في تبرئة الثورة وإخفاق السياسات الدولية

د.بهاء أبو كروم (الحياة)

لا يرتبط العنف المفرط في المنطقة بحقبة ما بعد الثورة السورية، فهذه الثورة التي حمّلناها كل تعقيدات الكون، ليست المسؤولة عن الحرب الأهلية في سورية أو تأجج الصراع المذهبي في المنطقة. فالعنف إنما يرتبط بحقبة الاستبداد الذي مارسته الأنظمة السياسية وتخاذل العالم عن محاسبتها.

وبصرف النظر عن المسببات الكثيرة التي أوصلت «داعش» إلى هذا المقدار من القوة، فالمسؤولية لا تقع فقط على المخزون الثقافي الذي تنتقي منه أفكارها المتطرفة بطريقة استنسابية تليق بجنوحها نحو العنف، إنما تقع ايضاً على النظام الدولي الذي أرسى مبادئ العدالة وحماية الشعوب، وتخلى عنها لمصلحة التواطؤ بين الدول.

كشف صعود «داعش» هوة كبيرة بين ما طرحته استراتيجيات الدول الكبرى، وبين الواقــع الذي آل إلـــى نشوء «الدولة الإسلامية».

فالولايات المتحدة التي أطلقت استراتيجيات مختلفة بعد انتخاب الرئيس أوباما عام 2009 ركزت في مجملها على إعادة التـــوازن انطلاقاً من منطقة الباسيفيك، وغلّبت التقـــويم الاقتصادي البعيد الأمد على نظرتها للجــــدوى من التحرك في شرق آسيا. واعتمدت في كـــل مـــقاربـــاتها على تخفيف الأخطار المــتــأتية من الشرق الأوسط، تدليلاً على صحة ما تـــراه، ولـم تُشر في كل مطالعاتها إلى إمكانية نشوء خطر بهذا الحجم، (أي، خطر يستدعي تدخلاً عسكرياً في بلد انسحبت منه قبل عامين فقط وتكلفـــت فيه ما يقارب 6 تريليونات دولار). وبـعـــد اندلاع الثورة السورية كانـــت تعتبر أن تقـــاتــل المتطرفين في الشرق الأوسط ينأى بهـــا عن استيراد الأخطار، وكـــرّر أوباما فــــي عدد مــــن مــقابلاته أن إيـــران و«القاعدة» تُستنزفان فــي ســـورية متباهياً بصحة خياراته بالانكفاء.

وظهر أن انتقال الأولوية الأميركية من أوروبا والشرق الأوسط إلى الباسيفيك لم يطل أمده وتسبب ذلك بتصاعد الأحلام الإمبراطورية لروسيا. إذ نشأت أزمة عسكرية كبيرة في أوكرانيا استوجبت حشد القوى الدولية لتطبيق عقوبات اقتصادية على روسيا وأعادت الاعتبار للطروحات الاستباقية التي اعتمدها حلف شمال الأطلسي أيام الحرب الباردة، وصعدت «الدولة الإسلامية في العراق والشام» التي باتت تهدد أمن الولايات المتحدة ومصالحها الاستراتيجية. وكانت الإدارة الأميركية تسوّق لإنجازاتها في الحوار مع إيران حول البرنامج النووي وثم متابعة نزع الأسلحة الكيماوية من سورية- في مقابل فشل في إدارة المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية.

كشفت أنشط ديبلوماسية في العالم عن إخفاق ذريع في التعاطي مع القضايا العالمية. أوباما لم يكن يريد أن يسمع عن اي أخطار تطرح عليه تحدياً يستدعي نشر جنوده في أي مكان من العالم، ومؤسساته المعنية بصوغ الاستراتيجيات البعيدة الأمد أعطته على مقدار رغباته فقط.

ولتعبئة الفراغ الذي نجم عن ذلك تورطت الإدارة الأميركية بسياسات تناقض التوجهات الشعبية التي نشأت في العالم العربي منذ 2011 وذلك من خلال اعتمادها مبدأ «القيادة من الخلف» الذي أتى على شكل صفقات يجري إبرامها مرة مع روسيا ومرة مع تركيا و «الإخوان المسلمين» ومرة مع إيران، على حساب المبادئ التي قام عليها النظام الدولي الذي لم يكن ليقبل مشاهدة جرائم تُرتكب بهذا الحجم وبهذه البشاعة في سورية على مدى 4 سنوات، من دون أن يُحال المسؤولون عنها على المحاكم الدولية.

أما بالنسبة الى روسيا فطغت على أولوياتها في المنطقة مسألة إشغال الغرب والأميركيين في أزمات الشرق الأوسط اعتقاداً بأن ذلك سيحد من العبث في الجوار الروسي، إضافة إلى معارضة التوجهات الإسلامية التي برزت مع بداية الحراك العربي في تونس ومصر وسورية، خوفاً من تمددها إلى داخل روسيا التي لديها 20 مليون مسلم ومشاكل في الشيشان وداغستان، وآثرت الحفاظ على آخر حلفائها في المنطقة على رغم الأذى المعنوي الذي لحق بها نتيجة حمايتها لبشار الأسد في الأمم المتحدة.

قبل بروز الأزمة الأوكرانية كانت روسيا تعمل بنشاط ديبلوماسي ودولي متصاعد يتناغم مع رغبة الإدارة الأميركية في الانكفاء عن المنطقة. وكشفت الأزمة الأوكرانية الوجه الإمبراطوري لروسيا التي كانت أسقطت النظام الشيوعي ثأراً من العقائدية المفرطة التي ورطتها بسباق إيديولوجي لم تُحسِن إدارة نتائجه الإيجابية حتى في الحقبة التي تلتها، وهي اليوم تعيد الانخراط في مشروع قومية مفرطة قد تؤدي بها إلى سياقات مشابهة.

كانت الرغبة في لي ذراع الغرب أكبر من وعي المصالح الحقيقية للديبلوماسية الروسية في المنطقة على المدى البعيد. وبرّر الروس مواقفهم برغبتهم في حماية الأقليات وعدم مشاهدة دولة في سورية يقودها «الإخوان المسلمون»، فذهبوا باتجاه تعطيل دور مجلس الأمن. وآلت الأمور في النهاية إلى تمدد «الدولة الإسلامية في العراق والشام» وتهجير المسيحيين وتكبد الطائفة العلوية في سورية خسائر تتخطى عشرات الآلاف من أبنائها، وتهديد جدي تشعر به كل الأقليات في المنطقة.

طبعاً أجاد الروس استخدام نقاط ضعف العرب واتبعوا منهجية كانت تشي باحتمال تغيير السياسة الروسية تجاه سورية، وذهبوا إلى حد انتقاد الأسد في الاجتماعات الداخلية مع المسؤولين العرب. إلا أن نتيجة «جنيف 2» كانت ذات دلالة فاقعة بأن الموقف الروسي والدعم المفتوح للأسد قادا إلى رفضه للمرحلة الانتقالية والاستمرار في تجاهل المعارضة، بالتالي صد الأبواب أمام الحل السياسي. بالتوازي مع ذلك سار العرب بمغازلة روسيا بعد افتراق جدول الأعمال في مصر، والخطأ الذي وقعت به الولايات المتحدة هناك والانفتاح على الرئيس الإيراني الجديد.

عندما كان المسؤولون الروس يجولون في المنطقة كانوا يسمعون ملاحظة مهمة هي أن الإطالة في إيجاد حل عادل للأزمة السورية ضمن قواعد النظام الدولي والأمم المتحدة، ستؤدي إلى ارتفاع حدة التطرف في المنطقة وتمدد الصراع من سورية إلى دول أخرى في الشرق الأوسط، بما يهدد الأمن والاستقرار الدوليين… بالتالي فحمايتهم لنظام الأسد ستؤدي إلى النتيجة التي لا يريدونها أن تحصل. ولكن في مواجهة هذه النصائح، أجادت الديبلوماسية الروسية لعب دور البراغماتي المتصلب بامتياز، وقادت سياساتها إلى تعطيل المسؤولية الدولية وتعبئة «داعش» هذا الفراغ.