التهديد الثلاثي الذي تشكله «الدولة الإسلامية»

  يتركز النقاش العام في واشنطن بشكل مكثّف في الوقت الحالي على التهديد الذي تشكله الميليشيا الإرهابية العاملة في العراق وسوريا التي تطلق على نفسها اسم «الدولة الإسلامية». إلا أن الحقيقة هي أن هذا التنظيم لا يشكل تهديداً واحداً بل ثلاثة تهديدات مختلفة يحتاج كلٌّ منها إلى استراتيجية خاصة به.

أولاً، أن «الدولة الإسلامية» تسببت في زعزعة الاستقرار في رقعة كبيرة من الشرق الأوسط، بتهديدها ليس فقط سوريا والعراق ولكن لبنان والأردن وغيرها أيضاً – ولعل هذا التهديد هو الأكثر مباشرة [للمنطقة]. ثانياً، أن «الدولة الإسلامية» هي بمثابة المغناطيس الجاذب لربما 12 ألف مقاتل حتى الآن، منهم عدد كبير من الغرب الذين قد يعودون في يومٍ ما إلى بلادهم ويشاركون في التخطيط لهجمات ضدّ بلادهم نفسها. وأخيراً، أن التنظيم أعاد انتباه الرأي العام الأمريكي إلى الاحتمال المخيف بوقوع هجوم منظم واسع النطاق على الأمريكيين والمنشآت الأمريكية في الخارج أو حتى داخل الولايات المتحدة.

عندما يتعلّق الأمر بهجوم على الوطن الأمريكي من قبل «الدولة الإسلامية»، يحذر المجتمع الاستخباراتي بأن هذا الأمر يفتقد لأدلة موثوقة عن أي مؤامرة فاعلة حالية من هذا النوع. لكن بطبيعة الحال قد يتغير ذلك، فالإمكانيات الواضحة لـ «الدولة الإسلامية» ومواردها وطموحاتها تستدعي الحذر، لاسيما وأنها تتحدى تنظيم «القاعدة» في مجال الهيمنة على الحركة الجهادية العالمية وتعني بالانتقام من الضربات الأمريكية.

ولكن كما أشار مدير “المركز القومي لمكافحة الإرهاب” ماثيو أولسن مؤخراً، من المهم أن ندرك أنه إذا كانت «الدولة الإسلامية» تخطط لشن هجمات ضد الغرب أم لا، فإنها ليست سوى جزءاً من حركة جهادية عالمية تشمل منظمات أخرى ضالعة من دون شك في مؤامرات مماثلة. ومع كل الأحاديث حول ما إذا كان تنظيم «القاعدة» وأمثاله في حالة تراجع وفرار، من المرجح أن يكون تهديد الإرهاب مستمرّاً ويستدعي استراتيجية طويلة الأمد لتحديد التهديدات والتصدي لها أينما نشأت، وفي الوقت نفسه حماية الحريات المدنية التي يعتز بها الأمريكيون.

إن تهديد المقاتلين الأجانب ليس جديداً؛ فقد توجه الشباب إلى أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي وإلى العراق في العقد الأول من الألفية الحالية وإلى مواقع صراعات أخرى أصغرحجماً في الفترة بينهما من أجل خوض الحروب. لكن يبدو أن هذا التهديد ازداد حدةً مع نشوء «الدولة الإسلامية» نظراً إلى النجاحات التي حققتها وإلمامها الإعلامي فضلاً عن ثروتها. أما المقاتلون الأجانب الذين يتوجهون للقتال مع «الدولة الإسلامية» أو يبحثون عن ملاذٍ آمن في الأراضي التي تسيطر عليها فقد ينتشرون في يوم ما ويزعزعون استقرار دول أخرى في المنطقة. وأولئك من بينهم الذين يحملون جوازات سفر غربية، قد يسعون – جنباً إلى جنب مع المتطرفين “محليي النشأة” الذين يستمدون وحيهم من «الدولة الإسلامية» – لتنفيذ هجمات في الداخل مستوحاة من التنظيم وإن ليست بالضرورة بتوجيه مباشر منه.

ولسوء الحظ، لدى الولايات المتحدة خبرة طويلة في معالجة التهديد الذي تشكله «الدولة الإسلامية». فهو يدعو إلى استراتيجية متعددة الجوانب لتحدي الأيديولوجية المتطرفة ومكافحة دفع الشباب إلى الأصولية، وهذا أمر لا يحصل شخصيّاً فقط بل أيضاً عبر الإنترنت. إن هذا العمل يجب أن يستهدف الممولين والميسرين ويعيق تدفق المقاتلين الحالي من مناطق النزاع وإليها بالتعاون مع الدول المحاذية لها.

ولعلّ التهديد الذي تشكله «الدولة الإسلامية» على مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط هو الأكثر إلحاحاً والأكثر صعوبة الناتج عن التنظيم. لكن «الدولة الإسلامية» ليست غولاً، بل تحدٍّ يمكن للولايات المتحدة التصدي له. لقد استفاد التنظيم من ضعف خصومه وعدم تنظيمهم، وازدهر في مناطق نائية غير خاضعة للسلطة ولّدتها الحرب الأهلية في سوريا، وكان المستفيد المباشر من تغاضي العالم عن العراق وسوء الحكم ضيق الأفق في بغداد. وحظيت «الدولة الإسلامية»  بسنوات لإعداد ساحة المعركة وكانت تعمل بنشاط في السنوات الثلاث الماضية دون تسليط إعلامي عليها.

وكما كتب مايكل نايتس، لدى “الدولة الإسلامية” نقاط ضعف عسكرية أيضاً حيث أنها تعتمد على التنقل، وغير مجهزة للمواقف الدفاعية، كما أن الإرهاب نفسه الذي تستخدمه لترويع المعارضين يجعلها تفتقر لأي حليف. ويمكن دحر «الدولة الإسلامية» من خلال المقاربة المناسبة. ولكن كما أن التصدي للتهديد المتعدد الأوجه الذي تشكله «الدولة الإسلامية» يتطلب أكثر من مجرد تدمير وحداتها شبه العسكرية، فإن تحقيق استقرار العراق وسوريا سيحتاج إلى أكثر من إلحاق هزيمة بـ «الدولة الإسلامية».

وفي ما يخص العراق، يبدو أن الرئيس الأمريكي أوباما قد توصل أخيراً إلى استراتيجية. ففي البداية، امتنع عن اللجوء إلى القوة لتحفيز السياسيين في بغداد لإنهاء نزاعاتهم إلا أنه استخفّ بعمق الانقسامات بينهم وبسرعة تقدم مقاتلي «الدولة الإسلامية». ومع ذلك، فحين قررت الولايات المتحدة أخيراً أن تجمع بين الدبلوماسية والقوة معاً بدأت الأمور تتحرك؛ فقد تنحى رئيس الوزراء السابق نوري المالكي وتم وضع حد لتقدم «الدولة الإسلامية» وبدأ الحلفاء بالانضمام إلى مساعي الولايات المتحدة.

صحيح أن الوضع في العراق قد يتطلب الكثير من الجهود الإضافية وقد يكون من الضروري في النهاية استعمال المزيد من القوة، إلا أن هذه الخطى الأولية تعتبر جيدة. لكن هزيمة «الدولة الإسلامية» ومعالجة عدم الاستقرار في المنطقة على حد سواء سيتطلب من الولايات المتحدة اتخاذ موقف جدّي تجاه سوريا أيضاً، وهي مشكلة ضخمة عجزت واشنطن عن التصدي إليها بشكل مناسب في السنوات الثلاث والنصف الماضية. وإذا لا تنجح الولايات المتحدة بذلك، فلن تقدم سوريا عمقاً استراتيجيّاً “للدولة الإسلامية” فحسب، بل ستوفر أيضاً ملاذاً آمناً للإرهابيين وتؤدي إلى تسرّب عدم الاستقرار عبر الحدود الإقليمية.

إن الرئيس الأمريكي على حق عندما يقول إنه يحتاج إلى صياغة استراتيجية لسوريا – ليس فقط من أجل دحر «الدولة الإسلامية» هناك، بل لتغيير الديناميات التي تحرك الصراع وتخلق الظروف المؤاتية لإرساء الاستقرار في البلاد. إلا أن المعضلة لا تكمن في كيفية تصميم هذه الاستراتيجية – فقد قدم العديد من المحللين والمسؤولين مقترحاتهم خلال السنوات الثلاث الماضية – بل تكمن في السبب الذي جعل الإدارة الأمريكية تمتنع عن اعتماد إحدى هذه الاقتراحات منذ فترة غيرة طويلة وتبدأ بتطبيقها.

ولن تتطلب مثل هذه الاستراتيجية شن ضربات جوية على «الدولة الإسلامية» فحسب، بل ستحتاج أيضاً إلى تقديم الدعم للمعارضة السورية المسؤولة، التي تشمل الأكراد السوريين، وممارسة المزيد من الضغط على نظام الأسد – الذي قام بعمليات قتل أكثر بكثير من التنظيم باستخدامه أساليب لا تقل وحشية، وإن لم يكن مصرّاً على نشرها كما تفعل «الدولة الإسلامية» – بالإضافة إلى التواصل مع الأقليات في سوريا وطمأنتها، علماً أن الكثير منها قد دعمت الأسد وتخشى لأسباب وجيهة من الثأر الطائفي إذا ما سقط النظام. وستهدف هذه الخطوات إلى إرساء الاستقرار في مناطق في سوريا تحت سيطرة المعارضة ووضع الصراع السوري على المسار الصحيح باتجاه الحل.

لقد تم الترويج لكل خطوة من هذه الخطوات في وقت ما من قبل مستشاري الرئيس أوباما، وتشكل مجتمعةً مقاربة نحو المتطلبات الاستراتيجية والإنسانية للولايات المتحدة التي يتعيّن على الرئيس اعتمادها. وبينما يجب على الرئيس الأمريكي أن يصر بأن يتحمل الحلفاء حصتهم من العبء، إلا أنه ليس بإمكانه الحصول على دعمهم قبل أن يقدم خطة يجمعهم وراءها ويتمكن من إصدار متطلبات محددة للمساهمة.

وبسبب الطريقة التي تُجسد بها «الدولة الإسلامية» ثلاثة تهديدات بارزة على المصالح الأمريكية، تشكل هزيمتها هدفاً صائباً وأولوية طارئة. لكن يجب على الولايات المتحدة أن تركز على هذه التهديدات وليس فقط على التنظيم. ورغم أنه من الممكن الحد من التهديدات وإلحاق هزيمة بـ «الدولة الإسلامية» بمساعدة الضربات الجوية، إلا أن مثل هذه الضربات وحدها لن تنهي خطر الإرهاب أو عدم الاستقرار الذي يعاني منه العراق وسوريا. إن ذلك سيتطلب من واشنطن ممارسة مجموعة من الأدوات السياسية بطريقة تكمل بعضها البعض، وأبرزها الاهتمام والالتزام المستدامان في منطقة من المغري الابتعاد عنها – نظراً للتحديات المستعصية التي تطرحها على ما يبدو – ولكنها تبقى حيوية لمصالح الولايات المتحدة في العالم.

 ————————————————

(*) مايكل سينغ / معهد واشنطن