أي ثقافة عربية نريد..؟

هشام يحيى

إن تحقيق رسالة الأمة تتطلب استنهاض الثقافة العربية الإنسانية مع ما تحمله من معان و آفاق وأبعاد  ترتبط بتاريخنا وحضارتنا وفكرنا وخيالنا، هي الثقافة التي تتخطى حدود الثقافة الوطنية التي ولدت كمفهوم وظاهرة عامة ضمن سياق الوضعية الإجتماعية والتاريخية التي مرت بها شعوب الأمة العربية في فترة نضالها ضد الأستعمار من أجل تحررها وتحقيق سيادتها الوطنية من نير السيطرة الاستعمارية والنفوذ الامبريالي بكافة أشكالهما وأنماطهما.فهذه الثقافة على أهميتها لا يجوز أن تبقى منفصلة عن الثقافة العربية الإنسانية الأوسع والأشمل والقادرة على احتضان الثقافة الوطنية للبلدان العربية ضمن بوتقة الفكر العربي الغني بتعدد تجاربه ومنابع ثقافاته وحضارته.

فالثقافة الموروثة من كنف الإستعمار ومراحل عصر الإنحطاط والتخلف العربي كانت ولا تزال تشكل العنصر الإساس في منع التلاقي بين مكونات الشعب العربي، كما أنها كانت ولا تزال تشكل حجر الزاوية لي المؤامرات التي حيكت على مستوى العالم العربي لضرب مفاهيم العروبة المتنورة المنفتحة ومفاهيم الوحدة والعيش العربي المشترك بالإضافة إلى ضرب المفاهيم الإسلامية التي سقط من أجلها كبار القادة المسلمين الذين سقطوا في سبيل احقاق الحقق وارساء العدالة الإنسانية التي تحفظ التعدد والتنوع ضمن المجتمع العربي الواحد.

وضرب هذه المفاهيم الوحدوية للأمة لطالما تمثلت على سبيل المثال في المؤامرة التي سعت إلى استهداف المسيحيين وتهجيرهم من العراق وسوريا و وفي اكثر من بلد عربي وهذا الإستهداف أتى في سياق إعادة الوطن إلى عصر الجاهلية والفوضى والإقتتال وعدم الأستقرار، ومما لا شك فيه أن ثقافة تعميم الفوضى على مساحات واسعة في أكثر من بلد عربي  تأتي في سياق تفتيت وضرب قوة العرب ووحدتهم ليكونوا أكثر طواعية على في فرض الهيمنة والسيطرة على ثرواتهم الغنية في المنطقة وهذا الأمر بواقعيته من شأنه أن يضعف الدول العربية ويغرقها في براثن الفوضى التني تنهك كل قواها على جميع المستويات في حين أن اسرائيل الدولة العدوة للعرب تبقى قوية محصنة في ظل منظومة دولية منحازة للدولة العنصرية التي تزودها القوى العظمى بأحدث الأسلحة والطائرتات لتبقى الدولة المستطرة والمتفوقة بكل شيء في المنطقة على جميع العرب.

إن الثقافة الحالية السائدة في الدول العربية هي ثقافة الحفاظ على  الفوضى العربية، وهي ثقافة التشتت والتعصب والإنغلاق ويث نزعات الفرقة والإختلاف والتناحر بين أبناء الأمة الواحدة، وهي أيضاً  ثقافة خلق وإيجاد لكل طائفة أو مذهب في الأمة العربية قضية فيها ما يكفي من الأسباب التي تدفع أبناء كل طائفة ومذهب  ليقاتل ويسفك الدماء ولو كان ذلك على حساب الوحدة العربية وحتى لو كان ذلك عن قصد أو دون قصد يصب في مصلحة كاسرائيل كمستفيدة أولى لتواصل اعتداءاتها على الشعب الفلسطيني ومن ورائه وخلفه على جميع الشعوب العربية . وبالتالي إن الثقافة الحالية السائدة في الدول العربية هي ثقافة الإنزلاق نحو الصراعات والفتن العربية في حين العرب اليوم هم بأشد الحاجة إلى ثقافة تساهم في التفافهم حو قضاياهم المشتركة ليخرج الوطن العربي من محنه العصيبة بسلام يوفر الحياة الآمنة الكريمة إلى جميع المواطنين العرب الذين يتوقون إلى بناء مستقبل أفضل لأبنائهم، وهذا الأمر يستدعي وعلى خلفية ما يجري داخل العالم العربي من احداث جسيمة وخطرة أعلى درجات الوعي والوحدة والتضامن العربي لمواجهة ثقافة الصراعات والفتن السائدة و إعادة الإعتبار إلى الثقافة العربية الصحيحة والحقيقية التي توحد الأمة وتزرع التضامن والتكاتف بين جميع أبنائها.

من هنا نقول بأن للثقافة دورها الأساسي في توجيه مصير الشعوب ومن الخطأ جدا أن يتم النظر إلى الثقافة فقط من الجانب التعبيري والإنساني وحسب، كون الثقافة كمفهوم واصع تشكل قوة فاعلة مؤثرة في الإنسان وهذه القوة الفاعلة والمؤثرة بالإنسان يمكن استخدامها كسلاح خطير لتشكيل وعي الإنسان وتوجيه رؤيته وتحديد أفاق تطلعاته وأهدافه وهذا ما من شأنه أن يؤثر بشكل كبير في المجتمع من حيث الدفع في تطوير واصلاح هذا المجتمع أو المساهمة في تخلفة وانحطاطه وعرقلة أي مسار تغييري أصلاحي فيه وذلك على النجو الحاصل في مجتمعنا العربي حيث أن الفطريات الثقافية المولودة على هامش الثقافة العربية الأصلية كانت ولا تزال العائق الاساسي في عبور الأمة العربية من ضفة الجهل والتخلف إلى ضفة العلم والتقدم.

ففي عصر تنافس الثقافات الذي حل مكان الصراعات الإديولوجية القديمة، لا بد من الحفظ على ثقافتنا العربية وتحصينها واستنهاضها لمواجه التحديات  الثقافية التي  تتهدد مجتمعاتنا بهويتها وخصوصيتها وانتمائها، سيما أن الغزو الثقافي يعتبر سلاحا عصري جديد لغزو الشعوب من خلال ضرب وعيها أو تزييفه أو تسطيحه بجعل ادراك هذه الشعوب لحقيقة مصالحها ادراك منقوص ومشوب بظاهرة التأثر السطحي والإنفعالي البعيد عن العقلانية الواعية. وبالتالي إن الإختراق الثقافي ليس سوى جزءٍ لا يتجزأ من الصراعات السياسية التي تستخدم فيها الدول شتى الأسلحة  للفوز بها، وكم من الحروب التي قامت بها الدول الإستعمارية تحت شعارات نشر الحضار, وعليه، فإن الإختراق الثقافي ليس سوى سلاحا ناجعا للتحكم بمصير المجتمعات واللعب بأوضاعها في السياق الذي يجعل هذه المجتمعات خاضعة وتابعة للهيمنة السياسية والإقتصادية للدول التي تنجح ثقافتها في خرق ثقافة الأخرين من أفراد أو مجتمعات  وفرض أنماطها وسلوكياتها عليهم.

وضمن هذا السياق إن التحدي الأكبر أمام مسار استنهاض الثقافة العربية الشاملة والواسعة هو تقويض البنى الثقافية التي غرسها المستعمر في مجتمعاتنا العربية  لضرب أسس ثقافتنا ومنابعها وذلك لأهداف مرتبطة بفرض ثقافته ولغته وتاريخه وحضارته ضمن سياق تثبيت وضمان استمرار تحكمه وتسلطه ونفوذه السياسي وتعميم سيطرته الاقتصادية على البلاد المستعمرة وذلك من خلال أدواة التسلط الثقافي – والحضاري التي لا تنقل العلم والخبرة ولا القيم والفلسفة الثورية والتحررية والأخلاقية إلى الشعوب المستعمرة بل فقط ما يخدم منها مقاصده وأهدافه ومصالحه ووجوده في البلد التي يستعمرها.

لذلك أن المستعمر للبلاد العربية لم يوفر وسيلة من أجل طمس معالم الثقافة العربية وتشويهها من أجل غرس ثقافة بديلة عنها باعتبار أن الغزو الثقافي هو جزء لا يتجزأ من مشروع نهب البلاد الخاضعة للأستعمار ومثل هذا الغزو الثقاقي لا يزال خاضرا بقوة في حاضرنا على الرغم من زوال الحضور العسكري للمستعمر الذي نجح في ابقاء سيطرته ونفوذه على البلدان العربية المستقلة من خلال هذا الغزو الثقافي الذي أضعف ويكاد يطمس معالم الشخصية الثقافية العربية التي هي بتاريخها أعرق وأقدم من أي حضارة وثقافة أخرى يريد المستعمر أن يفرضها على الشعوب العربية كوسيلة لإبقاء نفوذه حاضرا دائما في بلادنا.

وأن أخطر ما في هذه الثقافة الهجينة التي غرسها المستعمر بين النخب وفي المجتمعات العربية والتي تكاد أن تصبح جزء أساسيا من ثقافتنا وتاريخنا ومن تركيبة مقومات شخصيتنا وحضارتنا، يكمن في هدفها الأساسي الرامي إلى  قتل الهوية العربية والتي تختزن في معانيها ورمزيتها لجامعة للأمة ماضي ثقافتها وتراثها الإنساني القادر على تصحيح ومعالجة  آلام الحاضر ومأساته  ومعاناته وعلى الدفع باتجاه بناء مستقبل عربي واعد بوحدة الشعوب العربية في تطلعاتها نحو الحداثة والعصرنة والتطور.

ان إعادة إحياء الثقافة العربية مجددا يتطلب قبل اي شيء مسح الغبار وإزالة التشويش عن ماضي ثقافتنا وأصالت تراثنا وحضارتنا الممتدة والمتجذرة في أعماق التاريخ الإنساني وصاحبة الفضل  الثقافي والحضاري بكافة مراحل تقدم وتطور الحياة الإنسانية على هذا الكون. وبطبيعة الحال، إن إعادة إحياء جذور الثقافة العربية يبقى أمرا حيويا كي تتمكن الأجيال الصاعدة من معرفة ماضي ثقافتها والإستفادة من عراقة وأصالة هذا المخزون الثقافي الإنساني في سبيل إحياء قدرات الأمة وإغناء نضالات الشعوب العربية بجذور الثقافة العربية الموجودة كتراث ثمين يمكن توظيفه لإغناء مشاريع الإصلاح النهضوية في الأمة .

 لا بد أن تعود نحو بواطن وجذر الثقافة العربية ليس للغرق في الماضي واسقاطاته أو من أجل سرمدته ضمن قوالب الثقافة المطلقة النهائية الجامدة، بل من أجل نفض الرواسب الثقافية الإستعمارية عن الثقافة العربية الحقيقية  لتبيان النفيس من الرخيص في ثقافتنا، ومن أجل أن تحتضن هذه الثقافة تجارب نضالاتنا ومعاناتنا التاريخية والحاضرة لعصرها ضمن قالت ثقافي عربي انساني جديد يطمس ثقافة الإستعمار وتشوهاتها كما يطمس ثقافة الأنظمة الديكتاتورية وانحطاطها، وأيضا يطمس  ثقافة المتطرفين والإرهابيين والتكفيريين الذي عاثوا فسادا واجراما وتنكيلا بأصالة  عروبة ثقافتنا وحضارتنا الإنسانية الشاملة والغنية.

أن تحرير  ثقافتنا العربية من جميع التشوهات والترهات والشواذات التي طفت عليها في زمن الإستعمار والإيديولجيات الإمبريالية والديكتاتورية والإرهابية التكفيرية هي مسألة أكثر من ضرورية وتتجاوز بأهميتها نضال الشعوب العربية للتحرر من نير الإستعمار السياسي والعسكري لبلداننا كون الإستعمار الثقافي الذي لا يزال يغزو عقول شبابنا وبعض مثقفينا ومفكرينا هو أخطر ما يتهدد هذه الأمة بالزوال، وكون أن هذا الإستعمار الثقافي كان ولا يزال يشكل السبب الرئيسي لإستمرار انحطاط أمتنا وتراجعها في كافة المجالات.

فالثقافة العربية النقية الصافية والأصيلة تبقى هي الأكفئ والأقدر على المستوى الفردي والمجتمعي والإنساني والمعرفي في التعبير بصدق وأمانة عن روحية الشعب العربي وأوضاعه التاريخية وتطلعاته الجامعة على تخطي الثقافات العرقية والطائفية والمذهبية المتطرفة التي يغذيها التعصب والإنغلاق والتقوقع المعادي للآخر، في حين أن الثقافة العربية الجامعة تبقى –  وبالرغم كل حروب الإلغاء التي سنت عليها لطمس معالمها وإلغاء وجودها التراثي والفكري الجامع باللغة والتاريخ والحضارة للشعوب العربية – الصخرة الوجودية و الحياتية الجامعة لتعدد وتنوع مكونات الشعب العربي بوصفه كلا واحدا في صناعة تاريخ ونضال ومجد واحد.ومثل هذه الثقافة العربية الجامعة ولو افترضنا بأنها غير موجودة وهي موجودة لكان يجب يجب على المثقفين والنخبويين العرب أن يصنعوا مثل هذه الثقافة التي يمكن نسج تجلياتها إنطلاقا من لغة الضاد الواحدة مرورا بالمسار التاريخي والوجودي والحضاري  المشترك بين كافة مكونات الشعب العربي الواحد.

ويمكن القول بأن أي تصور بديل عن قيام وإحياء هذه الثقافة العربية الجامعة العابرة لكافة الحواجز الطائفية والمذهبية والعشائرية الموروثة من الإستعمار الثقافي هو تصور مستحيل وهو تصور يجافي الواقع وضرورات التغيير والإصلاح في مجتمعاتنا. وعندما نتحدث عن تحرير ثقافتنا، نسارع لنقول بأن ذلك لا يعني أبدا بأننا لا نأخذا في عين الإعتبار بأن هناك تداخل طبيعي بين الثقافات الموجودة والقائمة على مر العصور إلا أن هذا التداخل يبقى محدودا ولا يصل إلى حد الخلط والمزج بين ثقافة وأخرى أو إلى حد إلغاء ثقافة لثقافة أخرى. فهذا الخلط والمزج أو الإلغاء لا يعدو سوى كونه غزو من ثقافة لثقافة أخرى بالتالي استخدام هذا الغزو في سبيل الغاء حضارات أخرى أو السيطرة عليها وما يزيد من خطورة ما يجري يكمن في التطور الهائل الذي شهده العالم على صعيد تقريب المسافات وتسهيل  وتسريع أدوات التواصل والإتصال بين كافة شعوب العالم الأمر الذي يمكن أي  ثقافة من كسر جميع الحواجز والدخول إلى المنازل والعقول والقلوب في سبيل غزو حضارة لحضارة أخرى وفرض سيطرة وهيمنة ثقافتها على حساب الثقافات الأخرى في العالم.

إن العولمة كواقع اقتصادي وسياسي واجتماعي تفرض نفسها ضمن التحديات الأساسية التي تواجه الثقافة العربية  وتهددها بالطمس والتشوه في حين أنه على المثقف العربي أن يبحث ويجتهد يعمل على حسن  استخدام أدوات عصر العولمة في الإطار الذي يكرس هوية الثقافة العربية كمنظومة فلسفية ورؤية عقلانية ومنهجية جدلية جامعة لدينامية الفكر وتطور المعرفة في العالم العربي،و حاضنة للسلوك الإجتماعي المادي والمعنوي العربي.

اقرأ أيضاً بقلم هشام يحيى

لهذه الأسباب لن ينالوا من وليد جنبلاط وحزبه وجبله!

الوفاء لقضية الشهداء…

قاتل الأطفال هو نفسه في غزة وحلب!

قناة التشبيح والأشباح!

ظاهرة التعنيف من أسباب تخلف مجتمعاتنا!

لبنان والمحاسبة السياسية

هل هو نبش للقبور أم تزوير للتاريخ؟

ميشال سماحة والمصير البائد

لبنان وقدر لعبة الأمم

ليس دفاعا بل انصافا للحقيقة ولوليد جنبلاط

6 كانون ثورة متجددة في عالم الإنسان

#الحراك_والاستقلال

ميثاقية أم غوغائية انتحارية؟!

#طفلة_الصحافة_المدللة

التدخل الروسي: آخر أيام الطاغية

#بدو_كرسي_لو_عمكب

ماذا يعني أن تكون “معروفيا” عربيا؟

معركة القلمون و”شيعة السفارة”

النخبة الممانعة وخطايا النظريات القاتلة..!

” توترات السيد”..!