عن زمن المنفلوطي

سمير عطاالله (النهار)

عرضت “داعش” في المزاد العلني خمسمائة من السبايا للبيع. يذكِّرك ذلك بمزادات أثينا وروما زمن العبوديات. وذات يوم عُرضت امرأة من إسبارطة للبيع، فسألها الدلاّل عن أولى مهاراتها لكي ينادي عليها، فقالت: “مهارة كل امرأة من إسبارطة. أن أعيش حرة”.

لم يغِب عصر العبودية عن الشرق، متخذاً أشكالاً كثيرة. أسوأها نحو ستة قرون من الاستعمار، وأكثرها مرارة قسوة الحكم الوطني. وقد حاول كلاهما التقنُّع بالدين لأسباب سياسية سُلطوية فاضحة. عندما كتبت الأربعاء الماضي أن المسيحيين عاشوا مواطنين من الدرجة الثانية في العراق كان يجب أن أستدرك أنها لمرحلة كانت الدرجة الأولى. سواهم عاش في درجات أدنى وأسوأ. وهم لم يتعرضوا للموت الجماعي مثل غيرهم.

العام 1988 التقيت في مدينة نيس الاستقلالي فيليب تقلا. قلت له أريد أن أفهم منك لماذا لا يحاول المسيحيون الانصهار، وممّ الخوف؟ قال: السياسات تغلب. قلت له، هل تدري أين هي أكبر مدينة مسيحية في الشرق الآن؟ فكّر قليلاً وقال، زحلة؟ قلت، لا. إنها في السعودية أو الكويت أو الإمارات. وروَيت له أن مجلة “المجلة” نشرت لائحة بأهم 100 رئيس مجلس إدارة في المملكة فحمل الكاثوليكي نعمة طعمة الرقم 15 بعد أسماء مثل بن لادن والجفالي والراجحي.

قبل سنوات عدة سألت أمين معلوف عن بطله التالي. قال، إنه يفكر في عبد القادر الجزائري الذي تفانى في محاربة الاستعمار الفرنسي في بلاده، وتفانى في حماية نصارى سوريا في قتالات دمشق. كل متر من منزله كان ملجأ لمسيحي هارب. كتبت الأربعاء الماضي أن كل صراع على الأرض هو صراع إيديولوجي دوغمائي سياسي، تحرّكه الشهوات لا المعتقدات. والدليل حال المسيحيين في العصر الأموي والعبّاسي ومن ثم في العصر التركي. يوم كانت الحرب في لبنان تلوي نحو الطائفية ذهب الإمام موسى الصدر يُلقي العظة في كنيسة الكبوشية، في خطى إمام آخر، الأوزاعي.

“داعش ظاهرة” سياسية همجية متعمّدة. كل خطوة تتخذها يتّضح فيها الشرّ المرسوم أو المقصود. ومولانا أرسطو كان يقول إن الشر هو الجهل والفضيلة هي المعرفة، أو بالأحرى المعرفة هي الفضيلة. المعرفة، مثل الحسنة، عبادة.

ما هي أرقى مراتب الديموقراطية؟ الموضوعية. أي عندما تدرك حقاً أنك بشر، وعليك أحكامهم جميعها. وما هي الموضوعية؟ عُد إلى سقراط: المعرفة، لذلك يحنّ العرب دوماً إلى عصر النهضة كمرجعية وحنين ومفاخرة. سوف أعطيك مثلاً بسيطاً.

العام 1907 ردّ الكاتب المعمّم مصطفى لطفي المنفلوطي على مطالعة للورد كرومر القنصل البريطاني العام، انتقد فيها الإسلام والرسالة وأجرى ضرباً من المقارنات مع المسيحية. قال المنفلوطي(1): “في أي عصر كانت الديانة المسيحية مبعث العلم والعرفان؟ ومطلع أشعة المدنية والعمران؟ أفي العصر الذي كانت تدور فيه رُحى الحروب الدموية بين الأرثوذكس والكاثوليك تارة، وبين الكاثوليك والبروتستانت تارة أخرى، بصورة وحشية فظيعة اسودَّ لها لِباس الإنسانية وبكَت الأرض منها والسما؟ أم في العصر الذي كانت إرادة المسيحي فيه صورة من إرادة الكاهن الجاهل فلا يعلم إلا ما يعلّمه إياه ولا يفهم إلا ما يُلقيه إليه؟ أم في العصر الذي كان يحرِّم فيه الكاهن الأعظم على المسيحي أن ينظر في كتاب غير الكتاب المقدس؟ فإن المدنية الحديثة ما دخلت أوروبا إلا بعد أن زحزحت المسيحية منها لتحلّ محلها. أما المدنية الاسلامية فإنها طلعت مع الإسلام في سماء واحدة من مطلع واحد في وقت واحد معه”.

بعد عامين، 1909، يسمع هذا الكاتب المعمّم عن مذابح للمسيحيين في ولاية أضنه التركية فيكتب بعلوّ خُلُقي وموضوعية بشرية: “لا أيها المسلمون، إن كنتم تعتقدون أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق المسيحيين إلا ليموتوا ذبحاً بالسيوف وقصفاً بالرماح وحرقاً بالنيران، فقد أسأتم بربكم ظناً وأنكرتم عليه حكمته في أفعاله وأنزلتموه منزِلة العابث اللاعب الذي يبني البناء ليهدمه، ويزرع الزرع ليحرقه، ويخيط الثوب ليمزّقه، وينظِّم العقد ليبدّده”.

البراهين التي ساقها المنفلوطي في نقد المسيحية والدفاع عن الإسلام، ساق مثلها في الدفاع عن المسيحيين وتأديب جَهَلة المسلمين. المؤسف أن الزمن الموضوعي لا يدوم ولا يزدهر. فيما الفتنة لا تموت. وتعثر دوماً على سُقاتها وزارعيها في جميع الطوائف والمذاهب. ويقول البيولوجيون إن من بين جميع أكَلَة اللحوم، الإنسان هو الوحيد الذي يقتل أهل جنسه، ولا يشبع من ذلك، ولا يزال منذ العصر الحجري ينوِّع في الأسلحة التي يقتُل بها، وفيها يفتك في كل الإمكنة والأزمنة.

غريبة بلادنا: مهْد الأديان ولا يسود فيها سوى تبادل التكفير. أرض الرسالات ولا يفقهون. خير التنزيل وشرّ التأويل. بلادٌ مكتظّة بالدروس، مثل رمل الصحراء ومياه المحيط وتكرار الشلالات، ولا مِن عبرة واحدة. مسيرة دائمة نحو الموت والخسارة. في قرن واحد خسرنا فلسطين ثم فقدنا لها جوارها أيضاً. الأرض والكرامة. وإذ تقوم قيامة ما فمن أجل فلسفة الهزيمة وتبرير الانكسار ولإذلال الحزانى بسببهما.

حاولت أن أبحث عن تدوينات عربية تؤرّخ شيئاً من الحرب الأولى التي عرفناها، بسبب حجمها الكارثي، بحرب الأربعتعش. تقريباً، لا مصادر مقارنة بالأطنان الموجودة في مكتبات الغرب. غير أنني توصلت من خلال القليل المتوافر إلى تأكيد قاعدة قديمة، وهي أن ما يضرب سوريا وفلسطين من أوبئة طبيعية أو سياسية يضربنا معهما. والعكس. كان يغفل عن دمشق وهي تتصرّف في شؤون لبنان وحياة اللبنانيين أن الرياح الفاسدة لا تُحصر.

المجاعة التي ضربت لبنان العام 1916 ضربت أيضاً سوريا وفلسطين. “الحركة” التي ضربته عام 1860 ضربت دمشق: “لم يكن هناك حبوب لا في بيروت ولا في دمشق حيث كانت المجاعة تحصد كل يوم ما بين 20 إلى 25 شخصاً”.

يروي جورج أنطونيوس في رائعته “اليقظة العربية” أن رجال بعض القرى في لبنان كانوا يهاجرون ليموتوا بعيداً عن أعين نسائهم وأطفالهم المُقتاتين على الحشائش. لكن حتى الأربعينات كان لا يزال هناك من يأكل الحشيش كما تروي حنان الشيخ في “حكايتي شرحٌ يطول” (دار الآداب).

كيف واجَهنا وحدة البؤس والعذاب والاستعمار والاستيطان والاحتلال؟ بتأديب بعضنا البعض. بدل تحرير الأراضي المحتلة، حاولنا الاستيلاء على ما تبقّى لنا من أرض حرة. مَن منكم سمع عن مشروع تعاوني متساوٍ واحد في نصف القرن الماضي، فليذهب إلى أقرب مخفر ويبلّغ عنه. تحدّث موريس الجميل عن خطر الجفاف وأهمية العلوم فضحكنا منه. ظلّ النواب يطرطقون له على التنك حتى مات فقعاً وهو يحذِّرنا مما وقعنا فيه اليوم.

ينجح علماؤنا في الخارج. بلد سكانه أربعة ملايين يخرج منه أهم عالِمَين في دنيا السيارات (جاك نصر و كارلوس غصن) وأغنى رجل في العالم، كارلوس سليم. أما منافسه بيل غيتس، فمن قارة سكانها 340 مليوناً.

ذهب الرئيس حسين الحسيني قبل سنوات إلى “مايو كلينيك”، فلما عرف الطبيب المسؤول من أي بلد هو، قال له: “ثلاثة من رؤساء الأقسام عندنا من لبنان، مقابل رئيس قسم واحد من الهند”. وأضاف: “أما عدد الأطباء الاختصاصيين فلا تسأل. لم نعد نحصي”.

ضمن هذه “الوحدة” العلمية، يرأس الدكتور أنطوان صيداوي، السوري، تحرير أهم مجلة طبية رسمية في الولايات المتحدة. ويتفوّق الأطباء الفلسطينيون في مستشفيات الأمراض الصعبة. وهنا تقوم بين الدول الثلاث وحدة البؤس والعذاب في أجمل بقعة على المتوسط. ويجمع بين السوريين والفلسطينيين أعداد النازحين إلى لبنان، كما أعداد المهاجرين اللبنانيين إلى الخارج بعيداً من تلوّث السياسة ووهَن الاقتصاد، فالازدهار الوحيد هو في الدعارة التي انتقلت من البيوت السرية إلى بعض المسلسلات التلفزيونية.

(1) النظرات، مصطفى لطفي المنفلوطي، الدار المصرية اللبنانية.