تغريدة الرأس المقطوعة

د. قصي الحسين

يحكي لنا “جاك دي فوراجين” Jacques de Voragine، في أسطورته الذهبية الموسومة حكاية معجزة وقعت لـ”ألوتيس Lutece” في زمن الإمبراطور الطاغية دوميتيان الّذي شهد حكمه أعظم ما يوصم به من الاضطهاد والطغيان. ذلك أن الجيش الروماني كما تقول الأسطورة، أوقف الأسقف “دينيس – Denis” وهو لم يمض على انتخابه أسقفاً في باريس، سوى أيام قليلة. فأمر على الفور بسجنه وتعذيبه في جزيرة “إيل دو لا سيتي- L’île de la cite”. وبعد محاكمة صورية، حكم عليه بقطع رأسه في أعلى تلة من الجزيرة: “موانتمارتر Montmartre” كما عرفت فيما بعد لدى الأهالي.

وتقول الأسطورة، أنه بسبب كسل فيلق جنود الامبراطور، الّذين أوكل اليهم تنفيذ المهمة، فضل هؤلاء عدم تكبد المشقة بسوق الرهينة إلى أعلى التلة، فقاموا بتنفيذ الحكم بضحيتهم في منتصف الطريق.

وتتابع الأسطورة: “.. تدحرجت رأس الأسقف المغدور على الأرض” ولكن يا للرعب: حيث وقف “دينيس” وهو برأسه المقطوعة، وحمل رأسه وهو يمسك بها بين يديه، واستمر بطيئاً بطيئاً في صعود التلة. ففر فيلق الجنود الرومان من الرعب. غير أن “دينيس” وقف غير مبال، يمسح الرأس بين يديه (رأسه) في نبعة جارية. واستمر يمشي، متابعاً طريقه بكل تؤدة، حتى وصل إلى أعلى التلة، وهي منطقة “سان دينيس” الحالية فانحنى على الأرض ووضع رأسه عليها وقال: أمرك سيدي.

كنت أنظر إلى عظمة الرهينة الأميركية جايمس فولي والذي احتز فيلق داعش رأسه، كيف تمتم وتمّم وضوءه بدمه، ثم يمّم وجهته نحو الامبرطور أبو حسين باراك أوباما، بعد أن احتضن الرأس بين يديه (رأسه)، صاعداً بكل ثبات وتؤدة إلى المكتب البيضاوي في البيت الأبيض ليدرجه في جدول حساباته وينـزع عنه عقدة فارق الدين واللون..

كذلك كنت أنظر إلى المشهد الافتراضي وربما الحقيقي أخيراً للرقيب في الجيش اللبناني الذبيح علي السيد وهو يتوضأ بيديه، ثم ينهض ملتقطاً رأسه، يغز السير نحو الامبراطور “أبو حسين باراك أوباما” ويسلمه الرأس (رأسه)، دفعة على الحساب، من ثمن المساعدة العسكرية الأميركية للبنان.

وفي مدينة “سنجار/شنكال” الّتي سقطت مؤخراً في أيدي “الدولة الإسلامية” بالقرب من جبل “سنجار/ شنكال”، كان خمسون ألفاً من الأزيديين، يحملون رؤوسهم ويتوجهون بها على عجل إلى أعلى القمة في جبل سنجار/شنكال، ثم يرسلون بها مع الحمام الزاجل إلى البيت الأبيض، علّ سيد المكتب البيضاوي، يحتفظ بها كدفعة على الحساب، يدرجها في جداول ناقلات النفط، ليصبح سعر النفط أدنى.

وفي مدينة الموصل لملمت طائفة “ن” حبات سبحاتها وحبات قلوبها، وحملت صليبها على ظهرها، وخرجت في قافلة من سهل نينوى والموصل والقرى المحيطة بها، فبدت الصلبان في مشهد افتراضي، تتأبط رؤوسها المكللة بتيجان الشوك وتغز السير بها إلى أعلى التلة على درب الجلجلة فوق السدّ، ومنه إلى كركوك والسليمانية، فتتسلق بها قنن الجلجلة على دروب الشوك، وتتقدم من الامبراطور الأميركي “أبو حسين باراك أوباما”، ليدفعها بالجملة إلى خزانة المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، سداداً لدين قديم مع نظام صدام حسين ويقولون له أمرك سيدي.

وفي مدينة الرقة، كان المظليون في مطار الطبقة، يخرجون عراة في طقس احتفالي، وعددهم يتجاوز الثلاثماية، يهتفون للسياف، ثم يضعون رؤوسهم بين أيديهم، يدحرجونها في أودية العصر الأميركي، ثم يرسلونها تمائم للامبراطور الأميركي “أبو حسين باراك أوباما” يزين بها تمثال الحرية قبالة جسر بروكلن، ثم يصغي لثرثرة “الهدسون” وحفيف السواري والصواري. وهي تعيد أناشيد العبيد في هارلم وتقول له أمرك سيدي.

وفي الغوطتين، وفي حرستا وفي دمر وفي ساحة العباسيين، وفي جوبر، وفي القلمون، وفي القصير، وفي تدمر وفي حمص وحماة والرستن. كما في درعا والسويداء وحلب وحوران واعزاز وكسب واللاذقية وادلب وبانياس وطرطوس، كنت أرى قوافل الأهل، تخرج في طقوس جنائزية، تحمل رؤوسها بين أيديها منذ آذار العام 2011، وتتقدم من الامبراطور الأميركي “أبو حسين باراك أوباما” وتجعلها في حساب المكتب البيضاوي في البيت الأبيض كدفعة على الحساب، لسداد فاتورة ناقلات الكيماوي وإعدامه وتقول له: أمرك سيدي.

في الجولان المحتل، كنت أرى كيف يخرج جنود الأمم المتحدة، بلا نعال ولا سراويل، ويسيرون صعداً باتجاه جبل الشيخ يحملون رؤوسهم بين أيديهم، بعد أن نزعوا عنها القبعات الزرق و”شارات الأندوف” واستبدلوها بشارات “النصرة” و”داعش”، يقايضون بها أربعين عاماً من الانتظار في سلة المهملات للمكتب البيضاوي في البيت الأبيض، علّ الامبراطور الأميركي “أبو حسين باراك أوباما” يرتوي من دماء أهل الشام ويفك رقابهم من أغلال الاتفاقيات السوداء، بعد وصول الرايات السود فيعود فقراء بنغلادش وسيريلنكا إلى عائلاتهم، وقد بصقوا على سيورهم ومحوا عنها لعناتهم.

وفي غزة، كنت أرى كيف عادت الطائرات الإسرائيلية من غاراتها الأخيرة، ظافرة برؤوس ثلاثة آلاف شهيد فلسطيني في ثلاثين يوماً، واتجهت بحمولتها الطرية إلى مطار البيت الأبيض، تودع في حديقته بذوراً معدلة لجينات فلسطينية غزية، حمساوية، حديثة جداً. لا تزال تحتفظ بشرائط صفراء للمقاومة الاسلامية عصبت بها فوهات أعناق الصواريخ الّتي ناطحت بها القبة الحديدية، فما وهنت وأوهى قرنه الوعل الإسرائيلي. فمنذ أن قطع الامبراطور الأميركي “أبو حسين باراك أوباما” رأس هذا الجبل الأشم لبنان ووضعه في أدراج المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، هان عليه قطع الرؤوس. ألم يقل المتنبي قديماً:من يهن يسهل الهوان عليه/ ما لجرحٍ بميتٍ إيلام. ألم يقل أيضاً الشاعر الياس أبو شبكة منذ قريب: أثقل ضميرك بالخطايا فلا يحاسبك من بعد الضمير.



(*) أستاذ في الجامعة اللبنانية

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث