برج إسرائيل.. والنفق

غازي العريضي (الاتحاد الاماراتية)

عندما شنت إسرائيل الحرب على قطاع غزة، قال القادة العسكريون والأمنيون والمسؤولون السياسيون الإسرائيليون إن العملية ستستغرق أياماً معـدودة لتحقيق أهدافها. ها هي الحرب ، تتحول إلى حرب استنزاف. تستمر واحداً وخمسين يوماً ولا تحقق أهدافها التي لم تـُعلن بوضوح من الأساس، بل على مراحل حسب وتيرة المعارك !

في بداية الحرب كانت استطلاعات الرأي تشير إلى أن نسبة الراضين عن أداء نتنياهو وصلت إلى 82 % اليوم تشير الاستطلاعات ذاتها إلى أن النسبة تدنت إلى مستوى 38%! فأين هو النجاح الذي حققه رئيس العصابة الإرهابية في حكومة إسرائيل؟

قبل الحرب كان التهديد والوعيد ينهالان على “أبومازن” ويحمّله الإسرائيليون مسؤولية تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية التي ستمتد سلطتها إلى غزة. ويعتبرونه انحاز إلى السلام مع “حماس الإرهابية”، ولا يـريد السـلام مـع إسرائيل. انتهت الحرب، “حماس” موجودة، حركة مقاومة الكل يتعاطى معها واقعياً بشكل مباشر أو غير مباشر. وثمة دور أساس لـ”أبومازن” في الحركة السياسية والدبلوماسية، والأهم انتهت الحرب باتفاق يؤكد دور الحكومة في الإشراف على كل شيء في غزة وبالتأكيد في الضفة! أليست تلك صفعة لكل المسؤولين الإسرائيليين وعلى رأسهم الإرهابي نتنياهو؟ وتجدر الإشارة إلى أن التفاهم الذي تم التوصل إليه بعد 51 يوماً من العدوان على غزة أفضل بكثير مما عرض على الفلسطينيين في بداياته . عندما قيل لهم هذه هي المبادرة المصرية إما أن تقبلوا بها كما هي أو تحملوا المسؤولية، ولا مبادرة غيرها، التفاهم الأخير حمل تعديلات قبل بها الفلسطينيون وشكروا مصر!

في هذا المعنى، وإضافة إلى صمود الشعب الفلسطيني، خرجت الحكومة منقسمة، مفككة، الخلافات تعصف في داخلها والاتهامات المتبادلة بين أركانها علنية. وزير الخارجية “ليبرمان” ووزير الاقتصاد “بينيت” يرفضان الاتفاق. يريدان القضاء على “حماس”، كيف؟ لاجواب، ثمة إفلاس، وزير الاستخبارات “يوفال شتاينتس”، يُصرّ على نزع السلاح! ووزير الأمن الداخلي “اسحق أهاروفوفتش” يقول : “العملية لم تنته بعد”، ودعا إلى طحن حماس! فهي ” لا تزال تملك قدرات لقصف بلدات الجنوب”!

عدد من رؤساء هذه البلدات رفض قرار وزير التعليم فتح السنة الدراسية بعد غد الاثنين، وقالت رئيسة لجنة أولياء أمــــور الطلاب فـــــي مدينة “أشكلون” للإذاعة العامة : “نرفض إرسال أولادنا إلى المدارس والصواريخ تطلق فوق رؤوسهم، لن نبعث أبناءنا إلى الذبح”، وهذا يؤكد قدرة المقاومة على الاستمرار في إطلاق الصواريخ بعيدة المدى حتى اللحظة الأخيرة التي سبقت الوصول إلى اتفاق الهدنة، وأثر ذلك على نفسية المواطنين الإسرائيليين الذين أيقنوا أنه بعد 51 يوماً لم تتمكن قدرات الجيش الإسرائيلي والأسلحة المتطورة، التي استخدمت من مخازن الجيش الأميركي ، وهي أسلحة نوعية من تحقيق هدف أساسي، وهو تعطيل قدرات المقاومة الصاروخية. بالعكس تبين أن إدارة عمليات إطلاق الصواريخ كانت دقيقة. مدروسة ومضمونة النتائج فيما الحديث يدور داخل إسرائيل عن فشل استخباراتي وعجز عسكري في المواجهة! إنه الإفلاس الحقيقي!

في إسرائيل دعوة إلى تشكيل لجنة تحقيق للوقوف على أسباب هذه النتائج وتحديد المسؤوليات. على الطرف الفلسطيني دراسة وتقييم للتجربة الناجحة وتتبع لتقييمها في الخارج، وهي كانت محط أنظار واهتمام كل مراكز الدراسات والأبحاث العسكرية والأمنية في أكثر من دولة كبرى في العالم والمنطقة. وهذا ما عزّز ثقة الفلسطينيين بمقاومتهم وقدراتهم رغم الخسائر البشرية والمادية التي لحقت بأبناء غزة .

ظهر بوضوح خلال الحرب وفي نهايتها، أن ثمة أزمة ثقة بين المواطنين الإسرائيليين وقياداتهم السياسية والأمنية، ورغم الدمار الهائل والرعب الذي حاولت زرعه إسرائيل في نفوس الفلسطينيين والخسائر الكبيرة في غزة ، فقد خرج أبناء الشعب الفلسطيني أكثر تماسكاً وقوةً وعزماً. الفرح عمّ مختلف المناطق. بمجرد الإعلان عن الهدنة خرج الفلسطينيون على أنوار الشموع والسيارات وما تبقى من مولدات يعبّرون عن فرحهم ! إنه شعب عظيم.

خرجت القيادة السياسية الإسرائيلية مهشّمة مهزوزة مأزومة، رأينا المشهد الفلسطيني، السلطة الفلسطينية،”حماس”، “الجهاد الإسلامي”، الجبهة الشعبية ، كل الفصائل الفلسطينية ، كلمة واحدة، موقف واحد، تماسك قوي، حرص على النجاح جماعياً، أداء جيد في مفاوضات القاهرة رغم الحساسيات والتباينات والاتهامات حتى، المتبادلة بين مسؤولين مصريين و”حماس”! لقد قدّم الفلسطينيون نموذجاً في هذه المعركة السياسية الدبلوماسية يجب البناء عليه لاستثمار النتائج التي تحققت وعدم إفساح المجال أمام إسرائيل لتحويل مأزقها إلى مكسب وتفريغ الإنجاز الفلسطيني من مضمونه!

في هذا السياق وقعت إسرائيل كما قال وزير استخباراتها بين هجومين بالصواريخ عليها. هجوم “حماس” بالصواريخ بعيدة المدى وهجوم “أبومازن” بالصواريخ “الدبلوماسية”، التي كان يطلقها من خلال إصراره على الذهاب إلى المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة رموز الإرهاب الإسرائيلي الذين تسببوا بهذا الحجم من الدمار والخراب والخسائر البشرية واستباحوا كل الشرائع والقوانين والمعايير الدولية وحقوق الإنسان بارتكابهم المجازر الجماعية بحق الشعب الفلسطيني وتدمير مؤسسات الأمم المتحدة فوق رؤوسهم!

خلّفت الحرب تشققات كبيرة في البنيان الأميركي – الإسرائيلي. ستبقى أميركا تحمي إسرائيل. لا وهم في ذلك، ستقدم لها كل شيء، لا رهان على عكس ذلك، لكن الحقيقة هي أن الحرب كانت مُتعبة، تعب الأميركيون مع الإسرائيليين. سخروا منهم بعد أن سخّروا لهم كل شيء. أوباما كان أول الداعين إلى وقف العملية العسكرية، ولم يفلح في إقناع نتنياهو. وأوباما كان أول المرحبين بالهدنة الأخيرة بعد أن اضطر نتنياهو إلى القبول بها.

الأهداف الأخيرة للإسرائيليين كانت الأبراج الفلسطينية، الحقد على النمو، على الارتفاع عالياً بالحجر والبشر، لقد دمّروا الكثير من الأبراج. وقتلوا الكثير من الناس، لكن البرج الحقيقي الذي أصيب هو البرج الإسرائيلي العسكري والأمني والمعنوي. هذه هي الحقيقة. اهتز هذا البرج، لم يعد آمناً. ولم تدمر أنفاق المقاومة، بل دخلت إسرائيل في نفق.

بعد وقت قصير من اعتداءات 11 سبتمبر على البرجين في أميركا قلت : “لم يعد ثمة برج عال في العالم. لاسياسياً ولا أمنياً ولا مالياً. التكنولوجيا لم تعد حكراً على أحد”، لم يتعلم الأميركيون، واليوم لم يعد البرج الإسرائيلي عالياً، اهتز كل شيء، لن يتعلم الإسرائيليون.

البرج الفلسطيني مداميكه أجساد الناس، مواده اللاصقة دم الناس، وهي لا يفكها شيء، ولا يفصل بين الناس وأرضهم وترابهم شيء، هذه هي الحقيقة. تحية إلى فلسطين وشعبها، والأمانة والمسؤولية عندهم وحدة الموقف، وتثمير ما جرى لأن الحرب الأخيرة جولة من جولات الإرهاب الإسرائيلي ضدهم.