المسرح في لبنان: أزمة وجود تعكس غياب السياسات الثقافية

د.هشام زين الدين (الأنباء)

لا ينفصل وجود المسرح في أي بلد من البلدان عن الوضع الثقافي العام، ذلك لأن المسرح يحتل مساحة نوعية مهمة في المنظومة الثقافية التي تعكس الصورة الحضارية للشعوب والدول والمجتمعات. ويمثل وجود المسرح كحاجة ثقافية في حياة المجتمعات(إلى جانب الفنون والعلوم الأخرى )مقياساً لدرجة ارتقائهم على سلم الحضارة والمدنية، بحيث يستطيع المراقب وبسهولة معرفة المستوى الثقافي والحضاري لأي بلد من البلدان من خلال وجود المسرح(وباقي الفنون والعلوم) فيه، ومن خلال دعمه واحتضانه من قبل الدولة والمجتمعين المدني والأهلي.

إن الوجود الفاعل للمسرح في بنية أي نظام اجتماعي وثقافي وسياسي يمكن اعتباره مؤشراً على النضج الحضاري الحقيقي لهذا النظام.واستطراداً، إن أي محاولة لتزييف أو تزوير الواقع من خلال الإيحاء بوجود اهتمام بالمسرح شكلاً لا مضموناً، وهو ما يحصل غالباً في دول العالم الثالث ومجتمعاتها ووزارات الثقافة فيها، لا يمكن أن يتحول إلى حقيقة مؤثرة في عملية تطور المجتمع والدولة وارتقائهما. انطلاقاً من هذه المعادلة نحاول الدخول إلى مسببات الأزمة المسرحية في لبنان وهي أزمة ثقافية بالدرجة الأولى، كما هي أزمة تاريخية وليست مستجدة كونها تتعلق بتركيبة البنية الثقافية اللبنانية وإشكالياتها المعقدة.

ان المسرح اللبناني ومنذ بداياته “المتعددة”، مروراً بفترات نهوضه وخفوته وتوقفه وحتى اليوم، لم يحظَ باهتمام فعلي من قبل أي من الحكومات التي توالت على الحكم في لبنان، باستثناء واحد هو “لجنة مهرجانات بعلبك الدولية” التي تعتبر المؤسسة الوحيدة في تاريخ لبنان التي أنشئت بمرسوم، مع الاشارة الى ان اللجنة لم تهتم بالمسرح بشكل مباشر بل دعمت في فترة زمنية قصيرة بعض الأعمال المسرحية الجادة، فيما كان هدفها الأساسي هو إقامة المهرجانات الدولية وهذا مبحث آخر لسنا بصدد الغوص فيه الآن نقدياً لأننا نعلم جميعاً الظروف التي نشات فيها المهرجانات وأهدافها السياسية والاعلامية المرتبطة بفترة الستينيات. ما عدا ذلك عاش المسرح اللبناني يتيماً متروكاً ولم ينقذه من الموت إلا مبادرات المسرحيين اللبنانيين الفردية المتواضعة غالباً والمدعومة بشبكة علاقات خاصة تم توظيفها في خدمة المسرح أحياناً. ولن نغوص في مراجعة نقدية تاريخية على الرغم من أهمية هكذا مراجعة، لكن المجال لا يكفي لها في هذا المقال، بل يهمنا تسليط الضوء على الواقع الحالي المأزوم الذي يعيشه المسرحي اللبناني في ظل استمرار سياسة اللامبالاة والاستهتارمن قبل الدولة، مما يطرح وبقوة مسألة دور المسرح في حياتنا على طاولة النقاش المتوقف منذ زمن.

في الواقع يعيش المسرحي اللبناني حالة من التقهقر والاستياء وخيبة الامل المستمرة من جراء إهمال الدولة له ولحقوقه الثقافية، وهذه صرخة نوجهها إلى أصحاب القرار في المؤسسات الثقافية وعلى رأسها وزارة الثقافة ومن خلالها إلى رئاسة الحكومة، وسوف نعدد الخيبات التي نعيشها كمسرحيين لبنانيين على أمل أن يصل الصوت ولو لمرة واحدة إلى آذان المسؤولين عن السياسة الثقافية في لبنان.

1- تشهد الدول العربية كافة من المشرق إلى المغرب نشاطاً مسرحياً سنوياً يتمثل بقيام المهرجانات المسرحية المحلية التي تتبارى فيها الفرق المسرحية المحلية وكذلك المهرجانات العربية التي تستضيف فرق مسرحية من البلدان العربية وهذه المهرجانات تقام في مصر والأردن والعراق والامارات والكويت وقطر وتونس والجزائر والمغرب وسلطنة عمان والسودان، وكل هذه المهرجانات مدعومة وممولة من وزارات الثقافة في البلدان العربية المذكورة وتستضيف أعداداً كبيرة من المسرحيين العرب، أما لبنان فلم يشهد في تاريخه مهرجاناً مسرحياً عربياً مدعوماً من وزارة الثقافة او من أي مؤسسة اخرى.

2- إن عقدة النقص التي ترافقنا كمسرحيين لبنانيين من جراء إهمالنامن قبل المسؤولين عن المسرح والثقافة في بلدنا لا تتوقف على عدم قيام مهرجان مسرحي لبناني عربي فقط، بل تتعدى ذلك إلى عدم مساهمة وزارة الثقافة عندنا في إرسال أي فرقة مسرحية أو أي مسرحي كعضو لجنة تحكيم أو كمكرم أو كضيف في مهرجان عربي أو دولي، وهنا الفضيحة الكبرى حيث أن لبنان هو الدولة العربية الوحيدة التي لا تقدم للفنان المسرحي الذي يسافر لتمثيل بلده في الخارج ثمن تذكرة السفر، فيما تقوم بذلك كل الدول العربية على الاطلاق، لذلك يتخلف لبنان عن المشاركة في غالبية المهرجانات العربية بأعمال مسرحية بسبب عدم قدرة فريق العمل شراء تذاكر السفر. باستثناء وحيد يشارك فيه المسرحيون اللبنانيون هو “المهرجان العربي للمسرح” الذي تقيمه “الهيئة العربية للمسرح” التي تتكفل بتأمين تذاكر سفر المشاركين فيه، وبذلك يشكل هذا المهرجان المتنفس السنوي المسرحي الوحيد لمشاركة المسرحيين اللبنانيين في مهرجان عربي ولتفاعلهم مع التجارب والخبرات العربية الأخرى.
وعلى سبيل المثال لا الحصر اعتذر كاتب هذا المقال عن المشاركة وتمثيل لبنان في أربعة مهرجانات في المغرب وتونس والجزائر خلال العام 2014 بمسرحية “العنبر رقم صفر” التي فازت في لبنان بالمرتبة الأولى في مهرجان المسرح الجامعي، بسبب عدم القدرة على شراء بطاقات السفر لفريق العمل، فيما شاركت المسرحية في القاهرة في مهرجان المسرح العربي وتم شراء التذاكر على حساب الممثلين وهم طلاب في الجامعة اللبنانية.

3- في غالبية الدول العربية يوجد آلية لدعم الأعمال المسرحية وتخصص موازنات سنوية لهذه الغاية وتوزع على المسرحيين والفرق المسرحية مما يسهم في تنشيط الحركة المسرحية والابداعية والفنية ويحقق الأهداف التي من أجلها أنشئت وزارات الثقافة أصلاً، بينما في لبنان نجد أن الدعم المسرحي للأعمال المسرحية غائب كلياً ولو بمبالغ متواضعة، وللمثال لا الحصر، فإن صاحب هذا المقال حصل على رعاية وزارة الثقافة عام 2011 لمسرحية “زيارة السيد الوزير” والتي تخصص الوزارة بموجبها مبلغاً ماليا كدعم للانتاج، وحتى هذه اللحظة لم يصرف المبلغ ولن يصرف. بينما نقرأ عن دعم المسرح والمسرحيين في المغرب والجزائر وتونس ومصر والعراق والخليج العربي وخصوصاً الكويت والامارات، ونتحسر على ضعف امكاناتنا المالية ونخجل بسياسيينا وسياساتنا ونحن نشاهد أمام أعيننا كيف يتألق المخرجون والممثلون على مسارح الدول ونحن نجتر خيباتنا ونحاول أن ننجز أعمالا فنية من جيوبنا، فنحرم أطفالنا وعائلاتنا من مالهم لكي نقدم مسرحاً في لبنان وفي الخارج باسم الوطن، ولكي نسهم في تنشيط الثقافة والفن والابداع من أجل ارتقاء مجتمعنا، فيما المسؤول عن ذلك والذي يتقاضى راتبه ومخصصاته من جيوب اللبنانيين غائب عن الوعي الثقافي.

4- أما الفضيحة الكبرى التي ترتقي إلى مستوى الكارثة بنظرنا فهي تتمثل في عدم وجود مسرح وطني في لبنان وقد تكلمنا كثيراً عن هذا الموضوع وطرقنا أبواب وزارة الثقافة وقدمنا للوزير (سليم وردة آنذاك) مشروع بناء مسرح وطني لا يكلف الدولة ليرة واحدة، وتقدمنا بعريضة ضمت أكثر من ألف توقيع من المسرحيين والمثقفين اللبنانين مطالبين بانشاء هذا المسرح إلى جانب قصر الاونيسكو. كل هذه المطالب لا تزال سجينة أدراج اللامبالاة في الوزارة، ونحن ننتظر. بعضنا انكفأ عن النضال في سبيل المسرح وفقد الأمل نهائياً من امكانية قيام الدولة بواجباتها، وبعضنا الآخر لا يزال يأمل ويستمر في المطالبة بحقوق المسرحيين المؤجلة منذ الاستقلال، هذا البعض يعمل في المسرح من غير دعم ولا تشجيع، يستأجر صالة المسرح بأسعار السوق الاستهلاكية كأنه يقوم بعمل تجاري ربحي، وينتج عمله المسرحي في ظروف صعبة ومحرجة وأحيانا قد تكون مؤذية نفسياً ومعنوياً. كل ذلك من أجل المسرح الذي نحبه ونؤمن بأهميته وبدوره الحضاري، فهل من يقدّر.؟

إن النهوض بالمسرح اللبناني هو واجب على الدولة المتمثلة بوزارة الثقافة التي لا يمكنها الاختباء خلف إصبعها الصغير، فكل المسرحيين في لبنان يعتقدون أن الوزارة غير فاعلة ولا تقوم بواجباتها على الصعيد المسرحي، لكنهم وبسبب خيبة املهم من امكانية التغيير في نمط التفكير لدى المسؤولين فيها، بات الصمت سيد مواقفهم، لكن الصمت لن ينفع ولن يصحح مسارات خاطئة، بل من الواجب على جميع المسرحيين المطالبة بحقوقهم المسلوبة منهم تاريخياً، ورفع الصوت عالياً، فالمسارح اقفلت في بيروت والوزارة لم تحرك ساكناً، وحتى اليوم لا وجود لخطة عمل واضحة لدى الوزارة للمساهمة في تفعيل الحركة المسرحية. وخصوصاً تامين مشاركة لبنان في المهرجانات العربية والدولية، ودعم الأعمال المسرحية الثقافية الهادفة بعيداً عن توزيع الحصص استنسابياً من دون دراسة الجدوى الثقافية للعمل المدعوم.

تستمر معاناتنا كمسرحيين، وتستمر خيبة أملنا في ظل عدم وجود أي إرادة لتغيير طريقة التفكير في السياسات الثقافية في لبنان ومن ضمنها المسرح، لكن في المقابل يستمر وجود الأمل وإرادة التغيير في حياتنا، فنحن في المسرح صنَّاع أمل وحياة.

—————————————-

(*) أستاذ التمثيل والاخراج في الجامعة اللبنانية