سميح القاسم: من هنا تعبر النسور

محمود الاحمدية

الشعر إن لامس الأرواح ألْهبَها                     كما تَقَابَلَ تيارٌ بتيارِ

الشعر مصباحُ أقوامٍ إذا التمسوا                   نورَ الحياة وزندُ الأمة الواري

عام 1986 أطلقها سميح القاسم صرخة مدوية: نعم للجوع… لا للركوع! وحمل على كتفيه فلسطين إلى كل أرجاء الدنيا… كُتُبُهُ الثمانون اختصارٌ لمسيرة وطنية نضالية عروبية  إنسانية… أرعب العدو وهو في سجنه… أذهله الركوع العربي حتى الانبطاح فقالها بشموخ وكِبَر:

بلاد العرب أوطاني                         من القاصي إلى الداني

ومن سجنٍ إلى فقرٍ                      ومن سجنٍ إلى ثاني

وفي مساحات أخرى قالها بصوت كقصف الرعد:

تقدّموا تقدّموا                             كلّ سماءٍ فوقكم جهنّمُ

وكلُّ أرضٍ تحتكم جهنّم               يموت منّا الطفل والشيخ ولا نَسْتَسْلمُ

وتسقط الأم على أبنائها               القتلى ولا تَسْتَسْلِمُ

رحل مبدعٌ كبير من الأصوات العربية الهادرة التي أثّرت في بلورة الوعي الفلسطيني عموماً ووعي الأجيال التي وُلِدت بعد نكبة 1948. كان محاضرا مفوّهاً، خطيباً ألمعيّاً، وشاعراً كبيرا، جلساته وحواراته كانت ممتعة وجذابة ومليئة بدرر الأدب والثقافة العميقة التي استقاها من خبرة أسفاره في كل أنحاء الدنيا مما أكسبه غِنىً في طرح المواضيع بعمق وتجربة رائدة. لقاءاتُهُ مع الشخصيات السياسية والأدبية والفنية ارتقت بفكره الخلاّق، ولديه معينٌ لا ينضب عن مئات الحكايا التي تَحْمِلُ العبرة عدا عن الحكمة والثقافة…

كان سميح القاسم عروبياً حتى العظم وكان يفضّل حمل لقب الشاعر العربي على الشاعر الفلسطيني وكان يعتزّ بتاريخ الحضارة العربية وفي الوقت  نفسه يحمل جراح أمته العربية ووطنه السليب ويتألم للواقع المهترىء…

تجربته مع الصحافة تتوّجت عام 1998 عندما كان رئيس تحرير صحيفة (كل العرب) في الناصرة وبقي حتى عام 2002 عندما ترك الصحيفة على أثر حادث اصطدام وبقي يكتب فيها مقالة اسبوعية بعنوان: نقطة سطر جديد…

كان مؤمناً إلى آخر حدّ بالحرية الشخصية لأي إنسان وكان يدافع عن هذه الحرية بشراسة، وكان لا يخفي مشاعره تجاه أي إنسان… وعندما أتى الربيع في تونس كان بين الأصوات العربية الأولى التي أيدت بقوة هذه الثورة المباركة وحقق نذره أي عندما يرحل بن على سيمشي حافيا في شارع الحبيب بورقيبة… ومن كثر حماسه لهذه الثورة التي حلم بأن تكون الدافع الأول لثورات أخرى، قام برحلة خاصة إلى تونس وعاش في أدق التفاصيل للخلاف الذي نشب بين أخت محمد بوعزيزي مفجر الثورة والشرطية التي صفعته وبرأتها المحكمة… ولكنه قصد العائلتين وقام بعملية رائعة عندما صالح العائلتين إيماناً منه بأنه يضيء شمعة في ثورة ربيع تونس…

وكان محرجاً عندما قامت الثورة في سوريا فأعلن أنه مع المعارضة ولكن إحراجه كان يظهر عندما كان يُسْأل عن آل الأسد وهو معروف بصداقته لحافظ الأسد…

منذ أربع سنوات وعندما أُصيب بالسرطان تنبّأ طبيبه بأنه سيعيش خمسة أو ستة شهور وامتدّت أربع سنوات لسبب بسيط أصبح العلم يؤمن به: أنه كان يتصرّف بحبّ شديد للحياة ويقوم بجولاته في كل أنحاء فلسطين زارعاً قصائده وخطاباته وندواته وهو يعيش التجربة بكلّ جوارحه وفلسطين في قلبه وعقله وروحه… وفي إحدى الأمسيات وكان خارجاً من معالجة كيميائية قالها في إحدى ندواته بسخرية نادرة تثير الإعجاب: من الممكن أن تطلقوا عليّ إسم (سميح الكيماوي) وضجت القاعة بالضحك والتفاؤل والفرح لأنه كان يقولها بشموخ كبير وبعزة وعنفوان وفرح …

عظمة سميح القاسم أن إنتاجه جاوز الثمانين كتاباً ونالت فلسطين الجزء الأكبر منها ولكنّه كيساري شيوعي يتحلّى بروح الثورة والنضال والإيمان بقضايا الشعوب لم يترك زعيماً ثورياً في كل أنحاء الدنيا إلا وكتب شعراً عنه، لم يترك قضية إلا وكتب عنها، كان من المسكونين بحب جمال عبد الناصر ونلسون مانديلا وفيديل كاسترو وتشي غيفارا… فكان ينقلك من زواريب هافانا إلى شوارع القاهرة العتيقة إلى مدن جنوب افريقيا وتراه يترع الكأس بشغف نادر عندما يتكلّم بعشق ووله وإبداع عن هذه الثورات… وكانت تجربة فيتنام تشكل لديه عنصراً مشوّقاً ومثلاً واقعياً للدفاع عن الثورات وأحقّيتها وإمكانية الانتصار على الولايات المتحدة الاميركية حيث جَنْدَلَها الفيتكونغ في حقول الرز حسب تعبيره …

سميح القاسم كتب يوماً قصيدة: (من هنا تعبر النسور) كنت وستبقى النسر المحلّق في الأعالي الذي لا يعرف غير القمم، سميح القاسم رَحَلْتَ ولكن أجيالاً بكاملها ستحملك في قلبها وعقلها وضميرها… رحلت كنسر يخترق الأفق البعيد ليرحل بعيداً لعلّه يجدُ في عوالم أخرى حقائق ووقائع كان يحلم بها في عالمه الأرضي ولم يجدها .

سميح القاسم كنت وستبقى من أنبل وأنقى وأروع الشعراء.

اقرأ أيضاً بقلم محمود الاحمدية

لبنان لن يموت

أكون حيث يكون الحق ولا أبالي

لماذا هذا السقوط العربي المريع؟!

جشع بلا حدود وضمائر ميتة في بلد ينهار!

جاهلية سياسية… بل أكثر!

معرض فندق صوفر الكبير والتاريخ والذاكرة

قال لي: عندما تهاجم الفساد ابتسم بألم!!

إذا أجمع الناس على مديحك سوف أطردك!!

التاريخ لا يرحم… يجب إعادة كتابته

ما هو دوري كوزير جديد؟

مشروع كمّ الأفواه تدمير للبنان الرسالة

الجامعتان اليسوعية والأميركية تنسحبان: التعليم العالي في خطر

السويداء في عين العاصفة

تقريران رسميان متناقضان عن تلوث بحر لبنان

في ذكراها الـ 74 اسمهان: قصصٌ خالدة

طبيعة بلا حدود ربع قرن من النضال البيئي

فريد الأطرش وشوبرت والفن العالمي الخالد

يوم البيئة العالمي: التغلب على تلويث البلاستيك

قطعة الماس في جبل من الزجاج

مسيرة منتدى أصدقاء فريد الأطرش تشع في دار الأوبرا في القاهرة