النجاح العسكري لـ «الدولة الإسلامية في العراق والشام»: تهديد متعدد الجبهات

 الأسابيع الأخيرة في المناطق الخاضعة له في العراق وسوريا. وتضمنت هذه:

– هجمات ضد المرافق الحكومية السورية، بما في ذلك إحكام السيطرة على قطاع النفط السوري.

موجة من التفجيرات بالسيارات المفخخة والتفجيرات الانتحارية توغلت عميقاً في أحياء العرب الشيعة في بغداد، وأظهرت مدى نطاق التنظيم وشبكات دعمه القوية حتى خارج المناطق السنية.

هجمات مزدوجة على الجبهة اليسرى (في جلولاء بالقرب من الحدود الإيرانية) والجبهة اليمنى (في سنجار وسد الموصل، عند المنطقة الحدودية الثلاثية لسوريا والعراق وتركيا) من خط الدفاع الخاص بـ «حكومة إقليم كردستان». وفي الموقع الأخير يبدو أن «داعش» ارتكبت المجازر بحق المدنيين من العرق اليزيدي.

وقد تكون هذه الأعمال العسكرية المتفرقة بظاهرها أجزاء متسقة من المرحلة المقبلة المخطط لها جيداً في حملة «داعش».

التركيز على بغداد؟

إن «داعش» – التي غيرت اسمها مؤخراً إلى «الدولة الإسلامية» عندما أعلنت الخلافة في أجزاء من العراق وسوريا – لا تملك أدنى فرصة للإستيلاء على بغداد، لكنها ربما تسعى إلى عزل المدينة. وهذا ما يبرر على الأرجح القتال الضاري الذي يدور شمال العاصمة وجنوبها، بعد أن وقع غربها، بما في ذلك مدينة الفلوجة، بالفعل تحت سيطرة «داعش». فلو أمكن قطع خطوط الاتصالات الرئيسية، وعلى الأخص لو أمكن تدمير الجسور – وفي هذا الصدد أثبتت «داعش» مهارتها في تنفيذ مثل هذه الإنجازات الهندسية خلال عملياتها شمال بغداد – تصبح المدينة حينئذٍ محرومة فعلياً من المواد الغذائية والوقود والمياه الصالحة للشرب، ويصبح سكانها “محاصرين”. وكان هذا الأمر نفسه على وشك الحصول عام 2004 على الرغم من وجود أكثر من 100 ألف جندي أمريكي في البلاد.

وفي الوقت نفسه، قد تشن «داعش» موجة تفجيرات أخرى وربما حتى أضخم من تلك التي وقعت في شهري حزيران/يونيو وتموز/يوليو لإرهاب السكان المحاصرين. وقد يكون الغرض من ذلك إرغام الحكومة العراقية على سحب قواتها من المناطق الاستراتيجية – من سد حديثة وحتى مصفاة بيجي – للدفاع عن بغداد؛ وإذا كانت «داعش» “محظوظة”، فمن الممكن أن يؤدي هذا الضغط الإرهابي إلى اندلاع أعمال إرهابية من قبل الميليشيات الشيعية ضد العرب السنة المتبقين في المدينة، تماماً كما حدث في الفترة 2006-2007. وبالنسبة لتنظيم «داعش»، ستكون هذه الحصيلة عاملاً استراتيجياً في تغيير قواعد اللعبة والحصول على ما تريده الجماعة تماماً – أي نزاع إقليمي بين الشيعة والسنة، مع تنامي دور «داعش» بصفتها حامي الأكثرية السنية. ولعل هذا السيناريو يبدو بعيد الاحتمال، لكن «داعش» لم تتقوى وتربح بهذه السرعة من خلال اتباعها السيناريوهات المنطقية.

الجبهة الكردية

خلال سقوط الموصل في حزيران/يونيو، قامت «حكومة إقليم كردستان» بسحب جيوشها بكفاءة أكبر من الجيش العراقي، ولكنها لم تنخرط فعلياً في القتال مع «داعش». وبعد ذلك، لم تكتفِ «حكومة إقليم كردستان» بوضع القوات في حالة تأهب على طول حدود “الخط الأخضر” الذي كان قائماً قبل الأزمة، إنما قامت بتوسيع هذه الجبهة الأمامية واحتلت كركوك وحقول النفط المهمة في شمالها، ثم زحفت جنوباً نحو المناطق المتعددة الأعراق من سنجار على الحدود السورية إلى جلولاء قرب إيران. لكن هذا الدفاع “الأمامي” تضمن السيطرة على مناطق تشمل عدد كبير من السكان العرب السنة، بعضهم متعاطف مع «داعش» أو مع الجماعات المتمردة التقليدية للعرب السنة العراقيين والمتحالفة مع «داعش». وفي هذه المناطق بالتحديد أحرزت «داعش» انتصارات ساحقة خلال الأيام القليلة الماضية، على الرغم من أن طفرتها الأمامية في جلولاء قد قُطعت على ما يبدو، وأن «حكومة إقليم كردستان» قد أعلنت عن شنها هجوماً مضاداً باتجاه سنجار. ومع ذلك، تملك «داعش» سجلاً جيداً بالاحتفاظ بالأراضي التي تحتلها، وحتى قوات البشمركة ستنهمك بشكل كامل في استعادة الأراضي.

فلماذا إذاً لم تتمسك البشمركة بقسمٍ من الأراضي التي سيطرت عليها حديثاً؟ على خلاف الكثير من وحدات الجيش العراقي، تملك عناصر البشمركة التحفيز اللازم – وفي أغلب الأحيان – التدريب والانضباط المتقنين. فهم موالون لحكومتهم الإقليمية ويشكلون الدرع بين «حكومة إقليم كردستان» ومناطق المتمردين. وأحد التفسيرات لذلك هو أن «داعش»، مع أن عدد مقاتليها ليس ضخماً، قوية من الناحية التكتيكية، ولا شيء ينجح في الحروب بقدر الانتصارات السابقة – وقد كان للتنظيم نصيبه الكبير منها خلال الأشهر الأخيرة. فالجماعة تنعم بفيضٍ من المعدات المستولى عليها ومخازن الذخيرة التابعة لمختلف الفرق العراقية، وأموال طائلة على ما يبدو من تهريب النفط والتبرعات ومصادر أخرى. كذلك عانى الأكراد من بعض السيئات، فهم منتشرين على جبهة تمتد ما يقرب من ألف كيلومتر، فيما تم استدعاء العديد من وحداتهم على عجل أو إعادة نشرها من مراكزها المعتادة على الجبهة. وفي جلولاء كانوا يحاربون في منطقة عربية بمعظمها حيث لم تكن الأكثرية تدعمهم. أما في سنجار فلم تكن الجغرافيا في صفهم، كونها أرضاً ناتئة معزولة تمتد عميقاً في الأراضي الخاضعة لسيطرة «الدولة الإسلامية» على مقربة خطيرة من معاقل التنظيم في سوريا.

وبالرغم من الصراعات السياسية المتواصلة بين أربيل وبغداد بشأن اقتسام السلطة وعائدات النفط، بدأت تبرز بعض التحالفات المهمة في إطار السعي إلى وضع حد [لتقدم] «داعش». فقد أفادت التقارير الصحفية أن بغداد قدمت الدعم الجوي للأكراد، بحيث تمكّنت الطائرات التابعة للقوة الجوية العراقية من استخدام مطار كركوك تحت إشراف قوات البشمركة من أجل ضرب «داعش». وقيل أيضاً إنّ الميليشيات الشيعية  قامت بالتفاوض لإرسال قواتها بالطائرات إلى السليمانية من أجل نقلها إلى القرى الشيعية الواقعة جنوب خط السيطرة الكردي. وفي الوقت نفسه، أفادت عدة تقارير عن وجود تعزيزات كردية سورية من «حزب الاتحاد الديمقراطي» تحارب «داعش» في منطقة سنجار على الرغم من الخلافات السياسية التي وتّرت العلاقات بين العديد من الأكراد العراقيين والسوريين على مدى سنواتٍ عديدة.

التداعيات على المصالح الأمريكية

لا تزال «الدولة الإسلامية في العراق والشام» تظهر فطنتها الاستراتيجية. فإلى جانب النكسات الحادة التي وجّهتها إلى الأكراد والحملة التي تشنها في بغداد وحولها، يركز التنظيم اهتمامه على البنى التحتية الرئيسية – السدود والمصافي وحقول النفط – التي يمكن استخدامها لتوليد السيولة وممارسة السلطة والسيطرة السياسية. وفي بعض الحالات، يمكن استخدام هذه البنى التحتية كسلاح. على سبيل المثال، إن السيطرة على سد حديثة قد تتيح له قطع كمية كبيرة من الكهرباء عن محافظة الأنبار وخارجها. كما أن فتح السدود، كما فعلت ذات مرة بالقرب من الفلوجة، قد يعرّض المناطق الشيعية عند مجرى النهر لخطر الفيضانات. وعلاوة على ذلك، من خلال السيطرة على طرقات النقل المفصلية مثل سنجار وتلعفر، ضَمَن تنظيم «الدولة الإسلامية» قدرته على تحريك قواته وإمداداته بسرعة ذهاباً وإياباً ما بين “الجبهات” السورية والعراقية. وفي النهاية، فبينما يبقى الهدف الرئيسي لـ «داعش» هو عزل بغداد باعتبارها “محطة” على الطريق المؤدي إلى حرب طائفية إقليمية، لا شك في أن «داعش» تضع عينها على كركوك وحقولها النفطية، التي تُعتبر حقول النفط الوحيدة على المستوى العالمي بالقرب من المناطق العربية السنية في البلاد.

ولا بد لكل هذه التطورات أن تأتي في طليعة اهتمامات الحكومة الأمريكية. ففي النهاية، كان الرئيس الأمريكي قد أعلن في 19 حزيران/يونيو أنه لا يمكن القبول بدولة «داعش»، وأرسل عسكريين وصل عددهم الآن إلى ما يقرب من 800 شخص لمساعدة العراقيين وحماية الأمريكيين المتبقين في بغداد. واليوم تشغّل الولايات المتحدة خليتين موحدتين للاستخبارات العسكرية في بغداد وأربيل. ولا شك في أن المساعدة الاستخباراتية المعززة والمشورة القتالية التي قدمتها الولايات المتحدة تلقى تقديراً كبيراً، ولكن يجب بذل المزيد من الجهود. فواشنطن تعطي الذخيرة للجيش العراقي إنما ليس للأكراد، مع أن الأكراد بحاجة للذخيرة ولا سيما للدبابات والمدفعيات التي تعود إلى الحقبة السوفياتية التي استولوا عليها في 2003. إنهم بحاجة إلى المزيد من الأسلحة الثقيلة والحديثة أيضاً، فضلاً عن التدريب والذخيرة لتصبح هذه الأسلحة فعالة.

وما يوازي ذلك أهمية هو أنه يجب على الولايات المتحدة أن تضرب «داعش» جواً حين تهدد هذه الأخيرة حلفاء أمريكا السابقين من العشائر السنية الموجودة حول سد حديثة والرمادي، أو حين تهاجم مواقع البشمركة، أو حين تهدد بغداد. ولا تعني هذه العمليات أنها تخدم سلاح الجو الطائفي التابع لرئيس الوزراء نوري المالكي: وإلى أن يتّضح الوضع السياسي في بغداد، فبالتأكيد يجب أن تكون مثل هذه الضربات محدودة ومقتصدة تحضيراً [لقصف] أهداف تنظيم «داعش» ذات القيمة العالية. لكن الضربات المحددة التي قد توجهها الولايات المتحدة على المدى القريب ستزيد من نفوذ واشنطن وتأثيرها على العراقيين بكافة أطيافهم الطائفية والعرقية. هذا وتضرب الولايات المتحدة عناصر تنظيم «القاعدة» في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، من باكستان إلى ليبيا والصومال. ونظراً إلى الوصف الذي قدمه كبار المسؤولين الأمريكيين، بمن فيهم مدير الاستخبارات الوطنية جيمس كلابر الابن والمدعي العام إريك هولدر، حول المخاطر المتنامية التي تسببها «داعش»، فلا ينبغي تأخير هذه الضربات حتى لحظة واحدة أكثر.

 ————————————————–

(*) جيمس جيفري/ معهد واشنطن