شعبية بوتين والتوتر المتفاقم في اوكرانيا

د. ناصر زيدان

اجرى مركز ” ليفادا ” استطلاعاً لرأي المواطنيين  في مختلف مناطق روسيا الشاسعة، بيَّنت ان 87% منهم يؤيدون سياسة الرئيس فلاديمير بوتين اتجاه اوكرانيا. ذلك التأييد يُعتبر اعلى نسبة يحظى بها الرئيس الروسي منذ توليه الحكم بداية العام 2000، وخلال فترة رئاسته للحكومة بين العام 2008 والعام 2012.

كيف يمكن قراءة هذه النتيجة العالية من التأييد، والتي لا يُبطِل هامش الخطأ، او الدعاية – اذا ما وجِدت – من صدقيتها؟

للروس مشاعر قومية جياشة، تتفاعل مع الاحداث الوطنية الكبرى، ويتفانى المواطنييون السلاف على وجه التحديد من اجل رِفعة مكانة روسيا، وفي سبيل مصالحها العليا. ذلك ما كان يستفيد منه القياصرة قبل العام 1917، والامر ذاته كان ينطبق على الشيوعيين الذين حكموا البلاد حتى العام 1990، بحيث حشدوا التأييد الشعبي الكاسح عندما تصدوا للزعيم النازي ادولف هتلر عام 1944، وعلى الوتيرة  ذاتها عَمِلَ قادة الاتحاد السوفياتي السابق عندما وقفوا بشجاعة امام الغطرسة والاستفراد الاميركي، وربما كان احد اسباب سقوط الشيوعيين في العام 1989، انهم اضعفوا المشاعر القومية عند المواطنين على حساب اعلاء شأن الهمَّ المعيشي الذي كان مُتعثراً في حينها.

نجح بوتين في استثارة المشاعر القومية الروسية في المرة الاولى، عندما هدد انفصاليي القوقاز عام 1999 ” بمسح رؤوسهم بالمراحيض ” ونجح في اخماد الثورة المعارضة في الشيشان، ودخل من جراء هذا النجاح الى الكرملن من البوابة العريضة، بعد ان ترك بوريس يلتسين الحكم له قبل ان تنتهي ولايته، وكان بوتين في حينها رئيساً للوزراء.

الشجاعة التي يتعامل بها بوتين مع الاحداث الاوكرانية، فيها شيء من المُكابرة، في زمنٍ يتوسَّع الفارق كثيراً بين القوة الاقتصادية والعسكرية التي تملكها روسيا من جهة، وبين ما تملكه الدول الغربية وفي طليعتها الولايات المُتحدة الاميركية، والميزان طابشٌ بالتأكيد لمصلحة المُعسكر الثاني، إلاَّ ان البراغماتية التي يلجأ اليها بوتين عند الضرورة، ربما تكون كافية لتجنُّب المواجهة في ساعة الحشر. تلك كانت سمةُ مواقفه عند ضرب الطائرات الاميركية لقواعد حلفائهِ في يوغسلافيا السابقة عام 1999، وعلى الوتيرة الاستيعابية نفسها  تصرَّف بعد اجتياح قواته لجورجيا عام 2008، وتجنَّب المواجهة مع الغرب.

كل المؤشرات التي تتجمع من جراء الاحداث الساخنة التي تشهدها اوكرانيا منذ اكثر من عام، تؤكد ان موسكو ليست في وارد تقديم تنازلات واسعة امام حلف الاطلسي على حدودها الغربية، واوكرانيا هي بمثابة البوابة التي يدخُلُ منها الاوروبيون الى السهوب الروسية على الدوام. فعبرها غزا نابليون موسكو عام 1812، ومنها دخل هتلر الى ستالينغراد (فولغوغراد حالياً) في العام 1942.

حسابات الربح والخسارة لبوتين في اوكرانيا لم تتكشَّف بعد. فهو حتى الآن نجح في استعادة جزيرة القرم الاستراتيجية الى السيادة الروسية، بعد ان تنازل عنها سلفه يلتسين في العام 1991 لأوكرانيا لتسهيل تسليم كييف اسلحتها النووية الاستراتيجية الى موسكو، ذلك كان بتمنٍّ من البريطانيين والاميركيين في تلك المرحلة.

وربحُ القرم لا يكفي لإخفاء ملامح الهزيمة الجيوسياسية لروسيا في الوسط الاوراسي، فأوكرانيا بكاملها كانت  في الاساس تدور في الفلك الروسي، وهي سوق واسعة للمُنتجات الروسية، وممر استراتيجي لصادراتها من الغاز، وهي في الوقت ذاته مصدراً مهماً لغذاء الشعب الروسي، لاسيما المُنتجات الزراعية والحيوانية، وفي شرق اوكرانيا تتمركز الصناعات الروسية الثقيلة حتى الآن، لاسيما صناعة الشاحنات، والمعدات الفضائية.

مما لا شك فيه ان موسكو تملك الكثير من نقاط القوة في الصراع الاوكراني، ولكن الصراع بحدِ ذاته خسارة لها، لأنه على حدودها وفي المدى الحيوي لنفوذها التاريخي.

ارتفاع شعبية الرئيس بوتين بين الروس من جراء تشدُدهِ في اوكرانيا، لا يعني بأي حال من الاحوال ان النصر حليفه في نهاية المطاف. فحلف الاطلسي جاء بكامله الى حلبة المُنازعة، ولم يترك القوات الحكومية الاوكرانية وحدها في ميدان المواجهة. وهو – على الاقل سياسياً – حدد مجموعة من المواقف الحاسمة اثناء زيارة قائده اندروس فوغ راسموسن الى كييف في 7/8/2014، طالباً من القوات الروسية الابتعاد عن الحدود الاوكرانية كشرط لإجراء حوار مع موسكو.

وشرط الابتعاد عن الحدود الاوكرانية، وضمان امن هذه الحدود ومنع التسلل منها،  يقفانِ وراء تعثُّر مباحثات وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف ونظيره الاوكراني بافلو كليمكين بحضور وزيري خارجية المانيا وفرنسا في برلين الثلاثاء الماضي.

في السياسة: الشعبية شيء، وموازين القوى شيءٌ آخر. واستناداً الى هذه الفرضية ، يُسجَّل مع ارتفاع شعبية بوتين، ارتفاعاً لعدد القتلى في مواجهات اوكرانيا خلال 4 اشهر الى اكثر من 1150 قتيلاً و300 الف مُهجَّر، ومعهم ضحايا الطائرة المدنية الماليزية المنكوبة، الذين تناثرت جثثهم بين هضاب لوغانسك في 17 يوليو/تموز الماضي.

اقرأ أيضاً بقلم د. ناصر زيدان

قبل أن يسقط الهيكل

عن الصراعات المُخيفة بين سواحل البحر الاسود وشواطىء البحر المتوسط الشرقية

تحوُّل كبير في السياسة الصينية نحو الشرق الاوسط

مصاعب سياسية وإقتصادية تواجه روسيا

مؤشرات على إندفاعة جديدة لجامعة الدول العربية

كلفة اقتصادية خيالية لإسقاط “السوخوي” الروسية من قبل المقاتلات التركية

تحديات التنمية العربية لما بعد العام 2015

هل تُهدِّد الاضطرابات الأمنية التغلغُل الصيني الواسع في أفريقيا؟

الحكومة الأفغانية عالقة بين طالبان وداعش والافيون والسياسة الاميركية

التواطؤ الأميركي وإنتفاضة القُدس الثالثة

تغييرات كبيرة في نسق العلاقات الدولية على وقع المآسي الانسانية

عن مخاطر الحسابات الروسية الجديدة في سوريا!

عودة هادي إلى عدن وتقلُّص الإنفلاش الإيراني

تحولات كبيرة في الموقف الروسي تجاه الأزمة السورية

معالم تراجع في أخلاقيات النظام الدولي!

هل يلاحق القضاء البريطاني نتنياهو اثناء زيارته الى لندن؟

عن المسؤولية الجنائية لقادة العدو الإسرائيلي في إحراق الطفل دواشنة

ايران: مصلحة الدولة ومصلحة النظام

عن تآمر “إسرائيل” والنظام السوري على العرب الدروز!

سِباق بين عصا البشير والمحكمة الدولية من جنوب افريقيا الى السودان