العالم العربي بين حربين دوليتين على الإرهاب

فوزي أبوذياب

ينشغل المجتمع الدولي منذ أشهر بتطورات أحداث العراق، وترقب تداعيات الزلزال الكبير الذي أحدثه سقوط مساحات واسعة من مدن ومحافظات بلاد ما بين النهرين تحت سيطرة تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش)، وتفكيكه لجغرافية المنطقة وتشكيلات الدول التي رسمت حدودها اتفاقية سايكس – بيكو نهاية الحرب العالمية الاولى.
وبدأت تتشكل الاحلاف الدولية والاقليمية، وتحشد قواها العسكرية وتستعد البوارج وحاملات الطائرات لاعادة تمركزها في البحر المتوسط وشط بحر العرب، لمواجهة هذا التنظيم الخطير، ووقف تمدد ارهابه ووحشية إجرامه الى دول أخرى. وتكاد وكالات الاخبار العالمية تعجز عن رصد ومتابعة المواقف والتصاريح اليومية والدورية التي يطلقها رؤساء بعض الدول الغربية ووزراء خارجيتهم حول المخاطر التي يشكلها وجود (داعش) ليس على الأمن والسلام الدوليين في منطقة الشرق الأوسط فحسب، إنما على المستقبل الوجودي لدول العالم وشعوبها، دون البحث في الاسباب الموضوعية التي أدت الى الظهور المفاجئ لهذا التنظيم وسرعة تمدده واحتضان بعض بيئات المجتمع الاسلامي لعناصره في العراق وسوريا ودول أخرى في أفريقيا وشرق أسيا وبلاد القوقاز.

لعله من المفيد قبل قرع طبول الحرب العالمية الجديدة ضد “داعش” البحث في ما آلت اليه نتائج الحرب العالمية على الارهاب، والتي أطلقتها الولايات المتحدة الأميركية وخاضت غمارها على رأس تحالف دولي انخرطت فيه جيوش الدول المتقدمة، ضد “تنظيم القاعدة” في أفغانستان وزعيمه “أسامة بن لادن” الذي حملته واشنطن مسؤولية هجمات 11 أيلول 2001 حيث اخترقت طائرات البوينك أبراج التجارة العالمية في نيويورك في مشهد لم يسبق ان شاهده العالم من قبل، مروراً بالحرب الكونية على العراق التي أسقطت نظام “الطاغية” صدام حسين بحثاً عن السلاح النووي العراقي عام 2003، وفق تقارير الاستخبارات الاميركية والبريطانية، والتي اختفت آثارها لحظة دخول الجيوش الغربية الى بغداد.
عشية الحرب الاميركية البريطانية على العراق عام 2003، وقبل أن تصب راجمات صواريخ الكروز الاميركية حمم نيارانها على المواقع العراقية من قواعدها في ألمانيا تمهيدا لدخول جيوش الحلفاء، قال الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، “أن الحرب على العراق سوف تفتح أبواب جهنم على العالم” رافضا مشاركة بلاده في تلك الحملة.

هذا الاستشراق الفرنسي لمخاطر الحروب الاستباقية وسياسة اسقاط الانظمة بالقوة دون اي مسوغ قانوني أو مبرر علمي يرتكز على مبادئ الشرعية الأممية ومقتضيات الامن والسلام الدوليين، على عكس ما جرى في دول يوغسلافيا السابقة عام 1995، قرأ فيه البعض حينها، تخاذلاً فرنسياً ورغبة شيراكية بالتمايز الفرانكوفوني عن الدول الناطقة باللغة الإنكليزية المشاركة في تلك الحرب (بريطانيا – استراليا – أميركا وكندا)، دون أن يستوقف هذا التحذير الفرنسي اهتمام اي من الباحثين والمستشارين المنظرين لتلك الحروب، أو حتى تكليفهم عناء البحث في مخاطر المس بتوازنات التركيبة الاجتماعية والديموغرافية لدول منطقة الشرق الاوسط وتشابكها الاثني والعرقي والمذهبي، ليس على العراق فحسب بل على دول وشعوب المنطقة بأسرها.

لقد نجحت القوة الدولية في ازاحة نظام حكم الطالبان عن كاهل الشعب الافغاني، وفي اضعاف سطوة تنظيم القاعدة في تلك البلاد لكنها أسهمت في نشر هذا التنظيم وتعاليمه الجهادية العنفية إلى دول العالم قاطبة، لا بل تحول أسامة بن لادن من إرهابي تلاحقه الاستخبارات الدولية، الى زعيم جهادي تنتظر توجيهاته خلايا مسلحة وجماعات متشددة لا تقيم للدول وأنظمتها وأجهزتها الامنية اي اعتبار، كما تحول تنظيم القاعدة الذي انشأته الاستخبارات الأميركية ودربته على مقاتلة الشيوعية في افغانستان ودول أوروبا الشرقية، الى تنظيم أممي يستقطب المجاهدين من أصقاع الأرض للقتال في أي بقعة من العالم يدعوهم “الجهاد في سبيل الله” للقتال والموت فيها.

كما نجحت القوة الدولية في اسقاط نظام حكم “الطاغية” صدام حسين، وإزاحة تماثيله من ساحات العراق، وإنهاء حكم حزب البعث في بلاد الرافدين، كما حققت توجيهات القائد العسكري “بول بريمر” أهدافها بحل الجيش العراقي وتدمير ثاني قوة عسكرية عربية بعد الجيش المصري، لا بل نجح بريمر في حل مؤسسات الدولة العراقية، بغية إعادة تركيبها من جديد وفق أسس “ديمقراطية”، لكنه في ذلك كان يعمل على تمزيق النسيج الوطني العراقي، وتقسيم العراق وتحريك الغرائز المذهبية فيه، من خلال تغليب فئة على فئة، وإقصاء جماعة على حساب جماعة أخرى، في منطقة تختزن في رمالها ثروات النفط العالمي وفي أروقة أزقتها وعلى ضفاف نهريها، تاريخ النزاعات والصراعات والمآسي المشتعلة تحت رماد الثأر، المتنقل فوق رايات الهزيمة والانتصار.

لا نحمل القوة الدولية ولا الحكام الاميركيين للعراق، مسؤولية الصراع التاريخي بين الفرق والمذاهب الاسلامية، إلا أننا لا نبرئهم من مهمة تسعير هذا الصراع، والنفخ في رماده المشتعل، والذي أعادت الثورة الاسلامية في ايران (1979) إيقاده من جديد، عبر مشاريع تصدير الثورة الى دول الجوار العربي والاسلامي، رافعة شعار “يا لثارات الحسين”، التي ألهبت الفكر الشيعي “المنتظر عودة المهدي”، والتي أحيت في المقابل طموحات إسترجاع “الخلافة الاسلامية”، تحت شعار “الجهاد في سبيل الله”، على هدى “السلف الصالح”، فعادت معها صراعات أهل البيت، في الفقه والتأويل والولاية، التي فرقت المسلمين بين “سُنة” و”شيعة” وملل ومذاهب، أشعلت فيما بينهم نيران الحروب، وسالت الدماء التي أغرقت المسلمين وشعوبهم ودولهم في الجهل والفقر والتخلف.

لم تنجح مشاريع الدول المدنية الحديثة ولا الحدود الجديدة لتلك الدول، التي رسمتها جيوش الدول الغربية المنتصرة في الحرب العالمية بعد أن أعطت لنفسها حق الوصاية على مستعمرات البلاد العربية الخاضعة سابقاً لحكم السلطنة العثمانية، من إزالة عناصر الفرقة والخلاف بين أبناء الوطن الواحد، ولم تفلح مشاريع الوحدة العربية ولا حركاتها التصحيحية في كسر جدار العزل الوهمي الذي بنته الطوائف والمذاهب والاثنيات العرقية حول نفسها، الذي أرست قواعده سياسة “الملل والنحل” في ولايات السلطنة العثمانية وفرمانات “الباب العالي” طيلة أربعمئة عام، لتثبيت دعائم آخر عهود الخلافة الإسلامية.

بعد ثلاث عشرة سنة من الحرب الدولية على الارهاب وعشر سنوات على الاحتلال الاميركي للعراق، تبدو الصورة التي استشرفها الرئيس الفرنسي الاسبق أكثر وضوحاً من الاستراتيجيات التي وضعتها أروقة البيت الأبيض ودوائر الاستخبارات فيه، فالارهاب بات أكثر شراسة والعنف أكثر وحشية وبشاعة، من تلك الاعمال التي مارسها الجيش الاميركي في سجن أبو غريب، أو تلك التي نفذها تنظيم القاعدة ومشتقاته بأسماء وأشكال مختلفة في دول العالم، وبات تنظيم القاعدة ومشتقاته يهدد أمن واستقرار دول عديدة في أفريقيا، والشرق الاوسط وشرق آسيا، وباتت شعارات (الجهاد) تستقطب الأعداد الكبيرة من (المجاهديين) الاسلاميين من دول العالم الغربي للقتال الى جانب إخوانهم المسلمين في دول أخرى، ما يهدد أمن واستقرار تلك الدول لا سيما عند عودتهم اليها.

أما العراق الذي وعد الرئيس الاميركي جوج بوش الابن بأن ينعم بالديمقراطية والاستقرار، فإنه يعيش ومنذ خروج الاحتلال الأميركي منه في آب 2011، حرباً أهلية بين مكوناته الطائفية والعرقية المرتبطة بالقوى الاقليمية المحيطة، بعد أن شرع سقوط صدام حسين الباب أمام التدخل الإيراني في شؤونه الداخلية. وتتوزع القوى المتقاتلة على ثلاث مناطق جغرافية ذات غالبية مذهبية وعرقية مدعومة كل منطقة من دولة خارجية مجاورة (منطقة شيعية حليفة لإيران ممسكة بزمام السلطة- قوة سنية يتحكم بها تنظيم “داعش” وبعض الفصائل المسلحة المدعومة من تركيا وقطر – قوة كردية تابعة لإقليم كردستان العراق المستقل). يشكل العراق اليوم كما سوريا نقطة استقطاب (للمجاهدين) الأجانب، الوافدين من دول الجوار وبعض الدول الاوروبية والآسيوية، للقتال الى جانب المقاتلين العراقيين كل حسب انتمائه المذهبي (السني – الشيعي).

نهاية شهر حزيران يونيو الماضي نصب تنظيم (داعش) زعيمه أبو بكر البغدادي خليفة للمسلمين على المساحة الجغرافية التي يسيطر عليها مقاتلو (داعش) ومناصروهم من تنظيمات اسلامية سلفية أخرى في سوريا والعراق، معلنين قيام الدولة الاسلامية في العراق والشام، وبات خطر هذا التنظيم يتجاوز حدود الدولتين (سوريا والعراق) المنهكتين في صراعات داخلية مدمرة تمارس فيها أبشع انواع الحروب، وبدأ مقاتلو هذا التنظيم فرض انماط حياة اجتماعية عنفية ومتطرفة مخالفة لتقاليد تلك البلاد، وفرض الشريعة الاسلام على غير المسلمين، وطردهم من منازلهم وقراهم، في عملية تهجير وتطهير عرقي جماعي شهدت المنطقة مثيل لها عام 1948 ابان اغتصاب الاسرائيليين أرض فلسطين وطرد أصحابها منها.

بعد عقد من الزمن على الحرب العالمية على الارهاب تضاعف منسوب العنف والقتل والاجرام في دول عديدة من أفريقيا وآسيا والدول العربية، حيث مورست أبشع انواع الجرائم والقتل الجماعي والمجازر، واستخدام اعتى انواع الاسلحة ضد المدنيين في حروب عبثية، تمارسها الأنظمة والدول وجيوشها المتطورة، إضافة الى الجماعات العسكرية المسلحة من أحزاب عقائدية وأصولية متطرفة، فالجيش الاسرائيلي استخدم الصواريخ والقنابل المحرمة دوليا في حروبه ضد لبنان وغزة، وقتل المدنيين ودمر المستشفيات والمدارس ولم تسلم من نيران طائراته مراكز الاغاثة الدولية.

والنظام السوري الذي ابتكر البراميل المتفجرة ليمطر بها المدنيين في انحاء سوريا، بعد أن عجزت الصواريخ الباليستية من تحقيق أهدافه، لم تسلم الاطفال من غازات قنابل سلاحه الكيميائي القاتل والمحرم دولياً، كما لم تسلم المدارس والاحياء السكنية ولا مخيمات اللاجئين الفلسطينيين من أبشع انواع القتل والجرائم التي مارسها ضد شعبه، إضافة الى الآلاف من المعتقلين والمفقودين الذين تختفي قصصهم التي فاقت قصص معتقلات غوانتانامو وسجن أبو غريب، بين ركام السجون والمقابر الجماعية، وقد نقلت وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي العديد من المشاهد الاجرامية البشعة التي ارتكبتها عناصر أمن النظام ليس بحق المدنيين فحسب انما بحق البشرية جمعاء، وهذا ما فعله أيضا النظام الليبي ضد شعبه.

وإذا كان العنف يولد العنف والقتل يولد القتل، فإن سكوت دول العالم عن جرائم تلك الانظمة شرع أشكال العنف المختلفة أمام الجماعات المسلحة ومقاتلي التنظيمات الجهادية والعقائدية، وباتت عمليات الذبح وقطع الرؤوس والاعدام والاغتصاب وتعذيب الأطفال والنساء، ميزة تباهي وافتخار بين المتقاتليين في دول المنطقة، حيث باتت قصص مجازر (روندا) أقل بشاعة من تلك التي تتناقلها كاميرات القتلة وشاشات التلفزة. أشكال العنف تلك التي كان من المفترض ان تنهيها الحرب الكونية ضد الارهاب ضاعفتها أضعافا بعد عشر سنوات.

صورة العالم العربي، المشرذم بين الحروب المذهبية وأشكال القتل والمجازر والتشريد والتفتيت، والتقسيم بعد ثلاثة عشر عاماً على الحرب العالمية التي أطلقها بوش الأبن ضد ارهاب (القاعدة) والعراق، لن تكون أفضل حالاً بعد الحرب العالمية الجديدة ضد ارهاب (داعش) في سوريا والعراق، سيما وأن استراتيجية أوباما لمحاربة (داعش)، هدفها واضح “سنضعف تنظيم داعش وندمره في نهاية المطاف من خلال استراتيجية شاملة ومتواصلة لمكافحة الارهاب”، وملاحقة متشددي التنظيم “أينما كانوا”، في “سوريا كما في العراق”.
هذه الحرب الجديدة التي قال اوباما أنه لن يرسل إليها غير الطائرات والخبراء لن تكون أكثر جدوى وفاعلية من تلك التي شنها بوش الابن، ما يعني أن أهدافها الاستراتيجية غير المعلنة، أبعد من أهدافها المعلنة، وقد يكون جزءا منها تثبيت ما وصلت إليه استراتيجية الحرب الاولى من تدمير للدول وتفتيت للشعوب، وتعميم أشكال القتل.

لقد خاض بوش الأبن الحرب العالمية الأولى ضد الأرهاب في لحظة دولية دقيقة، ليكرس موقع الولايات المتحدة الأميركية على رأس القطبية الأحادية الدولية، بعد سقوط جدار برلين وانهيار منظومة الدول الشيوعية، ويخوض أوباما اليوم الحرب الثانية ليعيد الولايات المتحدة الأميركية الى الموقع الذي أوصله إليها بوش الابن، بعد أن بدأت تحاول روسيا تركيب موقع جديد لها في أوروبا، وتستعد إيران لاعلان امتلاكها المعرفة النووية والقدرة التخصيبية، وامتلاكها منظومة صاروخية باليستية متطورة، وليعلن للعالم أن بلاده تجاوزت الأزمة الإقتصادية التي عاشتها في السنوات الماضية.

الحرب العالمية الثانية على الارهاب لن تكون أفضل من سابقتها، لا بل فإن ويلاتها على ما تبقى من أشلاء دول عربية لن تكون سهلة.حيث أن مؤتمر الحلف الاطلسي الأخير في “ولز” شكل علامة فارقة على انتقال الادارة الاميركية من سياسة إدارة الأزمة، وترك الأطراف تتطاحن فيما بينها، ألى مرحلة إعادة بناء وهندسة سياسات المنطقة وتحالفاتها، على المستويين الاقليمي والدولي وذلك من خلال التركيز على إنجاز أول في العراق، من المتوقع أن ينتج معادلة سياسية جديدة تشكل منصة لأنجاز آخر في سوريا قد ينتهي بتنفيذ مقررات جنيف الأول والثاني.

هنيئا لـ “القاعدة” وهنيئا لـ “داعش”، ما حققاه للعرب وللإسلام دين الرحمة والتسامح من انجازات عظيمة.

اقرأ أيضاً بقلم فوزي أبوذياب

انتخاب رئيس الجمهورية مدخل لاي عملية اصلاحية

لبنان بين تحديات الداخل وتحولات الخارج

غياب “غريس” و”غاليانو” خسارة أخلاقية وفكرية

غزة تحت العدوان مجددا

هذا ما قاله راشد الغنوشي في “إخوان” مصر

جنيف 2 – التسوية المفقودة !

المعارضات السورية وتحدي (جنيف 2)

الاتفاق النووي الايراني ومفترق الحرب والسلم

لبنان بين سجال نصرالله-الحريري وجنيف 2

هل بات مؤتمر جنيف 2 المدخل الوحيد للحل؟

الحوار الإيراني مع الغرب بين تصعيد المرشد وانفتاح روحاني وتحدي الوقت

الضربة العسكرية المتوقعة على سوريا وتداعياتها

حراك دولي ناشط لمعاقبة النظام السوري على مجازر الكيماوي

تحول جذري في مسار الازمة السوري

ماذا بعد رسائل الليل الصاروخية… غير المنضبطة؟

تونس على حافة الهاوية… مجدداً!!

هل ينجح الجيش الحر في تعديل موازين القوى الاستراتيجية؟

هل أطيح بظاهرة الأسير أم أسس لظواهر مماثلة؟

لبنان أمام أزمة مفتوحة

هل دخل لبنان في جبهة الصراع الإقليمية؟