وليد جنبلاط ..

صلاح تقي الدين

لافتة هي حركة رئيس “اللقاء الديموقراطي” النائب وليد جنبلاط الداخلية والخارجية على حد سواء، أكانت الزيارات التي يختار القيام بها إلى عواصم القرار الدولي في مواقيت معينة لاستشراف آفاق المرحلة ومحاولة تكوين الصورة التي سيكون عليها لبنان والمنطقة في حسابات اللاعبين الدوليين والاقليميين المؤثرين وكيفية “التأقلم” معها، أم الجولات الداخلية التي يجول فيها على قرى الجبل وتحديداً تلك التي تحاول استعادة الحياة المشتركة الطبيعية بعد ختم جرح الحرب الأهلية والتهجير.

خارجياً، لا يخفى على أحد شبكة العلاقات الواسعة التي يتمتع بها جنبلاط وحضوره المطلوب والمميّز في العالمين العربي والدولي، حيث أينّما حلّ تجده يجتمع إلى المسؤولين في السلطة أو المؤثرين في صنع قرار هذه السلطة، ويضع بعد لقاءاته رؤيته لما سيكون عليه الوضع الإقليمي أو الدولي وتأثيراته المحتملة على لبنان، فيتخّذ موقفه الذي غالباً ما يثير انتقادات محبّيه وخصومه على السواء خصوصاً إذا كان “متغيّراً” أو “منقلباً” على مواقف سابقة كان قد اتخذها.

داخلياً، من المؤكّد أن جنبلاط ليس بحاجة إلى حشد التأييد الشعبي في منطقة الجبل، فهو يتمتع بزعامة قلّ نظيرها بين أقرانه السياسيين، لكن جولاته خصوصاً الأخيرة في منطقتي الشحّار والغرب إنما هي نابعة من منطلق إطلاع القاعدة على المتغيّرات والتطورات التي برأي جنبلاط تشكّل اليوم خطراً وجودياً لم نشهد له مثيلاً حتى في عزّ الحرب الأهلية الغابرة، ولسان حاله لمّ الشمل والتعاضد بين مكوّنات الجبل لمواجهة الموجات التكفيرية والارهابية المتربّصة بلبنان على حدوده الشرقية والشمالية دون أن يغفل الخطر الدائم والتاريخي الجاثم على حدود لبنان الجنوبية.

ومعروف أنه لم يسبق أن تعرّضت شخصية لبنانية مركزية إلى ذلك الكم من الانتقاد وصولاً إلى الاسفاف والافتراء، بقدر ما تعرّض له وليد جنبلاط. لكن تبيّن ويتبيّن اليوم أنه باختصار، كان محقاً في محطاته السياسية، وكان يعرف أن الحالات المصيرية لا تواجه بالبلاغة الخطابية ولا بتوزيع الكلام إرضاء لهذا الفريق أو ذاك، أو اتقاء لشرّ هذا “المعلّك” السياسي أو ذاك، وإنما تحتاج إلى خطوات ملموسة وتقريرية .. لكم من مرّة بذل جهوداً كبيراً داخل بيئته نفسها قبل أن يتبيّن مرّة أخرى أنه كان على حق، وأنه لا يلعب بالسياسة ليتسلّى على طريقة غيره، ولا ليبحث عن أمجاد إضافية ليراكم في حساباته أرصدة على حساب الناس ودمائها.

تعرّض للكثير، وبالتأكيد عرّض أيضاً الآخرين للكثير، لكن لا أحد يجادل اليوم بأن حركته كانت دائماً محكومة بمسلّمة تهون من أجلها الأثمان: السلم الأهلي بمعنى عدم العودة إلى الحرب الأهلية وعدم السماح بأخذ المجتمع الدرزي إلى أماكن موحشة ومكلفة وعبثية وخارج السياق التاريخي الاسلامي العربي العام.

من أجل ذلك، اتخذ أحياناً وليد جنبلاط، ولا يزال، مواقف وإجراءات و”لقاءات” تبدو في ظاهرها نافرة وتوضع عند أهل الكيد والافتراء تحت خانة “التقلّب” أو “المزاج”، لكن يتبيّن بسرعة أنه تحت سقف المسلمّة نفسها، فعل ذلك وسيكرره باعتبار الأمر “حلال شرعاً” وليس من ضمن “الكبائر” الموصلة إلى “الكفر”.

واليوم أكثر من أي يوم مضى، يعرف البعيدون قبل القريبين أهمية وليد جنبلاط في الحياة السياسية والاجتماعية اللبنانية، ومركزية دوره كجسر واصل بين ضفتين متباعدتين، بل بينهما هوة قابلة للاتساع والاشتعال .. بهذا المعنى كان لافتاً مثلاً أن الاشادة بتحركاته الأخيرة محلياً وإقليمياً وصلت إلى أشد المناوئين له في السياسة و”الارتباطات”، مع العلم أن وليد جنبلاط، الذي قال عنه مرّة الرئيس نبيه بري أنه “في الملمّات الوطنية لا يخطئ البوصلة”، لا يزال وسيبقى ملتزماً بمسلمة السلم الأهلي تحت سقف الالتزام الواضح والتام بالقضايا العربية المركزية دائماً وفي مقدمها قضية فلسطين، وراهناً نصرة الثورة السورية على الطاغية بشار الأسد.

… رجل تسوية وليد جنبلاط. وهذا في المناخ الاشتعالي القائم في طول العالمين العربي والاسلامي وعرضهما، يحسب له في التاريخ ولا يحسب عليه في التكتيك السياسي. فكثيرون هم الذين يجارون اللحظة ويطلقون الصراخ والزعيق والتحريض والبخّ والتهييج على مداه، لكن قلّة هي التي تعرف أن الكارثة الفتنوية لا توفّر أحداً حتى لو افترض نفسه أنه أكبر من الهزيمة .. وليد جنبلاط من تلك القلّة التي اعتمدت العقل وحده مقياساً وترك الغريزة للمراهقين والمغالين والفارغين في السياسة والأخلاق على السواء.