بئس زمن تتلاشى فيه الدولة و.. يقلّ فيه الرجال

صلاح تقي الدين

في المقولات العربية الشائعة أن “لكل زمن دولة ورجال”، وفي كل مرّة كانت العقبات السياسية الداخلية تشتّد، كان الراي العام ينحو باتجاه استعادة هذه المقولة لوصف مواقف القادة السياسيين من حيث “هذا رجل دولة” وذاك “تاجر” لا يؤتمن أو آخر “مش خرج”.

وفي خضمّ الأزمة الرئاسية التي لا يبدو لها حلّ في الأفق القريب، يحاول اللبنانيون استعادة هذه المقولة لوصف مواقف قادتهم السياسيين من هذه الأزمة التي تعنيهم بكل طوائفهم ومذاهبهم، لكن للأسف كلما لاح بريق أمل تجسّده خطوة “زعيم” من هنا، أو مبادرة “رجل دولة” من هناك، تصدح الأصوات المعترضة و”المحتكرة” للرئاسة، حتى يصحّ مع اللبنانيين المقولة الشائعة الأخرى “بطّل في رجال”.

لم ييأس وليد جنبلاط وهو ينادي بضرورة إنجاز الاستحقاق الرئاسي الذي هو موقع للبنانيين جميعهم وليس حكراً على المسيحيين وحدهم، لكن بالمقابل، تعود الأصوات المعترضة نفسها لتتهمه بأنه يريد تهميش المسيحيين وصناعة الرئيس وفقاً لتفاهم  المسلمين أو أن يكون غير ممثل لبيئته وألعوبة بيد من سيأتون به، أكان جنبلاط أو الحريري أو بري أو نصرالله، مع حفظ الألقاب للجميع.

بهذا المعنى، كانت التعليقات الأخيرة التي خرج بها البعض على مقولة أن الرئيس “ليس للمسيحيين فقط” تطبيقاً لسياسة “قصيرة النظر عن قصد”، بمعنى أن من ردّ على جنبلاط كان يعرف أن الزعيم الدرزي لم يقصد الانتقاص من موقع الرئاسة ولا من موقع المسيحيين، بل العكس تماماً، فهو عندما يقول أن رئيس الجمهورية هو لكل اللبنانيين، فهذا يعني أن دوره أهمّ وأكبر وأشمل من أدوار الآخرين، وفي ذلك لا يجانب الصواب لا بالمعنى الدستوري ولا بالمعنى الوطني.

فرئيس الجمهورية هو “رمز وحدة البلاد، وحامي الدستور، والقائد الأعلى للقوات المسلّحة” والمطلّ على باقي السلطات التشريعية والتنفيذية، ولذلك يختلف “وضعه” عن أوضاع غيره، ويصبح اختياره مسؤولية وطنية وليست طائفية، كما أن شخصه محورياً في توحيد أو تقسيم الرأي العام الوطني.

يمكن لغيره أن يكون ممثلاً أو زعيماً  لطائفته، وهذا لا ينتقص في شيء من هؤلاء وما يمثّلون، لكن لا يمكن لرئيس الجمهورية، حتى وإن كان بالعرف ممثلاً لمكوّن محدّد من الشعب اللبناني، أي المسيحيين والموارنة تحديداً، أن يقتصر دوره على تمثيل ذلك المكوّن.

لم يقصد وليد جنبلاط إلا التأكيد على تلك المعطيات الثابتة في شأن موقع الرئاسة الأولى، ومن أراد أن يصطاد في كلامه غير هذه “الطريدة”، طاشت طلقته بعيداً. كما أن كلامه عن التفاهم مع الرئيس نبيه بري والسيد حسن نصرالله في هذا الشأن، لم يكن يعني به إلغاء أدوار الآخرين .. بل العكس هو الصحيح خصوصاً وأنه أكثر من يعرف أن التسوية التي يدور بها على معظم قادة البلد رافعاً لواءها، لا يمكن أن تتم جزئياً .. وإلاً ما كانت تسوية، عدا أن أنها غير قابلة للتحقّق عملياً.

رجال الدولة أكبر من طوائفهم .. صحيح أنه ومثلما كان يقول دائماً الرئيس الشهيد رفيق الحريري “لا أحد أكبر من بلده”، لكن الصحيح أيضاً أن البلد الذي يفتقد رجال العقل والحكم والاعتدال والتسوية، لا يبقى بلداً، ولا يمكن أن يستمر نظامه السياسي، بل أن الأمر يحيل “المراقب التاريخي” فوراً على أمراء الطوائف في الأندلس الذين “بكوا مثل النساء، حكماً لم يحافظوا عليه مثل الرجال”.

لكلّ زمن دولة ورجال. نعم. لكن المفارقة المؤلمة هي أن الدولة، أو طيفها، لا يزال موجوداً، فيما الرجال قليل.