صوفر: الهواء العليل والتاريخ العابق بالمجد

محمود الاحمدية

عند الفجر ومن على شرفة منزلنا الصيفي مشهد يبقى في الذاكرة… التلال الخضر تتنفس بالجمال والغيمة الراكضة الى الوادي السحيق والافق الأرجواني يضفي على المشهد سحراً غير عادي حتى تكتمل سمفونية الابداع التي خطتها يد الباري وتركتنا نسبّح ونمجّد عظمته… فتخال نفسك انت والجمال توأمان… تخال الفجر يذكّرك وفي خضم همومك بأنك على تماس مع ألأشياء الحلوة… ولحظة فلحظة سبحان الله بدأ النور يغمر بعشق ودلال كل المشهد… وبدأت الحركة الهادئة على الطرقات تنبؤك بيوم جديد من ايام صوفر…

منذ اربع سنوات وعند مجيء كل صيف كنا نتردّد في صيفية دائمة الى صوفر بسبب قرب العمل والمصنع في الساحل من المنزل وبسبب اغراءات الحياة وحرارة الحركة في بيروت… وهذه السنة اتخذنا قراراَ واضحاً بالعودة صيفاً الى صوفر… وكانت المفاجأة التي حركت كل مشاعرنا ان تجد نفسك من جديد في بلدتك الأم وان ترتاح للمساحات والأفق البعيد والهدوء الرائع… فسلسلة الجبال على مد النظر والرؤية حتى ذرى الشوف… وكأنها قطعة من الجنّة…  او قطعة من ريف اوروبا … يكفي ان الهواء الذي نتنشقه نظيف نقي يملأ صدرك وفكرك بمشاعر جميلة وبراحة تامة…

وعندما يأتي الليل تشعر وفي شهر آب اي منتصف الصيف بقشعريرة برد تأمرك بأن تلبس الصوف ولو لساعتين هو شعور لذيذ لا يقرَ به الا من عاشه…

في سهرة جميلة اقمناها في دارنا للأصحاب وأغلبهم أتى من الساحل… كانت المفاجأة الكبيرة لهم الى حد الاندهاش هي هذه النسمة الساحرة التي تغلف المكان والزمان، وهذا البرد المحتمل والذي يهز كيانك ويذكّرك بجمالات الحياة وقدرة الخالق عز وجل على إقناعك بالوجه الآخر الجميل للحياة… واذا كانت البيئة تربة وماء وهواء فإن صوفر تختصر هذا المثلث الذهبي وتجسده وتحميه…

وعلى قدر ما تملك صوفر من مزايا جمالية ومن طبيعة خلابة على قدر ما يعبق تاريخها بالمجد. ويكفي للدلالة ان فندقها الكبير استقبل مؤتمراً للقمة العربية في الخمسينيات وحضره تسعة عشر رئيساً وملكاً وكان يومها عدد اعضاء الجامعة العربية تسعة عشر والدول الثلاث موريتانيا والصومال وجزر القمر لم تكن قد التحقت بالجامعة.  ومحطة سكة الحديد تبقى في الذاكرة والتي كانت تصل بيروت بدمشق، وجزء من طفولتنا كان التعلق بمنظر القطار وهو يتوقف في صوفر، ثم تنطلق الصافرة معلنة رحيله والناس من كل الجنسيات على النوافذ تطل برؤوسها متمتعة بأجمل المناظر…

والدونا ماريا، القصر الأندلسي المعبر عن العمارة الجميلة والتقنية والتاريخ … والعائلات اللبنانية العريقة كانت تختار صوفر كمصيف متميز لها…

واجمل ما في الدنيا ان ترى الأهل والأصحاب وان ترى التقاليد الرائعة وتسمعها وتملأ سمعك ونظرك بها…

” كيف حالك عالفضل” قالها لي شيخ جليل وبقيت بركة هذه الجملة تملأ كياني.. وعقلي وروحي ومشاعري… “يا إبني اللي بيشلح تيابو بيبرد”  قالها لي شيخ جليل آخر في مناسبة ثانية وهنا المقصود عدم الابتعاد عن الأهل والأحبة في المنطقة… ونحن اصلا قريبون من الناس ونؤمن بهذا المثل الجبلي ايماناَ كاملا…  “وكل ما الحي يليق” سمعتها في مناسبة ثالثة في زيارة مريض من الأقارب… هي تقاليد ضاربة في التاريخ تجسد جبلَة أهل الجبل وعاداتهم وعباراتهم العميقة النابعة من قلوب صافية… هي جزء من جمال الإقامة في صوفر وكل انحاء الجبل…

يكفي نظرة فاحصة في الوجوه، كي ترى الابتسامة تغمرها والرضا بما تيسَر يسعدها، هو نمط وإيمان وفلسفة في الحياة…

تجربتنا هذا الصيف في صوفر، بعيداَ عن كل الهموم التي تثقل كاهل جميع اللبنانيين، هي تجربة سعيدة تتنفّس بكل ما في الكون من فرح ونقاء وصفاء…

بالأمس اطل قمر صوفر من خلف التلال وكان قريبا من بيتنا ويغري بالقطف ولم اقطفه وتركته هدية لكل متذوق للجمال وللهدوء ولراحة البال…

رُبّ قارىء كريم يسأل: كل مقالة لها هدف واضح، ما هو هدف هذه المقالة؟؟ اقول بمحبة: هدف مقالتي تشجيع كل ساكن في الساحل ويملك بيتا في الجبل على اتخاذ القرار وبحزم: صيفيتي ستكون في الجبل.

اقرأ أيضاً بقلم محمود الاحمدية

لبنان لن يموت

أكون حيث يكون الحق ولا أبالي

لماذا هذا السقوط العربي المريع؟!

جشع بلا حدود وضمائر ميتة في بلد ينهار!

جاهلية سياسية… بل أكثر!

معرض فندق صوفر الكبير والتاريخ والذاكرة

قال لي: عندما تهاجم الفساد ابتسم بألم!!

إذا أجمع الناس على مديحك سوف أطردك!!

التاريخ لا يرحم… يجب إعادة كتابته

ما هو دوري كوزير جديد؟

مشروع كمّ الأفواه تدمير للبنان الرسالة

الجامعتان اليسوعية والأميركية تنسحبان: التعليم العالي في خطر

السويداء في عين العاصفة

تقريران رسميان متناقضان عن تلوث بحر لبنان

في ذكراها الـ 74 اسمهان: قصصٌ خالدة

طبيعة بلا حدود ربع قرن من النضال البيئي

فريد الأطرش وشوبرت والفن العالمي الخالد

يوم البيئة العالمي: التغلب على تلويث البلاستيك

قطعة الماس في جبل من الزجاج

مسيرة منتدى أصدقاء فريد الأطرش تشع في دار الأوبرا في القاهرة