الدولة العصرية ودولة داعش(2): اخفاقات المالكي

د. ناصر زيدان

احتلَّت القوات الاميركية وحلفاؤها العراق في العام 2003، ودمرت مقومات الدولة بكاملها، بما في ذلك الجيش العراقي الذي كان من بين الجيوش التي يُحسب لها حساب، لاسيما بعد الخبرات القتالية الواسعة التي اكتسبها هذا الجيش من قتاله على الجبهات في الحرب الايرانية – العراقية التي استمرَّت من العام 1980 حتى العام 1988.

تدمير وتفتيت الجيش العراقي، ربما كان احد الاخطاء القاتلة التي وقع فيها الاميركيون، ذلك ان خضوع الجيش لقيادة صدام حُسين المُتهورة، ليست تهمة كافية لحلِه، وابقاء البلاد من دون سقف يحمي الشرعية الدستورية، وبالتالي التخلي عن اهم مهام الدولة، اي احتكار ” العنف الشرعي” على حد تعبير المفكر” ماكس فيبر “. والجيش بطبيعة الحال يأتمر بتوجيهات السلطة السياسية. والخلفية العقائدية للجيش العراقي، اي عقيدة البعث قبل العام 2003، كان يُمكن ان تتغير بإجراءاتٍ وقوانين اصلاحية وفقاً للأصول الدستورية، بعيداً عن التشفّي الذي اخذ الطابع المذهبي من خلال انحراف عمل ” هيئة إجتثاث البعث “.

بعد فترة ثلاث سنوات على التجربة الليبرالية الهشَّة التي عاشها العراق ايام رئاستي ابراهيم الجعفري واياد علاوي للحكومة العراقية بين العام 2003 والعام 2006 ، حيث لم يكُن الرجُلان على ولاءٍ مطلق للقوى الاقليمية الكبرى، وعلى رأسها ايران، ولم يعملا بتوجيهاتٍ قاطعة من قوات الاحتلال الاميركي. تولَّى نوري المالكي رئاسة الحكومة العراقية في الاول من ايار/مايو 2006.

نوري المالكي الذي ينتمي الى حزب الدعوة – وهو حزب سلفه ابراهيم الجعفري – قاده تاريخه الى تولّي المركز الاهم في الدولة العراقية، وهو رئاسة الحكومة التي أُنيطت بها  صلاحيات واسعة جداً، كونها عُرفاً من حصَّة المكوِّن الشيعي، بينما تُعتبر رئاسة الجمهورية من نصيب المُكوِّن الكردي، ورئاسة مجلس النواب من نصيب العرب السُّنة.

تجربة المالكي على رأس الحكومة العراقية التي استمرَّت حتى نهاية شهر آب/ اغسطس 2014، شابها الكثير من الاخطاء، وقد يكون اهم هذه الاخطاء المُتعددة، فشله عبر ثماني سنوات متواصلة في بناء المؤسسات المُتجردة والنزيهة للدولة العراقية الفتية، بل العكس فقد اعتمد الشخصانية في ممارسة الصلاحيات، واستند الى الولاء الشخصي في تعيين كبار موظفي الدولة، وحصر المهام الامنية والدفاعية والداخلية بشخصه، وسط انقسامٍ افقي واسع تعيشه الشرائح الاجتماعية العراقية، وصل الى حد “التشلُّع” وفقاً لوصف الكاتب اللبناني طلال سلمان[1]

عاش المالكي ما يزيد على عشرين عاماً في منطقة الست زينب جنوبي دمشق، وكان مسؤولاً عن مكتب حزب الدعوة العراقي هناك. وحزب الدعوة كان ممنوعاً من العمل في العراق ايام حكم الرئيس الراحل صدام حسين، والحزب على علاقة مُميزة مع المسؤولين في ايران. عاد المالكي الى بغداد بعد سقوط صدام حسين عام 2003، وكان اول عمل قام به بعد تسلُّمِه منصب رئاسة الوزراء، اعطاء الاوامر لتنفيذ حُكم الاعدام بصدام حسين ليلة عيد الاضحى المُبارك عام 2006. وقد اثارت عملية الاعدام ليلة العيد ردود فعل دينية وشعبية واسعة، واجًجت مشاعر التفرقة المذهبية.

كان المالكي مُتأثراً الى حدٍ بعيد بتجربة الحكم في سوريا، وقد بدا هذا الامر واضحاً من خلال مُقاربتين اثنتين:

المقاربة الاولى: هي في اعتبار الامن هو الركيزة الاساسية التي تُرسي له استقراراً في الحكم، وتسمح له بالتحكُّم في مفاصل الدولة الاساسية، وعلى هذه المُقاربة استند عندما تولَّى بنفسه الاشراف على وزارة الدفاع ووزارة الداخلية ووزارة الامن الوطني، واسس قواعد حُكم تُشبه ما هو معمول به في سوريا.

المُقاربة الثانية: اعتماده على الحليف الايراني في ترسيخ نفوذه الداخلي على الساحة ” الشيعية ” في مواجهة التيارات الشيعية العريقة، لاسيما التيار الصدري، وتيار المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق ( آل الحكيم ) وعلى الضفة الأُخرى كانت علاقته مُتميِّزة مع القوات الاميركية. فهو ينتقدهم في جانب ، ويُساعدهم على تحقيق مآربِهم من جهةٍ أُخرى. وشكَّل تقاطُعاً غريباً يجمع بين صداقة اللدودين، الاميركي والايراني، مُقلِداً بذلك ما كان يُمارسه الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد.

لم ينجح المالكي في ارساء قواعد عصرية للدولة في العراق، بل ساهم الى حدٍ بعيد في زيادة الشرذمة المُجتمعية، وباعد بين المكونات المتنوعة للشعب العراقي، وقد يكون في مكانٍ ما، مُساهماً اساسياً في تأسيس ظاهرة ” داعش ” او ما يُسمى ” الدولة الاسلامية في العراق والشام ” لأنه مارس قمعاً وقهراً مُنقطع النظير بحق ابناء مناطق الوسط والشمال العراقي، حيث تتمدد داعش اليوم.

وجريمة المالكي الابرز انه اسس الجيش والقوى الامنية على قاعدة الولاء للنظام، وليس الولاء للدولة، وهناك فرق كبير بين الرؤية الفئوية الاولى والرؤية العصرية الثانية.

——————————

(*) راجع جريدة السفير اللبنانية، بيروت، 2014/9/1 [1]

اقرأ أيضاً بقلم د. ناصر زيدان

قبل أن يسقط الهيكل

عن الصراعات المُخيفة بين سواحل البحر الاسود وشواطىء البحر المتوسط الشرقية

تحوُّل كبير في السياسة الصينية نحو الشرق الاوسط

مصاعب سياسية وإقتصادية تواجه روسيا

مؤشرات على إندفاعة جديدة لجامعة الدول العربية

كلفة اقتصادية خيالية لإسقاط “السوخوي” الروسية من قبل المقاتلات التركية

تحديات التنمية العربية لما بعد العام 2015

هل تُهدِّد الاضطرابات الأمنية التغلغُل الصيني الواسع في أفريقيا؟

الحكومة الأفغانية عالقة بين طالبان وداعش والافيون والسياسة الاميركية

التواطؤ الأميركي وإنتفاضة القُدس الثالثة

تغييرات كبيرة في نسق العلاقات الدولية على وقع المآسي الانسانية

عن مخاطر الحسابات الروسية الجديدة في سوريا!

عودة هادي إلى عدن وتقلُّص الإنفلاش الإيراني

تحولات كبيرة في الموقف الروسي تجاه الأزمة السورية

معالم تراجع في أخلاقيات النظام الدولي!

هل يلاحق القضاء البريطاني نتنياهو اثناء زيارته الى لندن؟

عن المسؤولية الجنائية لقادة العدو الإسرائيلي في إحراق الطفل دواشنة

ايران: مصلحة الدولة ومصلحة النظام

عن تآمر “إسرائيل” والنظام السوري على العرب الدروز!

سِباق بين عصا البشير والمحكمة الدولية من جنوب افريقيا الى السودان