المشهد اللبناني.. دوامة العجز

غازي العريضي (الاتحاد الاماراتية)

المشهد السياسي اللبناني بعد عملية «عرسال» وخطف عدد من الجنود وعناصر قوى الأمن الداخلي من قبل «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش» كان مقلقاً ومفجعاً للغاية ولا تزال انعكاساته السلبية تتوالى على مستوى حياتنا العامة وعلاقاتنا بالدولة كلبنانيين بل وعلى مستوى علاقاتنا اللبنانية – اللبنانية.

ظهر بوضوح أن الدولة غائبة، وإنْ حضرت فهي ضائعة، لا رؤية، ولا موقف، ولا قرار، ولا إدارة، انكشاف تام، تهديد بذبح عسكريين، ثم تنفيذ عملية ذبح أولى بحق الرقيب علي السيد، لا معلومات لدى الدولة وأجهزتها، صور توزع ولا تملك الدولة دليلاً حسياً يثبت شيئاً يمكن الاستناد إليه، عائلات مفجوعة، مروّعة، لا يشعر المرء أنه يتحدث عن أبناء مؤسسة تابعة لدولة، كل يريد حقه، يريد استعادة ابنه بأي طريقة. الجمرة لا تحرق إلا مكانها، قلب الأم والطفل والوالد والزوجة والأخت والعائلة لا يعني له شيئاً التفاوض مع من، ومن قبل من، وكيف، «إننا نريد أولادنا..أنتم مسؤولون». كلمة واحدة قيلت في كل المواقع، المؤيدة للحكومة والمعارضة لها، القريبة من الخاطفين لناحية الانتماء المذهبي أو البعيدين عنها، المنتقدين لأداء السلطة والمدافعين عنه، الكل يريد أبناءه سالمين.

المشهد بشع، والحديث يملأ الشاشات، تسريبات، إشاعات، وليس ثمة مستند يمكن العودة إليه، مجالس وزارية، ومجالس أمنية، وتحركات سياسية ووساطات معلنة وغير معلنة، في الداخل ومع الخارج، مع الخاطفين مباشرة وغير مباشرة والنار تشتعل في الطرقات. إطلاق سراح عدد من المخطوفين من لون مذهبي وإبقاء الآخرين وهم ينتمون جميعاً إلى المؤسسة العسكرية الواحدة، إلى الدولة الواحدة، التعاطي بـ«المفرق» كما يُقال. الخطوة مقصودة، تلبية لضغط شارع من جهة وإبقاء فتيل النار أو الفتنة قائماً من جهة ثانية، لإبقاء الضغط مفتوحاً على الجميع دون استثناء من جهة ثالثة. المطلوب حسب المخطوفين إطلاق سراح موقوفين إسلاميين ومنتمين جدد إلى التنظيمات المعنية بالخطف. لا اتفاق بين اللبنانيين سوى على التفاوض، لكن هل ندخل في مقايضة؟ ثمة خلاف كبير، ليس ثمة قرار. كل هذا الضياع والتردّد لجهة حسم الخيارات ورسم السياسات والمناورات يخدم الخاطفين ومستهدفي البلد وأمنه واستقراره والدولة ومؤسساتها، بل وصلت الخفة إلى حد تسريب أخبار مباشرة إلى الإعلام، تفيد بأن قراراً اتخذ بشأن إطلاق سراح موقوفين في سجن «رومية»، وأن هؤلاء بدؤوا يحضّرون أغراضهم للرحيل، الأمر الذي أثار أهالي موقوفين لبنانيين بتهم مختلفة. بدأ التهديد والوعيد من داخل السجن وخارجه. ماذا تفعلون؟ أين الدولة؟ ألا تخضع إلا تحت الضغط؟ أين القانون؟ من المسؤول؟ ماذا لو خرجت عائلات وعشائر وقوى سياسية قطعت الطرقات هدّدت وتوعّدت، وطالبت باطلاق سراح موقوف ينتمي إليها بتهمة أقل خطورة من تهمة قتل العسكريين أو اختطافهم أو تفجير سيارات باللبنانيين؟ لم يعد ثمة معيار، أصبحنا في حال من الفوضى كنت أقول دائماً إنها أخطر من حال الحرب. للحرب أنظمتها وقوانينها وضوابطها ومسؤولوها وحساباتها وضغوطها واقتصادها. نعم اقتصادها، كان ثمة اقتصاد. أما الفوضى ففي ظلها يمكن استباحة كل شيء. وتعميم كل شيء، وليس ثمة مسؤول أو ضوابط. هنا مكمن الخطر.

كيف يمكن أمام هذا الواقع أن نشحن العسكري بمعنويات أو بثقة ونحن نكلفه القيام بمهمة معينة؟ ما معنى التضحية؟ والوفاء؟ والفداء؟ ولمصلحة من؟ الوطن؟ الدولة؟ أين هما كما يقول كثيرون؟ أين المسؤولون عنهما؟ كيف تدار الأمور؟ من هو المسؤول عن الدم؟ هذه أسئلة مشروعة، ولكن ينبغي أن تكون الإجابات عليها في المؤسسات كما قلنا منذ اليوم الأول. لكن للأسف، بات كل شيء على الهواء. وليس ثمة جواب إلى أين يمكن أن تصل الأمور؟

لبنان في حال من القلق ليس فقط لأن النار التي اشتعلت حوله باتت تهدد بإحراق الأخضر واليابس على أرضه فقط، بل لأن ليس ثمة تعامل جدي ومسؤول بمستوى الخطر في الداخل. ثمة ما يشبه العجز السياسي الكامل الفاضح، مجلس نيابي معطّل. شارفت ولايته على النهاية. لا يجتمع لمناقشة مشاريع قوانين فيها مصلحة لكل اللبنانيين وبعيدة عن نقاط ومواضيع الخلاف السياسي. لا انتخابات نيابية في الأفق، ذاهبون إلى تمديد للمجلس كتكريس لتمديد الأزمة. الحكومة شبه معطّلة. وتواجه استحقاقات وقضايا خطيرة وهزات. الاتفاق الوحيد القائم حتى إشعار آخر هو على بقائها! الرئاسة الأولى، مركز شاغر، ولا أفق لحل يخرج البلاد من الأزمة، الكهرباء في شبه انقطاع دائم، خلاف على القوانين والموظفين والحقوق والمكايدة هي العنوان. والبلد يدفع الثمن، ثلث الدين العام من الكهرباء وكلفتها وكلفة الفوائد وكلفة المحولات الخاصة مع ما تدفعه خزينة الدولة سنوياً يؤمن قيمة محطات حديثة ويعالج الأزمة جذرياً ولم تصل «العبقرية اللبنانية» إلى حل! المياه ثمة سوء إدارة في استثمارها قبل «الشحّ ». هذا العام لا مياه وسوء إدارة أكثر، وأزمة أكبر. وفاتورة أكبر. أزمة اقتصادية مفتوحة، وخلاف على كل شيء، الغلاء، الأقساط المدرسية، البطالة، الصحة، النازحون السوريون، الخطر التكفيري، مقاومة إسرائيل، القلق الأمني، الهجرة، الفساد، التلوّث، أزمة النقل. هموم كثيرة واحدة ولا تجد اهتمامات واحدة لدى اللبنانيين. الدولة تتراجع. فكرة الدولة تتراجع، الناس يذهبون إلى معالجة شؤونهم بأنفسهم. ثقتهم بدولتهم مهزوزة، ولكن من هي الدولة؟ هي هم؟ هي ممثلو الناس وقياداتهم. هم المسؤولون، هم أصحاب القرار. وهم لا يتفقون، ولا تريد غالبيتهم أن تتعلم من دروس وعبر وتجارب الماضي، ولا من يحاسبون، يراهنون على متغيرات خارجية وعلى لقاءات صف ثان أو ثالث بين مسؤولي دول هنا وهناك ويعتبرون أن مشكلتهم حلّت. وكأن لبنان اليوم هو أولوية الأولويات عند أرباب الصف الأول ومساعديهم في دول العالم. هذه أوهام وأورام لبنانية دفعنا ثمنهاً كثيراً ويبدو أننا سنستمر في دفع الأثمان للأسف في هذه المرحلة.

السياسة هي شرف قيادة الرجال كما كان يقول كمال جنبلاط. عندما تصبح ترفاً وعندما تسلّم إلى من يتميّز بخفة أو انفعال أو قصر نظر أو محدودية تفكير أو رموز البلادة الفكرية أو الهواة وما أكثرهم اليوم يصبح الخطر إذاً عادياً ومتوقعاً كما هو الحال اليوم! سؤال بسيط جداً: هل معالجة أزمة الكهرباء ومناقشة قانون الإيجارات في المجلس النيابي مثلاً بحاجة إلى قرار دولي إقليمي ومصالحة لبنانية لبنانية على إحدى الطاولات في مكان ما في العالم؟

عيب! وقى الله لبنان من الآتي.