للقصة القصيرة ذات المخيلة الشعرية منها للقصيدة. وهو كان يعرف ذلك، وهو على الحافة، يقول: أنا لست بشاعر. لكن قال لي يا محمد علي هل تنام؟ ومتى تنام؟ وكنت أعرف من هذا السؤال أنه من الشعراء.
لم نكن، نحن المصابين بهذه اللوثة، وقد شكلنا نواة المنتدى الجنوبي بعد ذلك، نلتف حول هاني فحص، إلا لكونه مثلنا، يعيش في دائرة السؤال: ما هذا الذي نكتبه؟ ما هي القصيدة؟ ما الإيقاع والوزن واللاوزن؟

ما علاقة الكلمات وتراصفاتها بالقرى الجنوبية التي كنا نعيش فيها وننتقل من دار لأخرى لكي نتسامع النصوص والقصائد ونتجادل فيها وقل لنتصارع فيها…
وحين انخرطنا مع السيد هاني في تحركات مزارعي التبغ في النبطية، كانت القصيدة ترتجف في يدنا وتسأل مثل سؤال المزارعين، كيف وإلى أين؟ وكانت القصيدة في يدنا حين استشهد يوسف العطار في تظاهرة عمال معمل غندور…. لا ينسى السيد هاني جملة مما كتب وكتبنا. إنه يذكر كل شيء «يا سيدتي للورد وللحمى لون واحد والرب اثنان حرف في قاع النهر وحرف في الشطاّن أفهمت عذاب النهر إذا اغتربت عنه الشطاّن أفهمت عذاب الحرف إذا سكنته ملوك الجان أفهمت عذابي هل ابكي؟ افهمت عذابي هل أضحك؟ هل اقطع كفي قبل وضوء الفجر وأقذفها قهراً للشمس؟ خلفي تساقط أشلائي يكتظ الشارع بالغربان أتعثر بي أتوحد في كل الألوان يا مولاتي لا تكتئبي اّتيك وأعلم أني فيك وأنك أقرب من نفسي فلتنتظري في الليل خطى فرسي وخطى عربات الريح على الشطاّن ولتنتظري..» تجليات الورد والحمى قصائد مهربة إلى حبيبتي اّسيا».

أفق الثقافة الواسع

وإذا كان أفق السيد هاني منفتحاً، في الجنوب الذي ضمنا، للحياة، وللشعر، فإن ما جمعنا به، كأفراد وككتلة، على تباين بعض ما بيننا من النظر إلى الشعر وإلى الحياة والنضال، هو تلك النظرة المتحركة والمنفتحة معاً، التي نظر فيها الرجل إلينا وإلى الشعر وإلى الحياة معاً. وقد بقي محافظاً على هذه السياسة الفنية العالية (أساس الشعر) وعلى هذه الثقافة المنفتحة (أساس الحوار) وعلة هذا الفهم الحيوي للنضال (أساس المقاومة) بالمقدار الذي جعل جسر التواصل بيننا وبينه، لا ينهدم، بل يبقى متيناً برغم الأهواء والمصالح والنزعات. والسيد هاني من الكتاب القلائل الذين يدخلون إلى عقلك من طريق شعورك. كما أنه من أولئك الذين تسلس اللغة بين يديهم، ويتم تطويع المعنى لأسلوب نثري هذبه الشعر، وجلاه البيان. ومن أجمل ما قرأت له، مقارنة اجراها بين الثقافة والزراعة، يبين من خلالها نظرته للثقافة على أنها حقل تنفتح فيه المعرفة على غلال كثيرة في الفكر والشعور والأدب والدين والفلسفة. يقول:

«لا اجد ما يماثل الثقافة إلا الزراعة، بلحاظ أنها حوار بين اشياء ومستويات متعددة، من التربة ولونها وكثافتها وتركيبها، إلى الرياح ومصدرها واتجاهها وسرعتها، إلى الشمس وحرارتها والقمر ومنازله والندى وكثافته والبرق والرعد والمطر ومواعيده وغزارته، إلى البذرة والبذار والفلاحة وموعدها وأخلاق الفلاحين وأذواقهم وعلاقاتهم اليومية، والموسمية، إلى الحصاد والبيدر والسوق والحكمة المختزنة في صدور الفلاحين والعونة فيما بينهم، والحنان الذي يؤالـف بين الـزارع والمزروع».

بهذه النظرة العميقة والمتسعة، ينظر الرجل للثقافة، فيغدو الدين جزءاً منها، وتغدو الحياة حقلاً لمفرداتها، سواء كانت هذه المفردات في العلم أو الابتكار أو الفن…. وتصبح الحرية هي الأساس، والوجود الذاتي يصبح مشروطاً بوجود الاّخر.. هكذا إذن « يحلو لي أن اوافق من قال: إن الله هو صورتنا، صورة الكون لا تطابقها، بل تفيض الذات المقدسة عن الكون بمساحة نوعية هائلة من الغيب الجميل والسر الذي لا ينتهك. ليست الأرض مضلة ولا السماء مظلة، اليمين مضلة والشمال مضلة، والطريق الوسطى هي الجادة».

* إسم علم.. من مثله؟ /  بقلم نصري الصايغ (السفير)

 لا يشبهه أحد، مختلف بلا حدود، متعدِّد بلا عد، وهو واحد في كل حالاته… خارج من الجماعة وعلى الجماعة، بانتماء إلى الإنسان، إن في صراط الدين أو في معراج الروح. حرٌّ، ويوسع حدودها فوق المستطاع وله من الحرية مساحات شاسعة ومتمادية، ما سبق أن خطرت لعمامة. أهذا رجل دين بعمامة أم هو رجل دنيا وفوق رأسه غمامة؟ انه الاثنان، وما انفصما ولا تنازعا.

بهذه العناوين عرفته، وفي مساحة الحرية التقينا واختلفنا وتحاورنا، حواراً بلا محرَّمات وبالمحرمات، وما خرجنا عن آداب الحب والاحترام والتقدير. على أن مقامه عندي، كان في مقام الإجابة وأنا في مرتبة السؤال، وكلما فاتحته بجديد، سبقني إليه وعرفه قبلي.

يسقط التكليف معه. يلزمك بأدب المساواة. فلا يشعرك بأنه يتقدم عليك، وهو المتقدم في الدين والفقه والثقافة والكتابة وتجارب الحياة، بقسوة شتلات الدخان وبنادق الفلسطينيين في الجنوب، ومعايشته إرهاصات التحولات في المشرق وصولاً إلى إيران.

في إسلامه فضاء للديانات والمذاهب. تشيعه كتاب بنصوص ينتقي منها ما يوسِّع الإيمان. الروح قبل الحرف. الحب فوق النص. الحياة فوق الفرض… هل هذا كفر أم نوع من سموِّ الإيمان… لذا، في إسلامه وتشيعه مطارح للسني والمسيحي واليهودي والعلماني والملحد. لا يقيم الحد القديم، بل يوسع المطارح للقاء الروح ولغبطة الإنسان.

كنت أتطرف في نقاشي. أتقصد إحراجه بالمستحيل الذي اعتقد به. وكان يحسبني من المؤمنين. بالغت في نقض الحقيقة، فشايعني وصوّبني، ووضعني أمام حقيقتي وحقائق الآخرين. تطرفت وقلت: أؤمن بالخطأ، ولا بد من إعادة الاعتبار للخطأ. نصحني بالتدقيق، كي لا أصبح على صواب وعلى حقيقة. وخفت أن أكاشفه بأنني سأدافع عن الخطيئة، ولكنه اكتشف ذلك واعتـبرني خاطئاً، وتغفر خطاياي.

ذات يوم دفع إليّ بمقالة لأنشرها في «السفير» بعنوان «ليالي الأنس في فيينا». خفت. سألته: وما أخذك إلى عاصمة الموسيقى؟ قال، وعاصمة الأنس والجمال كذلك، ثم تدفق شرحاً ووصفا، بلغة المتمتع حتى الثمالة، بما وهبته الطبيعة حول الدانوب، وبما ابتدعته الموسيقى في مجال الروح. ثم تلا عليَّ أبياتا من الشعر، من كؤوس الأدب العربي. أسكرني أدبه وعشقه للحياة والجمال.

هذا رجل حقيقي جداً… في تدينه مكان فسيح جداً للسماء، حيث ملتقى أنقياء القلوب وأصفياء الروح وأشقياء المعاني والشعراء الذين في كل وادٍ يهيمون، ومعذبي الأرض.

قلت له ذات مرة: لست متصوفا ولكنك صاحب شطح. قال: حزرت. سألته: أهي جرأة المجرب والمكتشف؟ قال: بل واجب الحياة، علينا ألا نترك الحياة تنسحب من قبضتنا كتسلل الرمل من بين الأصابع… تلك كانت فلسفته وهذا كان إيمانه.

في كل مرة كان يرشدني إلى كتاب أو ينصحني بآخر ليسدّد آرائي، كان يدس ورقة يسجل فيها نصيحة. من هذه الأوراق: «نصري… الحبيب. حاذر أن تظلم هذه الصفحات… اظلمني ما شئت… ولكن دع لي دمي هذا… الذي إذا ما جرت عليه، عرفت يقينا انه دمك… أي حبرك… أي ماء عينيك.. يا عيني التي أرى بها أبعد… وأراني بها وأسعد».

قرأتها مراراً، وعرفت انه يدعوني لأن استعير عيون الأخير، كي أكون أبعد واعرف وأكثر التصاقاً بالحبر.

آخر ما وصلني منه، رسالة بعد نقاش واختلاف في الرأي، وما أجمل ان تختلف بالرأي مع عالِم محيط وموسوعي. جاء في نصه: «سأبقى مصراً على توريطك بي وتورطي بك حتى نثبت ان التناقض مفهوم ذهني، وان ما يسمى متناقضين، حبيبان يشتعل الإبداع عندما يتجادلان… هداك الله إلى الحق… وقع على أوراقي ما شئت منها واترك الباقي للشيطان الذي قد يكون أرحم من كثير من الأهل وأقل شراً».

ماذا أقول اليوم؟

ولا مرة كنت اسأل عن السيد هاني فحص. كنت أسأله. فمن لي في مرتبته لأساله؟ لا يشبهه أحد.

هاني فحص، اسم علم. أبقى عندي زاداً وافراً لما تبقى من العمر.