ماذا عن لبنان في زمن الاضطراب؟

رامي الريس

إنه سؤال بديهي، إنما متكرر، منذ عشرات السنوات. لبنان إنضم منذ زمن بعيد إلى نادي الدول المضطربة في بحثها عن الهوية الضائعة، وهو من تلك الدول التي لم يحل هيكلها الداخلي وبنيانها السياسي والاجتماعي دون أن تتحوّل مرات ومرات إلى ساحة إحتراب وصراع إقليمي ودولي كبير ولعل للاعبين اللبنانيين أدواراً رئيسية في ذلك.

ليس المقصود من هذه المقدمة الدخول في تحليل سياسي أو جيواستراتيجي حول التطورات المتسارعة وغير المسبوقة التي تمر بها المنطقة العربية والشرق الأوسط، وليس المقصود تقديم إجابات حول تساؤلات جوهرية تتصل بمستقبل المنطقة برمتها على ضوء تللك التطورات مع تلاشي الحدود الجغرافية للدول وإنعكاس ذلك على الوضع اللبناني، وليس المقصود أيضاً البحث في تداعيات دخول لاعبين جدد من خارج نادي الدول التقليدية إلى ساحة الصراع وقيامها بتغيير كل قواعد النزاعات والإشتباكات؛ بل المقصود حصراً هو محاولة الفصل بين كل هذا المشهد الإقليمي المتأزم وبين الوضع الداخلي اللبناني المأزوم بدوره.

الأكيد أن لبنان، كما كان في كل محطات تاريخه المعاصر، شديد التأثر بما يجري في محيطه الإقليمي، لا سيما مع خطوط الإتصال المفتوحة والولاءات المنتظمة لبعض لاعبيه الداخليين الأساسيين مع اللاعبين الخارجيين، وهذا من شأنه حتماً أن يرفع من مستويات التأزم الداخلي في لحظات الإحتباس أو الإنفجار الإقليمي، وحتى في لحظات المراوحة بين هذه وتلك.

من هنا، فإن الحاجة لتحصين الساحة الداخلية باتت حاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى لا سيما مع وجود ما يسمّى من «مظلة دولية» ترمي إلى الحفاظ على الإستقرار اللبناني وتقف حائلاً دون إنزلاقه في إتجاه التوتر أو الإنفجار أو الإنهيار. صحيحٌ أن مجرّد وجود هذه المظلة مسألة في غاية الأهمية لا سيما أن تجارب لبنان السابقة أثبتت وقوعه مرات عديدة ضحية التفاهمات الدولية والإقليمية فوق أجوائه، ولكن لا بد لها أن تُرفد بجهدٍ داخلي وحراك يتوصل لبناء شبكة تفاهم داخلية تصب في مصلحة حماية الإستقرار.

ولعل أولى تلك الخطوات تكون من خلال الإتفاق على تحييد الملفات الإقتصادية والإجتماعية الضاغطة، لا سيما أن طبيعة تكوين هذه الملفات مرتكزة إلى أرقام ومؤشرات ومعطيات علمية وتقنية ما يجعل إمكانية التفاهم حيالها أوسع وأكبر. إن العمل على معالجة مجموعة كبيرة من الملفات الإقتصادية والإجتماعية والمعيشية المتراكمة يصب بشكلٍ كبير في مصلحة حماية الإستقرار الإجتماعي، وهو ممكن أن يُحدث فرقاً نوعياً على المستوى الداخلي إذا رُبط بالإستقرار السياسي والأمني الذي توفّره المظلة التي تحدثنا عنها وسياسة الإستقرار النقدي التي يعتمدها مصرف لبنان منذ سنوات وأدت إلى تحصين العملة الوطنية.

وهنا بعض الإقتراحات:

أـ قطاع الكهرباء: يكبّد هذا القطاع الخزينة اللبنانية عجزاً سنوياً يناهز الملياري دولار، ولو جُمع ما دُفع لدعمه وتغطية عجزه لسنواتٍ قليلة لكان بالإمكان بناء أكثر من معمل لإنتاج الطاقة ومعالجة هذه المشكلة من جذورها. لبنان ليس البلد الوحيد الذي تعرّض قطاع إنتاج الطاقة فيه إلى التدمير جراء الحرب (والحروب الإسرائيلية المتلاحقة التي ضربته في كل مرة أبرزها الأعوام 1993 و1996 و2006) ، ولكن لعله البلد الأوحد الذي لم ينجح في وضع حدٍ لهذه المشكلة المتفاقمة بعد مرور كل هذه السنوات. وجديرٌ بالذكر أنه على “ضفاف” هذه الأزمة نمت وكبرت شبكات أصحاب المولدات في مختلف المناطق اللبنانية وهي أصبحت تملك نفوذاً وقوةً وتشكل أداة ضغط على السلطة والمواطن على حدًّ سواء!

ب ـ قطاع النفط: إنه ثروة لبنان المستقبلية، وبقدر ما فرح اللبنانيون باكتشافه، بقدر ما هم قلقون من إحتمال غياب الإدارة السياسية والقطاعية اللازمة له وفق الشروط والمعايير الدولية؛ كما أن ما تم تناقله من معلوماتٍ حول صفقاتٍ مرتقبة في هذا القطاع بقطع النظر عن صحتها أو عدم صحتها، رفع من مستويات القلق لدى اللبنانيين؛ وترافق ذلك مع التأجيل المتتالي للمناقصات المطروحة ( آخرها لغاية 15 شباط 2015) ما أعطى إشارات سلبية للشركات الدولية، علماً أن “مسلسل” التأجيل كان قد بدأ منذ 4 تشرين الثاني 2013 ولأربع مرات متتالية! وقد إعتبرت، في هذا المجال، Economist Intelligence Unit أن هذا “التأخير يعكس فشل مجلس الوزراء في التصديق على المرسومين اللذين يحددان نموذج إتفاق الإستكشاف والإنتاج وعدد البلوكات البحرية التي ستدرج في المناقصة”، وأشارت إلى أن “اللجنة الوزارية المكلفة بمراجعة مشاريع المراسيم لا تجتمع بإنتظام ولا تزال تواجه صعوبات للوصول إلى أي نوع من الإجماع والتوافق”.

وعدا عن أن التقرير إياه حذر من أن يعجز لبنان عن فرض شروطه التجارية القوية على الشركات العالمية إذا تأخرت عملية التلزيم لوقتٍ أطول؛ فإنه أشار أيضاً إلى الشركات ليس لديها صورة واضحة عن الشروط التعاقدية للتنقيب وتطوير إحتياطي الغاز والنفط المحتمل في المياه الإقليمية اللبنانية فضلاً عن عدد البلوكات البحرية التي ستدرج في المناقصة مع ان مصادر هيئة البترول اوضحت للـ”الأنباء” انه تمت مناقشة الشركات وتلقي ملاحظاتها وآرائها منذ انطلاق العملية، علماً أن مساحة كل بلوك تتراوح بين 1201 كيلومتر مربع بلوك (7) و2374 كيلومتر مربع بلوك (5) . هذا التخبّط يحصل في الوقت الذي بدأت فيه إسرائيل جني الأرباح من إحتياطي الغاز!

د ـ قطاع تكنولوجيا المعلومات: إنه من القطاعات الواعدة جداً لا سيما أن الجامعات اللبنانية (العريقة منها طبعاً وليس الطارئة) تخرّج سنوياً كفاءات عالية من الشباب في هذا الإختصاص الذي يتضمن فروعاً عديدة، وهو إختصاص العصر من دون منازع. لقد سبق أن طُرح في الماضي العديد من المشاريع الهامة لإقامة “مدن تكنولوجيّة” لإنتاج الكومبيوتر والبرمجات ومتمماتها، إلا أن إعتبارات سياسية وشعبية حالت دون إقامتها.

إلا أن ذلك لا يلغي ضرورة إعادة التفكير في هذه المسألة وتوفير كل الإمكانات اللازمة لها.

هـ ـ قطاع الإتصالات: هو أيضاً من القطاعات الهامة، وقد يكون فتح باب المنافسة لإدخال مزيد من الشركات واحدة من الأفكار التي تؤدي إلى خفض الأسعار في الهاتف الخليوي لا سيّما أن العديد من التقارير تؤكد أن أسعاره في لبنان مرتفعة قياساً إلى العديد من البلدن الأخرى، دون أن يلغي ذلك أن الشركتين، بإدارة وزارة التصالات، بذلتا وتبذلان جهداً هاماً للحفاظ على خدمة القطاع في ظل تنامي الطلب على الهاتف الخليوي مع تدفق الآلاف من النازحين السوريين إلى لبنان.

أما في مجال الهاتف الثابت، فإنه قد يكون من المفيد الإسراع في إيصال خدمة الإنترنت DSL إلى كل المناطق اللبنانية، ليس فقط لأن هذه خدمة ضرورية للمواطنين، بل لما تشكله من دخول مالي هام لخزينة الدولة.

و ـ القطاعات الإنتاجية الأساسية: إذا كانت هناك حاجة لبذل الجهود في سبيل تطوير قطاعات جديدة، فإن ذلك لا يلغي ضرورة تعزيز واقع القطاعات الإنتاجية التقليدية لا سيما منها الصناعة والزراعة والسياحة. ولقد باتت مشاكل كل هذه القطاعات معروفة ومتكررة، فإرتفاع كلفة الإنتاج تحد من تنافسيّة الصناعة اللبنانيّة رغم جودتها العالية في العديد من القطاعات وتقف حائلاً دون توسيع كبير لقاعدة الاستثمارات والتوظيفات في هذا القطاع.

أما الزراعة، فلقد أثرّت الأزمة السوريّة بشكل كبير على حركة النقل البري والقدرة على التصدير نحو الأسواق الخارجيّة، ناهيك عن الحاجة للبحث عن زراعات جديدة ترفع من قدرات لبنان التنافسيّة. ويبقى القطاع السياحي الذي يمتلك طاقات واسعة إن كان على مستوى المرافق السياحية والقدرة الإستيعابيّة أم على مستوى الموارد البشريّة الهامة والمتميزة. وغنيٌ عن القول أن القطاع السياحي بحاجة لإستقرار سياسي وأمني وهو ليس متوفراً بصورة مستدامة ومكتملة.

س ـ الإصلاح الإداري: هو ملفٌ شائك ومعقد لإرتباطه بالوضع السياسي وطبيعة تركيبة النظام. إلا أن حالة الترهل والفساد والهدر بلغت مبلغاً متقدماً لم يعد ممكناً الإستمرار فيه. والإدارة الرشيقة إحدى مؤشرات الإزدهار وإحدى شروط الإستثار. لقد باءت كل المحاولات السابقة بالفشل لسبب جوهري يتصل بغياب القرار السياسي في هذا الإطار. وهنا أيضاً أصبحت العلاجات معروفة: تفعيل المؤسسات الرقابيّة والتشدد في تطبيق القوانين ورفع الغطاء السياسي عن الفاسدين. ولكن دائماً الشعارات جميلة والتطبيق رديء!

هذه كانت بعض الأفكار والخطوط العريضة التي يمكن أن تُستكمل بالعديد من النقاط. بعضُ تلك النقاط ممكن لها أن تشكل مساحة مشتركة بين اللبنانيين ينبغي توسيعها وتعميقها.

إلامَ يحتاج لبنان؟ إلى الكثير الكثير…

———————————————–

(*) رئيس تحرير جريدة “الأنباء” الالكترونيّة

Facebook: Rami Rayess II

Twitter: @RamiRayess

اقرأ أيضاً بقلم رامي الريس

عن الخرائط التي تُرسم والإتفاقات التي تتساقط!

التسوية شجاعة وإقدام!

الأحزاب وبناء الدولة في لبنان

أعيدوا الاعتبار لـ “الطائف”!

الإعلام والقضاء والديمقراطية!

وفروا مغامراتكم المجربة… واقرأوا!

عن “الأقوياء في طوائفهم!”

ما بعد الإنتخابات النيابية!

لمن سأقترع في السادس من أيّار؟

إنه السادس من أيار!

لائحة المصالحة: قراءة هادئة للعناوين والتطلعات

لا، ليست إنتخابات عادية!

عن تجاوز الطائف والأكلاف الباهظة!

الشعب الإيراني يريد النأي بالنفس!

الإصلاح ثم الإصلاح ثم الإصلاح!

للتريث في قراءة مفاعيل التريث!

كيف ستنطلق السنة الثانية من العهد؟

تغيير مفهوم الإصلاح!

“حبيبتي الدولة”!

من حقّ الناس أن تتعب!