ندوة عن ارث سامي مكارم في الجامعة الاميركية

أقامت الجامعة الاميركية في بيروت ندوة فكرية متخصصة في قاعة عصام فارس، نظمتها لجنة تكريم خاصة بالتعاون مع دائرة اللغة العربية ولغات الشرق الأدنى في الجامعة، وشارك فيها الباحثون الخمسة: الدكتور أنطوان مسرة، الدكتور ديفيد ويلمسن، الدكتورة سعاد الحكيم، الدكتورة زينات بيطار والشيخ غسان الحلبي، وتناولوا فيها مداخل أكاديمية لأعمال الدكتور سامي مكارم في الذكرى الثانية لغيابه، في حضور ممثل شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي الشيخ سامي ابي المنى، ونخبة واسعة من أهل الفكر والفن والأدب ومحبي الراحل وصحبه وتلامذته.

الغصيني

وقدم المنتدين ممثل مؤسسة “التراث الدرزي ـ لندن” في بيروت الدكتور رؤوف الغصيني، فتحدث باسم لجنة التكريم المنظمة للندوة، قائلا: “إن تكريم الدكتور مكارم في الجامعة الأميركية بالذات ذو دلالة مميزة. ففي هذه الجامعة انجز جزءا هاما من دراسته العليا، وإليها عاد استاذا ورئيسا لدائرة اللغة العربية، ومديرا لمركز دراسات الشرق الأوسط. وهو المعروف بالتواضع العلمي وتقبل النقد والاعتراف بالخطأ واعتماد الموضوعية والتجرد في الدراسة والدقة في البحث. وعزاؤنا انه ترك في هذه الجامعة إرثا علميا مميزا جعله في مصافي الكبار من أساتذتها أمثال قسطنطين زريق، زين زين، نقولا زيادة، كمال الصليبي وعبد المنعم تلحوق وغيرهم”.

أضاف “لقد تنوعت دراسات الدكتور مكارم الى جانب ممارسته الفن التشكيلي الحروفي، وانغماسه في شعر العشق الإلهي، وعمله الدؤوب على بحث التراث التوحيدي، عقيدة وتاريخا. وبديهي ان ندوة كهذه لا يمكن أن تحيط بمجمل ارثه الفكري والفني والروحي، بل لعلها تكون بداية لعمل أكاديمي منتظم ومستمر”.

ويلمسون

وتحدث رئيس الدائرة العربية ولغات الشرق الأدنى في الجامعة الاميركية ويلمسون باسم الجامعة فتناول “سامي مكارم الزميل والاكاديمي والمعلم والباحث”، وقال: “عندما فقدنا قبل سنتين سامي مكارم، لم نفتقد البروفسير الذي استمر بالتعليم بعد سن التقاعد، انما افتقدنا يومها روح الشباب والعطاء الدائم الذي كنا نتلمسها فيه، والتي استمرت حتى المرة الأخيرة التي رأيته فيها قبل اسبوع من وفاته”.

وتحدث عن علاقته بالراحل، فقال: “قبل أن آتي للعمل في بيروت، كنت أتطلع للتعرف إلى الدكتور سامي مكارم، وذلك منذ أن شاهدت برنامجا وثائقيا عن الموحدين الدروز عام 2006 تناول مقابلة معه وحينها كنت أعمل في مصر، وبعد أن حصلت على عقد العمل هنا في الجامعة اعتقدت أن الحظ حالفني بالتعرف إليه، لا سيما أني عملت معه لخمس سنوات”.

أضاف “وكيف لي إلا أن أتذكر مكتبه المفتوح للضيوف على الدوام، حيث كنت أقوم كل يوم بزيارته في مكتبه سائلا ومستطلعا، مثلي مثل عشرات من الطلاب والأساتذة والصحفيين والباحثين في مختلف المجالات، الذين يستشيرونه في مسائل تتعلق بالفن والصوفية والتاريخ الاسلامي والمعتقد التوحيدي الدرزي”.

ختم “الدكتور مكارم كان الابن الحقيقي للجامعة الاميركية. سواء حين كان تلميذا كما نقرأ عنه، أو بعد أن أصبح أستاذا ومسوؤلا في رئاسة الدائرة، ومديرا لمركز دراسات الشرق الاوسط، وزميلا في التدريس”.

مسرة

ووتناول عضو المجلس الدستوري مسرة في مداخلته “الرؤية الإنسانية الجامعة عند سامي مكارم في أعماله وفي يومياته، على مدى معرفته به التي تعود لأكثر من ثلاثين عاما، حيث كانا من المؤسسين للمؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم، وشغل مكارم عضوية هيئتها التنفيذية إلى تاريخ وفاته”، شارحا “الجامع بيني وبين الراحل لم يكن وطنيا وحسب ولا إنسانيا وحسب ولا إيمانيا وحسب. انه روحي بامتياز. وكتاباته في السياسة جاءت في أرقى معاني السياسة، وهي لا تقل أهمية عن كتابات معروفة له في الفقه والدين والتصوف والفن، وهي تحتاج إلى مزيد من التعمق. وأذكر أني كنت قد حرضته على متل تلك الكتابات أحيانا يقينا مني انه المترفع عن كل الصغائر، وهو الأقدر على الغوص في عمق الآصالة اللبنانية والتجربة اللبنانية في إيجابياتها وصعوباتها”.

وعرض “ثلاثة توجهات أساسية فلسفية وتطبيقية في صلب مفهوم اللبنانية، كان قد اشتغل عليها الراحل، هي: الميثاق، العلاقات الإسلامية- المسيحية، دولة المواطنية”، مقتطفا من دراسة للراحل من منشورات المؤسسة الدائمة للسلم الأهلي قوله: “لكي يستطيع لبنان أن يستعيد دوره الريادي في العالم العربي، وجب أن يعاد تأهيل هذا الشعب ثقافيا وروحيا وقوميا وسياسيا وحضاريا، ويعاد تأهيله فوق كل شيء وطنيا على أسس صحيحة قائمة على “دولنة” مفهومه الوطني بعد أن كان مفهومه هذا، منذ عهد الإستقلال، قائم على الطائفية القبلية المركانتيلية الإقطاعية”.

وأسهب في الإضاءة على “الأهمية الفائقة لتقصي سامي مكارم أبعاد مفهوم “الدولنة” ووجوب استثمار ذلك وتضمينه مناهج التربية على المواطنة في لبنان”، كما تناول “مقاربة الراحل للتفاعل بين مكونات العائلة اللبنانية”، ناقلا عنه قوله: “إن عظمة لبنان، أنه بلد تفاعل وبالتالي بلد حضارة، وقد بدأ هذا البلد بالإنحطاط عندما نسي قادته حقيقته هذه. من هنا وجب أن يقوم بين المثقفين مقاومة وطنية ثقافية تقاوم هذا الإنحراف بالمفهوم اللبناني وتحرر العقل اللبناني من هذه الرواسب، التي لا تزال تسمم عقله. فلبنان من البلدان النادرة المؤهلة لهذا التفاعل الحضاري بين المسيحية والإسلام وما يمثلان من حضارة”.

الحكيم

من جهتها، تلت أستاذة التصوف في الجامعة اللبنانية الحكيم دراسة عن سامي مكارم بعنوان “مسافر زاده الحب والعرفان”، كانت قد أعدتها للمناسبة، فأشارت إلى أن “الراحل إختص بخصيصة صوفية هي السفر الداخلي الروحاني الدائم في المعرفة”، معتبرة أنه “صاحب مشروع علمي كبير رصد فيه التشابه بين عبارات ومصطلحات وافكار عائدة لصوفيين وعرفانيين أعلام، وبين مثيلاتها في بعض المعتقدات والتعاليم والمسارات العرفانية التوحيدية، فقدم مذهب الموحدين بمعجمية صوفية ـ عرفانية، دون أن يتماهى مع التصوف. بل ظل التصوف بالنسبة إليه هو الشبيه والقريب. مما سمح له بالحفاظ على الإلتزام بعهد السرية مع البوح على مستوى المضمون والمعنى لتقريب المعتقدات التوحيدية من عقل الآخر ومن فهمه وتأنيسه بها”.

وتناولت “مقاربة سامي مكارم للعرفان من حيث هو علم بالإلهيات أولا، وعمل بها مؤسس على الانعتاق من الدوران حول الأنا، مما يسمح للعرفاني بأن يتحقق بالتوحيد الحق، وينتقل من العلم إلى الرؤية والشهود”.

وقالت: “إن تتبعنا كتاباته نرصد ماذا يشهد هذا المحب الموحد الفاني عن ذاته وعن الكون أجمع، مع بقائه في هذا الكون، تراه العيون ولكنه لا يرى ذاته. والإنسان عندما تنكشف له الحقيقة الإنعكاسية لعالم الطبيعة يعيش في نشوة هذا الكشف ويتأيد بعرفان لا يصح العلم بالله إلا به على حد قول الراحل الكبير”.

أضافت “ان مكارم “فتح بصدق وحب ونبل وإحترام خزائن كبار الصوفية والعرفانين، وقرب المفاهيم التوحيدية الى الآخر المسلم وغير المسلم بلغة متداولة”، مشيرة إلى أن الراحل “كان في كل مشاركة يجتذب القلوب بحضوره الهادئ وصوته الدافئ وجهده المتواصل للتقريب الإنساني والوطني بين الفرق والمذاهب، ومتابعته لسلف صالح من أعلام الموحدين”.

الحلبي

وعالج مستشار مشيخة العقل وصديق الراحل ورفيقه في غير محطة من تاريخه الشيخ الحلبي، ضمن دراسة أعدها مسبقا وسوف تنشر لاحقا الأعمال الأكاديمية الأساسية الأولى في مسيرة سامي مكارم العلمية منذ البدايات.

وسأل بداية عن “ماهية الحنين الذي أوجب على سامي مكارم الطالب قطع دراسته العليا عام 1958 في الولايات المتحدة ـ كما يذكر في سيرته الذاتية ـ والعودة إلى لبنان حين كان في أواخر العشرينيات من عمره، تلك الفترة الصاخبة فكريا ليتمكن بعدها من إيجاد قاعدة الإتزان وان يستقر في سكينة البحث المعمق في درب صعب- ربما الأصعب- في الدراسات الإسلامية الميتاكلاسيكية، وكيف استطاع التوفيق بين العقلانية الموضوعية والروح العرفانية الشرقية، الأولى رسختها فيه الدراسة في جامعة ميشيغن بعد تمهيد في الAUB، والثانية كانت فطرته الإنسانية التي رعتها تربية توحيدية أشبه ما تكون بأجمل لوحة وكتابة أنجزها والده الكبير الشيخ نسيب مكارم خصوصا، والبيئة النيرة التي حظي بها في التعليم والسلوك والإحاطة، ما يجعل المستمع يستشف ان الحنين كان إلى تلك الروح العرفانية التي ما برحت تترقى في تجربة الراحل على مدى سنوات عطائه”.

وتطرق إلى “دلالات التخصص الصعب الذي إنحاز إليه مكارم وهو الدراسات الإسلامية بشقها الحضاري العام، خصوصا الاسماعيلي، تلك الدراسات التي رسخها بمضمونها العلمي آنذاك، اثنان من الكبار: فلاديمير ايفانوف وتأسيسه لجمعية الدراسات في بومباي منتصف القرن العشرين من جهة، وهنري كوربان المستشرق الذي اشتغل على الإسلام الإيراني، والمدرسة الأفلاطونية العرفانية في أصفهان، بالتركيز على فلسفة الإشراق من جهة أخرى. عند هذا التقاطع اختار سامي مكارم أرجوزة إسماعيلية منسوبة إلى أحد الدعاة من الاسماعيلية النزارية، واعتمدها موضوعا لأطروحته عاملا على تحقيقها وتوضيح ماهية المعتقد الإسماعيلي، مستندا على معلومات قيمة ومعونة كبيرة قدمها له كل من الباحث الإسماعيلي عارف تامر والبرفسور ايفانوف نفسه. وترك مكارم تعليقات هامة على هامش النص تناولت المصطلحات الأساسية والمفاهيم العقائدية بشكل يقدم لنا في الحقيقة متن الكتاب في تلك الهوامش. وبالمنهجية ذاتها حقق “الرسالة في الإمامة” ليستشف عبر المتن المقاربة العميقة لقراءة الصوفية لاحقا، وبالطبع الجذور التكوينية لمسلك التوحيد”.

بيطار

وتناولت أستاذة تاريخ الفنون في الجامعة اللبنانية والباحثة التي عملت في مجال توثيق الأعمال الفنية في متاحف عالمية كبرى بيطار “الحروفي سامي مكارم الذي نقش والده الخطاط الشيخ نسيب مكارم في صفاء روحه اليافعة رهافة الحس وتذوق الجمال”، سائلة عن “سبب عدم إقدام سامي مكارم خلال حياة والده على محاولة جادة في هذا المنحى الفني”، معتبرة ان “ذلك ربما يعود لإبداع والده الفائق وشخصيته الطاغية في فن الحروفية”، لافتة “لكنه سرعان ما تلمس مساره الخاص به، فلعب على ثنائية الحرف وتجسيده، من ناحية، وإعطاءالجسد بعدا فلسفيا كونيا، بوصفه كالحرف من المعنى في التعبير الإلهي للكون”.

وختمت ان “هذه اللغة التشكيلية بما فيها من إيهام بصري للحروف، ومعنى باطني للجسد، هي بنية تكافلية في أعمال سامي مكارم وهي ذات مسندين، أدبي وفني، وروحي ومادي. كل ذلك جعل الذات الفنية عنده منعتقة من جمود التقليدية، جامحة نحو روح العصر ونحو الحداثة التشكيلية”.