التداعيات العسكرية لهزيمة النظام السوري في الرقة

  يشن المسلّحون الجهاديون من تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» [«داعش» – أو «الدولة الإسلامية» كما يسمي نفسه حالياً] منذ شهرين حملةً تُحقق نجاحات متزايدة ضد قوات النظام السوري في محافظة الرقة الشمالية، بلغت ذروتها مع سيطرة المسلحين على “مطار الطبقة” في وقت سابق من هذا الأسبوع. وهناك تداعيات عسكرية كبيرة للهزيمة في الرقة – فهي تمثل خسارة على كافة مستويات الحرب الاستراتيجية والعملياتية والتكتيكية، الأمر الذي يثير تساؤلات حول قدرة النظام أو الثوار السوريين على الدفاع عن مناطق أخرى وأكثر أهمية في البلاد بوجه هجمات «داعش».

سقوط الرقة

تستمد «داعش» قوتها من ضعف خصومها؛ وكانت مكانة النظام في الرقة ضعيفة حتى قبل بدء القتال الجدي مع «الدولة الإسلامية». فالمراكز الرئيسية الثلاثة التابعة للنظام في المحافظة وهي: مقر الفرقة 17 خارج مدينة الرقة، وحماية اللواء 93 في عين عيسى، والمطار العسكري قرب “الطبقة” – كانت بعيدة عن بعضها البعض، ومعزولة بشكل كبير (تتطلب التموين عن طريق الجو)، وتتعرض لهجمات متفرقة من قبل الثوار منذ بعض الوقت. وبعد فترة طويلة من التعايش الصعب في المنطقة، بدأت «الدولة الإسلامية» تشن هجمات خطيرة على مقر الفرقة في تموز/يوليو. وحال سقوطه في 25 تموز/يوليو، مضى التنظيم قدماً في عملياته ليستولي على مقر اللواء 93 في 7 آب/أغسطس، قبل أن ينتقل إلى الهجوم على “مطار الطبقة” في 19 آب/أغسطس. وبعد قيام «داعش» بشن أربع هجمات وفي خضم قصفها المتواصل وارتكابها عدة عمليات انتحارية بسيارات مفخخة، وإجلاء بعض القوات المدافعة من قبل النظام عن طريق الجو، سقط “مطار الطبقة” أخيراً بيد «داعش» في 24 آب/أغسطس.

بيد لم يبذل النظام جهوداً تذكر لإنقاذ مراكزه، باستثناء توفير خدمة إعادة التموين الجوي ودعم الضربات الجوية، في الوقت الذي لم تقم فيه القوات المحلية سوى بمحاولات قليلة لمساعدة إحداها الأخرى، ولكن بدون تأثير كبير. وفي النتيجة تم فعلياً – على مدى ثلاثة أشهر – تدمير الموقع العسكري للنظام في تلك المحافظة والقضاء على القوات التي تسيطر عليه. ويشكل ذلك أكبر هزيمة تُمنى بها قوات النظام منذ بدء الثورة.

التداعيات الاستراتيجية

أثبتت الهزيمة في الرقة مرة أخرى أن «داعش» قادرة على تنفيذ عمليات عسكرية واسعة النطاق وفقاً لاستراتيجية متقنة ومدروسة لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية كبيرة. وفي الواقع أن السيطرة الكاملة على الرقة تساعد التنظيم على ضبط مركز “خلافته” وتعزز موقعه داخل سوريا وتؤمن له أيضاً قاعدةً يطلق منها العمليات اللاحقة في الغرب والشرق والجنوب، ناهيك عن منحها مقاتلي «الدولة الإسلامية» الاندفاع والموارد اللازمة لشن عمليات إضافية.

من جهته، خسر النظام محافظة بينما تنذر الظروف بسقوط أخرى – هي دير الزور حيث تعاني قوات الأسد من انعزال شديد حول المطار بالقرب من عاصمة المحافظة. وقد تكون خطوط التواصل بين النظام وحلب هي أيضاً معرضة للخطر. وبالإضافة إلى ذلك، تطرح الهزيمة تساؤلات استراتيجية أوسع نطاقاً، ألا وهي: إذا كانت هزيمة النظام في الرقة ممكنة، فلم لا تكون كذلك في مناطق أخرى؟ وما هي القوات والموارد التي يمكنه حشدها لتفادي المزيد من الخسائر الإقليمية؟ وكيف سيتأقلم النظام مع خصمٍ موحد وعازم، يملك موارد كافية ولديه قدرات [قتالية]؟

تترتب عن سقوط الرقة تداعيات جمة على خصوم «الدولة الإسلامية» الآخرين أيضاً، لا سيما في سوريا. فهذا الانتصار سيسمح لقوات التنظيم بالانخراط في المعارك الدائرة على جبهات أخرى، مما يوفر الحافز لعمليات «داعش» في شمال حلب والحسكة وربما أيضاً تجاه محافظة حمص ومنطقة دمشق. ومن الممكن كذلك أن ينقل التنظيم المزيد من القوات إلى العراق لتعزيز مواقعه هناك.

التداعيات العملياتية

أظهرت «الدولة الإسلامية» تفنناً في العمليات في الرقة. فقد خاضت سلسة من المعارك لتحقيق هدف استراتيجي، وهو السيطرة على المحافظة. فقد هزمت قوات النظام في عمليات متعاقبة كما هزمتها في تكتيكات الهجوم بأعداد كبيرة على وحدات صغيرة.

ولم يبدِ النظام أي استجابة على مستوى العمليات. فقد ترك الفرقة 17 واللواء 93 يعوّلان على معداتهما الخاصة ولم يزود “مطار الطبقة” سوى بدعم وتعزيز محدود. ووفقاً لحساباته قد يكون النظام اعتبر أن الرقة وثكناتها العسكرية لا تستحق بذل جهداً كبيراً لإنقاذها وخصوصاً مع تشتت موارد النظام العسكرية على جبهات عديدة. وفي حين تم سحب بعض العناصر وربما المعدات من “مطار الطبقة” جوّاً (مما ضمن الانهيار السريع لدفاعاته)، إلا أن النهاية كانت فوضوية ووحشية في كلٍّ معركة من المعارك الرئيسية الثلاث، ومَن بقي لاذ بالفرار من مقر الفرقة وثكنة اللواء والمطار. وفي الواقع، ستواصل «داعش» طرح التحديات العملياتية على النظام، ويبقى أن نرى ما إذا كانت قوات الأسد قادرة على الاستجابة بفعالية في المناطق الأكثر أهمية مثل مدينة حلب، وخط التواصل عبر محافظة حماة، وحتى دمشق نفسها.

التداعيات التكتيكية

أثبتت المقاربة التكتيكية التي انتهجها النظام للدفاع عن ثكناته في الرقة بأنها كانت خاطئة. فالوحدات الموجودة في المنطقة اعتمدت على القوة النارية الجوية/البرية و- في حالة “الطبقة” – على حقول الألغام. وبدا أن عدد عناصر النظام المتواجدين على الأرض كان منخفضاً نسبياً حيث بلغ بضع مئات في كل معركة.

وهذه المقاربة التي استخدمت بشكل مكثف طوال فترة الحرب كانت تؤتي ثمارها حيثما كانت المعارضة ضعيفة وافتقرت إلى التنظيم والعزم والسلاح الكافي. ولكن هذه الشروط لا تنطبق على الرقة، فهناك حشدت «الدولة الإسلامية» القوات والقوة النارية وعملت بطريقة منسقة، وكانت مستعدة لدفع الثمن في عدد الضحايا لتحقيق هدفها. وكما ذكر أعلاه، قام التنظيم باستهداف المطار بأربع هجمات قبل أن يفلح في النهاية، وقيل إنه مُني بخسائر كبيرة نتيجة الألغام والغارات الجوية التي شنها النظام. وتتراوح تقديرات الضحايا في كلا الجانبين بين المائة والخمس مائة شخص.

كما أن الانتصارات في المناطق الشمالية حققت كسباً غير متوقع لتنظيم «داعش» حيث استولى على أسلحة وذخائر وربما أيضاً انضمام المجندين. فقد تأجج زخم التنظيم بفضل العتاد الحربي الذي استحوذ عليه في الرقة ومعاركه الأخرى مع النظام، بما في ذلك دبابات ومدافع وقاذفات صواريخ وأسلحة مضادة للطائرات وأسلحة خفيفة.

التوقعات

في الوقت الذي ينبغي على المرء أن يحرص على ألا يعظّم انتصار «الدولة الإسلامية» في الرقة – حيث كانت قوات النظام ضعيفة وتلقت دعماً ضئيلاً من دمشق – إلا أن الحقيقة ما زالت قائمة بأن التنظيم قد نجح في عملياته بينما فشل الثوار طوال فترة الحرب. فكيف سيتكيّف النظام مع ذلك؟ وكيف سيكون ردّ فعل أنصاره وحلفائه؟ لقد وردت بالفعل تقارير تفيد عن استياء العلويين بسبب الضحايا الذين سقطوا في الرقة، وتأتي هذه في وقت يشهد زيادة واضحة في وقع الحرب على المجتمعات العلوية. وإذا رأت الأقليات المتحالفة مع النظام أن قواته عاجزة عن الدفاع عن نفسها بوجه «داعش»، فما هي الاستنتاجات التي ستستخلصها حول الطرف الذي تكمن عنده سلامتها؟

وبالفعل، فإن هزيمة النظام في الرقة والضعف المتواصل الذي تبديه قوى الثوار الأخرى تطرح تساؤلات حول الطرف الذي سيوقف «داعش» عند حده في سوريا. وقد ينجح النظام بصورة أكثر في الدفاع عن المناطق التي يعتبرها أكثر أهمية ولكن لا توجد ضمانات لتحقيق ذلك. وهناك نمط راسخ يتبعه النظام يتمثل بالسماح بسقوط المواقع المعزولة، وهو لا يملك القوى الاحتياطية أو المحمولة الكافية لتصويب الإخفاقات أو استعادة الأراضي التي خسرها. كما أنه يحارب أيضاً مختلف وحدات الثوار على جبهات أخرى. ونتيجة لذلك، ثمة احتمال كبير أن يخسر محافظة دير الزور ومن ثم يضطر إلى مواجهة «الدولة الإسلامية» في مناطق أقرب بكثير إلى مناطقه الحيوية. وبالفعل ينخرط «حزب الله» وحلفاء النظام العراقيين الشيعة في جبهات حاسمة مع إمكانية نجاح محدودة، لذلك ليس واضحاً مدى الفارق الذي قد يحدثه هؤلاء ضد «داعش» بينما لا يزالون منخرطين بشكل مكثف ضد الجماعات الأخرى.

ومن جانبهم، يملك الثوار قدرات محدودة لمحاربة «الدولة الإسلامية» مع أن أداءهم كان أفضل من أداء النظام في الرقة. وتمكنوا في بعض الأحيان من إخراج «داعش» من المناطق التي احتلتها أو حاولت احتلالها، بما فيها إدلب وبعض مناطق حلب وريف دمشق. إلا أنهم يفتقرون إلى الوحدة ومعرضون للدمار، الأمر الذي أعاق قدرتهم على مقاومة «الدولة الإسلامية»، التي أصبحت اليوم مدججة بالمزيد من الأسلحة والذخائر والمجندين من نجاحاتها في سوريا والعراق.

التدخل الأمريكي

يمكن للتدخل الجوي الأجنبي أن يساعد في إبطاء تحركات «داعش» والحد من قدراتها القتالية. وفي حين أن القوة الجوية السورية جيدة في أكثر الأحيان في ضرب أهداف في مناطق [مختلفة] وقتل المدنيين، إلا أن باستطاعة القوات الجوية الأخرى تنفيذ ضربات فعالة على القوات العسكرية وهياكل القيادة والخدمات اللوجستية التي تدعمها. وهذا ما تفعله الولايات المتحدة بالفعل في العراق حيث هناك تأثير جيد لضرباتها [على مواقع «الدولة الإسلامية»].

إن الطريقة الأكثر فعالية لوضع «داعش» عند حدها ثم دحر تقدمها تتمثل ببذل جهود مشتركة بين القوة النارية من الولايات المتحدة/الحلفاء وقوات الثوار السوريين المسلحين والمدعومين، على أن يعملوا جميعاً بموجب استراتيجية متماسكة وطويلة الأمد، وينفذوا عمليات منسقة لهزم قوات هذا التنظيم وتحرير المناطق الخاضعة لسيطرته. وإذا ما تعذر ذلك، قد يكون من المفيد اتخاذ تدابير أكثر تقييداً- مثل تسليح المتمردين واستخدام القوة الجوية للحد من [تقدم] قوات «الدولة الإسلامية» وخفض عددها وقدراتها – لمنع «داعش» من تحقيق مكاسب أكثر جوهرية في سوريا وربما دحر التقدم الأخير الذي أحرزه التنظيم في شمال حلب.

 ———————————–

(*) جيفري وايت / معهد واشنطن