غزة: من القتال إلى وقف إطلاق النار

“في 7 آب/أغسطس 2014، خاطب مايكل هيرتسوغ ودينيس روس منتدى سياسي في معهد واشنطن. والسيد هيرتسوغ هو زميل ميلتون فاين الدولي في المعهد وعميد متقاعد في جيش الدفاع الإسرائيلي. والسيد روس هو زميل وليام ديفيدسون المميز ومستشار في المعهد. وفيما يلي ملخص المقرر لملاحظاتهما.”

مايكل هيرتسوغ

تعدّ جولة العنف الأخيرة بين إسرائيل و «حماس» المواجهة العسكرية الثالثة – والأكثر دموية – بينهما منذ الانسحاب الإسرائيلي من غزة عام 2005. وقد تحوّل التركيز، في الوقت الحالي، من ساحة المعارك إلى طاولة المفاوضات، ولكن «حماس» هددت باستئناف القتال إذا لم تدرَج شروطها في اتفاقية وقف إطلاق النار.

وكانت «حماس» قد بدأت بهذه المعركة رداً على وضعها المالي والسياسي الضعيف، إذ تشير بعض الأدلة إلى أن الحركة خططت لها مسبقاً. فإيران التي كانت سابقاً أحد أكبر الداعمين لـ «حماس» قطعت عنها الدعم بعد أن رفضت الحركة أن تؤازر نظام الأسد في سوريا. أما مصر التي كانت ربما أكبر دولة داعمة لـ «حماس» قبل الإطاحة بنظام «الإخوان المسلمين» في تموز/يوليو 2013، فقد قلّصت أيضاً علاقاتها بالحركة وأعاقت الجهود القطرية لتمويلها. وحتى أن «حماس» قد وقعت في عزلة أعمق حين رفض رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس دفع رواتب أفراد الحركة كما هو منصوص عليه في اتفاق الوحدة الوطنية الذي وقّعته حركتا «فتح» و«حماس» في نيسان/أبريل.

ومن الناحية العسكرية، نجحت «حماس» في تحسين قدراتها بشكل ملحوظ منذ عملية “عامود السحاب” التي شنتها إسرائيل في تشرين الثاني/نوفمبر 2012. فقد أصبحت الحركة تصنع الصواريخ كما ضاعفت ترسانتها ووسّعت مدى نيرانها وأنشأت متاهة شاسعة من الأنفاق تحت غزة وحتى تحت إسرائيل. وخلال القتال الاخير، ألحقت المزيد من الخسائر بـ “جيش الدفاع الإسرائيلي” أكثر مما كبّدته خلال الحربين السابقتين، وتمكّنت من إرغام البلاد على إغلاق مطار بن غوريون لبضعة أيام، وبثت الذعر في الحكومات الأجنبية.

ومع ذلك، دمّرت إسرائيل نحو 70 في المائة من ترسانة الصواريخ لدى «حماس» و 60-70 في المائة من بنيتها التحتية منذ بدء عملية “الجرف الصامد”. وعلاوة على ذلك، دمّرت القوات البرية اثنين وثلاثين من الأنفاق الهجومية التي شكّلت تهديداً جديداً ورئيسياً لإسرائيل. وتشير هذه الإحصاءات إلى أن إسرائيل حققت بشكل كبير هدفها الأولي المتمثل بإرساء الهدوء والردع العسكري، على الرغم من أن الكثير من الإسرائيليين لا يزالون يشككون في إعلانات النصر.

لقد عززت هذه العملية أيضاً من شدة التحديات الناشئة عن الحرب غير المتوازنة ضد مقاتلين يتوغلون في مناطق مكتظة بالسكان. وفي هذا النوع من القتال، لا يكون التفوق العسكري دائماً هو العامل الجوهري في تحديد النصر العسكري، لا سيما وأن «حماس» تكسب الكثير من صور المدنيين القتلى الذين قضوا نحبهم نتيجة النيران المتبادلة. وعلى الرغم من أن القوات الإسرائيلية اتصلت بالعديد من العائلات في غزة عبر الهاتف والرسائل النصية لتطلب منهم إجلاء بيوتهم كما وزعت آلاف المناشير للسكان من غير المقاتلين تنذرهم بضرورة إخلاء بعض المناطق، إلا أن “الجيش الإسرائيلي” يقدر عدد المدنيين بنسبة 50-60 في المائة من إجمالي الضحايا.

وعلى الجبهة السياسية، ألقت هذه الحرب الضوء على معاودة بروز مصر بدور اللاعب الأساسي في التوسط لوقف إطلاق النار. أما في ما يتعلق بالولايات المتحدة، فقد قدّمت إدارة أوباما دعماً عسكرياً مهماً لإسرائيل خلال النزاع، بما في ذلك زيادة التمويل لمنظومة “القبة الحديدية”. ولكنها أضعفت في الوقت نفسه دورها الدبلوماسي – فبسؤالها المتكرر عما إذا كانت «حماس» جزءاً من الحل أو جزءاً من المشكلة، قلّصت واشنطن فعلياً نفوذها في التوسط لوقف إطلاق النار. وفي غضون ذلك، أضعف النزاع موقف الرئيس عباس بشكل كبير؛ حتى أنه شعر بالحاجة للتعبير عن تعاطفه مع «حماس» خلال بعض مراحل القتال، مع العلم بأن اتفاقية وقف إطلاق النار قد تمنح السلطة الفلسطينية فرصةً جديدة للعودة إلى غزة، وتحديداً عند المعابر الحدودية.

وأخيراً، يجدر بإسرائيل والمجتمع الدولي أن يطرحا خطة متعددة الجوانب لإعادة تأهيل غزة ولكن بشرط نزع السلاح منها. وعلى الرغم من غير المرجح أن توافق «حماس» على مثل هذه الصفقة، يجب مع ذلك طرحها.

دينيس روس

عند توقيع اتفاق الوحدة الوطنية الفلسطينية في ربيع هذا العام، أرادت «حماس» من السلطة الفلسطينية أن تتحمل أعباء الحكم فيما تحافظ كوادر الحركة على سيطرتها على الأسلحة في غزة. لكن هذا السيناريو لم يتحقق حين رفض الرئيس عباس تحويل الأموال إلى الحركة، الأمر الذي دفع «حماس» إلى شن الحرب.

كما كانت «حماس» تأمل أن تتسبب الحرب بقيام موجة احتجاجات جماعية في مختلف أنحاء الشرق الأوسط دعماً لجهودها وإدانةً لإسرائيل، لكن هذه الخطة لم تفلح. فعلى سبيل المثال، لم تشهد دول الخليج تظاهرات كبيرة ومتواصلة بسبب انشغالها بإيران وربما أبرز من ذلك بسبب نبذها لـ «الإخوان المسلمين». وفي حين استمر القادة السياسيون في تلك الدول بانتقاد إسرائيل، إلا أنهم لم يتوانوا في الوقت نفسه عن توجيه انتقادات لاذعة لـ «حماس». ومن المثير للاهتمام، أن أوروبا شهدت احتجاجات أكثر بكثير مما شهدته عواصم الشرق الأوسط (انظر المرصد السياسي 2293، “المظاهرات التضامنية مع غزة حول العالم”).

وقد كشفت الحرب أن «حماس» استولت دون حق على كميات كبيرة من الإسمنت وغيره من المواد المخصصة لبناء المنازل والمدارس في غزة، واستخدمتها لإنشاء شبكة واسعة من الأنفاق التي وفرت ملجأً للمسلحين ومخابئ للأسلحة، وليس للمدنيين. ولا شك في أن هذا الاكتشاف أجّج المخاوف الإسرائيلية من تخفيف القيود المفروضة على دخول السلع إلى غزة.

وفي المرحلة القادمة، يجدر بالولايات المتحدة أن تتخذ خمس خطوات لضمان وقف إطلاق النار بشكل دائم والانخراط بفعالية مع الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني:

1. يجب على واشنطن أن تدرك التوافق الاستراتيجي الجديد بين مصر والأردن والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، التي تملك جميعها مصالح واضحة وحقيقية في دعم السلطة الفلسطينية وإضعاف «حماس». فمن شأن هذا التوافق أن يخلق واقعاً جديداً ليس في غزة فحسب بل على الساحة الفلسطينية بشكل عام.

2. «حماس» غير قادرة على التغيّر، لذلك يجب على الولايات المتحدة أن تعمل على الحط من مكانتها بمرور الوقت. أما على المدى القريب فيجدر بواشنطن أن تمنع الحركة من استغلال المساعي الإنسانية وجهود إعادة الإعمار، سياسياً كان ذلك أم عسكرياً، وهذا يعني فتح المعابر الحدودية بعد اتخاذ الاحتياطات الكافية، بما فيها تواجد القوات التابعة للسلطة الفلسطينية والدول العربية والمجتمع الدولي من أجل الإشراف على الاستخدام النهائي للمساعدات المادية. وعلى المدى البعيد، يجب على واشنطن أن تضع خطة مشابهة لـ “مشروع مارشال” لغزة لا تطبَّق إلا بعد نزع سلاح «حماس». وإذا اختارت الحركة أن تعيق هذا الاستثمار الكبير، ستنكشف عندئذٍ أولوياتها الحقيقية.

3. يجب على الولايات المتحدة أن تضاعف جهودها لإعمار الضفة الغربية عملاً بتعهد وزير الخارجية الأمريكي جون كيري باستثمار 4 مليارات دولار هناك، وذلك انطلاقاً من الضرورة الملحة للمباشرة بمشاريع البنى التحتية الآن وليس لاحقاً. وفي الوقت نفسه، يجب على إسرائيل أن تسهّل الاستثمار وحركة البضائع والمواد التي تدخل إلى الضفة الغربية؛ ويجب على رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أن يعين شخصاً من مكتبه لتخطي القيود المفروضة على حركة الأشخاص والبضائع.

4 . لا بد للولايات المتحدة أن تركز على إدارة النزاع عوضاً عن حل النزاع، بحيث تدعم التدابير المهمة التي تغير الدينامية بين الإسرائيليين والفلسطينيين وتجعل ما هو مستحيلٌ اليوم – أي اتفاق وضع دائم – ممكناً مع الوقت. ويجب عليها بالتحديد أن تدعم الجهود الإسرائيلية لفتح المنطقة “ج” (أقسام من الضفة الغربية تحت السيطرة المدنية والأمنية الإسرائيلية الكاملة) أمام مشاريع الإسكان الفلسطينية والمجمعات الصناعية وملكية المقالع الحجرية، كل ذلك مقابل التزام السلطة الفلسطينية بإيقاف مساعيها على الساحة الدولية (على سبيل المثال، فيما يتعلق بـ “المحكمة الجنائية الدولية”).

5. ينبغي على واشنطن أن تقنع نتنياهو بأن يحرص على أن تجّسد سياسة الاستيطان الإسرائيلية التزامها بحل الدولتين. وبينما يصبح غياب الشرعية مشكلة أكبر لإسرائيل في أوروبا ومناطق أخرى من العالم، يجب على الحكومة أن تضع سياسة واضحة تبيّن للقادة الأوروبيين وكتلة التوافق الجديدة في الشرق الأوسط أنها لا تزال مؤمنة بحل الدولتين.

وباختصار، على الولايات المتحدة صياغة أهداف سياسية قابلة للتحقيق تعترف بالعوامل الجديدة والناشئة التي تتحكم بالتطورات الأخيرة في المنطقة.

—————————–

(*) معهد واشنطن