الفلسطيني المقبول.. هو الفلسطيني المقتول

غازي العريضي (الاتحاد الاماراتية)

عندما احتلت إسرائيل أرض فلسطين، كانت الخطوة عملية إرهابية بامتياز. وعندما اتخذ القرار الدولي بالتقسيم وتأسيس دولة إسرائيل بـ «الشرعية الدولية» كان القرار اعتداءً على حق الشعب الفلسطيني، وباباً فتح للإرهاب الحقيقي، إرهاب الدولة المنظّم ليس على أرض إسرائيل فحسب، بل في كل المنطقة. وثمة ثابتان أساسيان نشرت حولهما مجلدات وهما:

الأول: إسرائيل لم تنفذ القرار الدولي كما هو بل ذهبت إلى احتلال المزيد من الأراضي والتوسّع وتهجير الفلسطينيين واقتلاعهم من أرضهم ورفض كل محاولات الحل والتسوية وإسقاط كل الجهود الدولية والإقليمية.

والثاني: ممارسة إسرائيل للإرهاب ليس فقط داخل الأرض المحتلة، بل على مساحة الدول العربية كلها، واحتلال أراضٍ عربية بما يخالف القرار الدولي من جهة، ويؤكد وجود نزعة الدولة الإرهابية في كل الاتجاهات من جهة أخرى.

وعندما فعلت إسرائيل ذلك في البدايات لم يكن ثمة «حماس» و«جهاد إسلامي» و«فتح» وفصائل فلسطينية مقاتلة داخل الأراضي المحتلة. وعندما لجأت إسرائيل إلى بناء مفاعلها النووي، لم يكن ثمة مقاومة فلسطينية في الداخل. وعندما شن العدوان الثلاثي على مصر، لم يكن ثمة مقاومة فلسطينية. كان كل ذلك لتكريس الاحتلال وفرض الأمر الواقع وإضعاف كل المحيط لتستبيح إسرائيل كل شيء وتثبت موقعها وتعبث بأمن المنطقة.

وعندما أمسك الشعب الفلسطيني بقراره وانطلق في حركة تحرير شعبية، كانت الإمكانات في الداخل بدائية. لا تؤثر في البنية الأمنية الإسرائيلية. لكنها كانت تؤسس لفكرة المقاومة السياسية والشعبية الإعلامية والدبلوماسية لتكريس حق الفلسطينيين في أرضهم.

المقاومة المسلّحة انطلقت من الخارج، حمّلت إسرائيل المسؤولية للدول التي تقيم على أرضها المقاومة وتنطلق منها، واعتدت عليها أكثر من مرة. وكان هناك جدال وانقسام داخل هذه الدول، بل في مراحل ومحطات معينة كانت مواجهات بين جيوش هذه الدول والمقاومة. نجحت في أمكنة في لجم العمليات (الأردن)، وفشلت في أمكنة أخرى (لبنان)، واستُغلَت بانضباط استثنائي (سوريا). ولا شك في أن ذلك مع كل الملاحظات التي يمكن إبداؤها على الأداء الفلسطيني على كل الساحات، أدخل القضية الفلسطينية إلى الأمم المتحدة، وجعلها قضية مركزية أساسية يتوقف على حلها أو عدم حلها الأمن والاستقرار في المنطقة بل العالم. هذه هي الحقيقة لأن هذه هي طبيعة القضية الفلسطينية بجوهرها.

لبنان كان له النصيب الأكبر في هذا الصراع، هو البلد الضعيف المستضيف للمقاومة، والذي دفع الثمن الأكبر.

عام 1981 تم توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار في الجنوب اللبناني بين إسرائيل و«المخربين» في منظمة التحرير الفلسطينية، كما كانت تسميهم الدولة العبرية بعد مواجهات وإطلاق الصواريخ الفلسطينية ومن الجنوب اللبناني والقصف الإسرائيلي الذي طاول بيروت. ولم يكن ثمة اعتراف رسمي بالمنظمة آنذاك. منذ توقيع الاتفاق برعاية الوسيط الأميركي «فيليب حبيب»، بدأت إسرائيل تستعد لاجتياح عام 1982، الذي وإلى حدود الـ 40 كلم كان يحظى بموافقة أو تغطية أو غضّ نظر دولي وإقليمي. حصل الاجتياح، ولم يكن ثمة أي مقاومة تذكر أو إدانة. لكن عند تجاوز «الحدود المتفق عليها» من قبل الإرهابي شارون، وفي سياق رهانات وحسابات معينة وظروف لبنانية عشوائية، ووصول الاجتياح إلى بيروت، وتدميرها وتجويعها وتعطيشها، تغيرت المعادلات. صحيح أن منظمة التحرير خرجت من بيروت وبسلاحها، لكن الصحيح أن مرحلة جديدة من الصراع والحرب في لبنان قد بدأت، وكان لسوريا التي هدد الجيش الإسرائيلي عاصمتها، وبات على مقربة منها، دور أساس فيها. بالنتيجة سحب السلاح الفلسطيني الأساسي وما تبقّى كانت حرب حوله في المخيمات في السياق ذاته. ومع ذلك بقي السلاح.

عام 2000 تم تحرير الأرض اللبنانية من دون شروط سياسية. المقاومة فرضت التحرير بعد تضحيات كبيرة.

عام 2006 كانت الحرب الكبرى. لم يكن للفلسطيني دور فيها، لكن كان لها تأثير عليه. بمعنى، بعد خروج الفلسطينيين ذهبوا إلى فلسطين. دخل الشهيد ياسر عرفات في مفاوضات مع الإسرائيليين، وصلت إلى أوسلو ثم اتفاق واشنطن ثم قيام سلطة فلسطينية في الداخل. بدأت المقاومة في الداخل تنظم نفسها، فالمواجهات مع الإسرائيليين بدأت بالحجارة والزيت المغلي والسكين ثم الكلاشينكوف ثم «المولوتوف» والقنابل المصنّعة بدائياً في الداخل ثم المضادات للدروع، إلى أن وصل الفلسطيني إلى تصنيع صواريخ وتهريب صواريخ نوعية وأسلحة قادرة على إصابة مواقع في داخل الأراضي المحتلة واستخدم الأنفاق لذلك. كان لحرب الـ 2006 أثر كبير في تعزيز إرادة الفلسطيني، الذي لا خيار له إلا المقاومة وفي البناء على سقوط أسطورة الجيش الإسرائيلي وهو قد قهر بالإرادة اللبنانية على أرض الجنوب.

كان القرار 1701 تحت عنوان نزع سلاح المقاومة لحفظ ماء وجه الإسرائيلي الذي أُعطي كل الفرص لحسم المعركة ولم يتمكن، وفي النهاية وواقعياً يعرف كل العالم أن المقاومة لا تزال تملك سلاحاً أكبر بكثير، وأحدث بكثير مما كان لديها قبل الحرب !

المهم، تطورت المقاومة في فلسطين. لأن إسرائيل رفضت كل الحلول. أقفلت كل الأبواب. لم تلتزم القرارات الدولية، ولم تنفذ الاتفاق مع «أبو عمار»، لم تسمح بقيام السلطة الفلسطينية بل تريدها صورية وشكلية. إسرائيل قتلت الإسرائيلي رابين لأنه ذهب إلى الاتفاق مع عرفات. ووافق على إقامة دولة فلسطينية. الإرهاب الإسرائيلي قتل إسرائيليين وطارد إسرائيليين يريدون السلام ومنع مؤرخين من التدريس في الجامعات الإسرائيلية لأنهم كشفوا زيف الشعار الذي بنيت عليه دولة الإرهاب «فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». إرهاب الحكومات الإسرائيلية التي أصرت على التوسّع والاستيطان وقتل الفلسطينيين، وكلما قبل هؤلاء بحل أسقطه الإسرائيليون. حاصروا السلطة، دخلوا إلى المقاطعة، دمروا بنيتها التحتية. ثم حاصروا رئيسها ورمز فلسطين سمّموه وقتلوه!

كل ذلك لنقول القضية ليست «حماس» وليست قضية «حمساوية» أو «جهادية» بمعنى محصورة بـ«الجهاد الإسلامي» أو تفتعلها هذه المنظمة. القضية هي القضية، أي القضية المركزية الأم، القضية الأساس، القضية الفلسطينية، قضية الشعب الفلسطيني الشعب الوحيد تحت الاحتلال في بداية هذا القرن، ومع هذا النظام العالمي الجديد. الشعب الذي تحتل أرضه ويُقتلع أبناؤها منها، ويقتل الآلاف منه وتدمّر مؤسساته وبناه التحتية، ويُهجر عشرات الآلاف، وترتكب المجازر بحق أطفاله، بحق الإنسانية، ولا تحترم الشرعية الدولية ولا الشرائع الدولية ولا المؤسسات الدولية وترتكب المحرقة وعملية الإبادة على الأرض وتنقل مباشرة على الهواء، ولا تكون إدانة، وتستمر المقاومة، وتسقط الإرادة العسكرية الإسرائيلية، وتصرّ إسرائيل على القتل، ويحدثونك عن نزع السلاح. نزع سلاح الفلسطيني في لبنان شيء، ونزعه في فلسطين شيء آخر، الأول ممكن، والثاني مستحيل. التحريض على مقاومة فلسطينية انطلاقاً من لبنان، هو ممكن وأحدث انقاسماً، والتحريض على مقاومة فلسطينية على أرض فلسطين شيء آخر. غير ممكن، هو حق مقدس.

الحديث عن اتفاقات غير مقبولة مع فلسطينيين «مخربين» على أرض لبنان شيء يمكن تسويقه، أما الحديث عن اتفاقات دولية وتحظى بالشرعية والتغطية والرعاية مع الفلسطينيين وسلطتهم الشرعية وعدم تنفيذها أمر لا يمكن الدفاع عنه. إسرائيل لم تلتزم القرارات الدولية، ولا الاتفاقات مع السلطة، وأكبر كذبة الحديث عن تحميل السلطة الفلسطينية المسؤولية. فقبل اندلاع الحرب الأخيرة كانت إسرائيل تتهم رئيس السلطة بأنه ليس شريكاً في العملية السلمية. ووصل الحديث إلى حد التلويح بتصفيته والتخلص منه تماماً كما جرى مع «أبوعمار». إسرائيل تحاصر السلطة، تصادر أموالها في الضفة وغيرها، وتمنعها من القيام بأي عمل. إسرائيل أسقطت خطة كيري. في السابق اتهم «أبو عمار» بالتنازل، واليوم يُتهم «أبومازن» بالتنازل، وهما لم يفعلا ذلك فعلياً بالنسبة إلى الثوابت وإسرائيل لم تقبل. إسرائيل تصرّ على دولة يهودية، أي أنها تُسقط حق العودة، ولن يكون حق بقاء فيها لأي فلسطيني. طمأنها أبومازن: لن نُغرق إسرائيل باللاجئين لم تقبل، وأصرت على غور الأردن، ورفضت وجود أميركيين وأطلسيين، فلا أحد يضمن الأمن الإسرائيلي إلا الجيش الإسرائيلي، قبل المقتول ولم يقبل القاتل. الفلسطيني المقبول هو الفلسطيني المقتول، هذه هي حقيقة وإرادة ونية وهدف إسرائيل…لكن حقيقة الفلسطيني تكمن في حقه الذي دافع عنه، وأسقط الإرادة الإسرائيلية، لم يتمكن الجيش من حماية الأمن الإسرائيلي، بل دبّ الرعب في قلوب الإسرائيليين، ولم يحقق الإرهابيون هدفاً مما أرادوه. هذا ليس دفاعاً عن «حماس» و«فتح» وغيرها من الفصائل، هذا دفاع عن فلسطين وحقها، وتأكيد لمنطق التصدي للإرهاب!