الجغرافيا ومصالح أميركا وإسرائيل

غازي العريضي (الاتحاد الاماراتية)

في بداية شهر يونيو عام 1976، أرسل العميد «ريمون إده» أحد أبرز الشخصيات السياسية اللبنانية في ذلك الوقت المنتقد للسياسة الأميركية والمنبّه إلى خطر تقسيم لبنان، وتحقيق الحلم الإسرائيلي بدعم أميركي، رسالة إلى وزير الخارجية الأميركي الشهير هنري كيسنجر يتهمه فيها شخصياً بالسعي «لإقامة دولة مسيحية في لبنان ونسف صيغة العيش المشترك»، وبأن «لبنان صائر إلى الزوال بسببه»، وأن «الشعب اللبناني لن يقبل بالفناء لكي تعيش إسرائيل». وأن الخطة السرية لكيسنجر تقوم على «منح لبنان إلى سوريا لتحقيق السلم في المنطقة».

بعد أيام ردّ الوزير الأميركي على العميد «إده» برسالة مما جاء فيها: «ثق بأننا حاولنا مراراً وتكراراً أن نتآمر على أنظمة عديدة في العالم العربي – ولا نزال – وإنما باءت محاولاتنا بالفشل. لماذا؟ لأننا اصطدمنا بمقاومة وطنية وبمناعة داخلية. والزلازل لاتحدث إلا في الأرض المشقوقة، ولا أكتمك أن لبنان هو بلد مثالي لتحقيق المؤامرات ليس ضده فقط، وإنما ضد العالم العربي ككل. من هنا اكتشفت أن في تناقضاته عناصر جديدة لنصب فخ كبير للعرب جميعاً»! وأضاف: «لقد أبلغني الرئيس فورد مرة بفرح، أن النجاح الذي حققته خطتي في لبنان قد غطى على الأخطاء التي اقترفتها في تشيلي وقبرص وبنجلاديش وأنجولا. وأنا شخصياً ما كنت أتوقع هذا النجاح، صحيح أن وجود إسرائيل وسّع حجم العمل. لكن التناقضات اللبنانية هي التي كانت تؤمن لنا استمرار الخطة وسلامتها. مرة واحدة يا عزيزي حدث خطأ عربي – أوروبي كاد يجمّـــد حركة العملية وسارعت بإرســــال دين براون (وهو مهندس اختصاصي بعمليات الشرق الأوسط)، ولقد كشف بسرعة موضع الخلل، ثم أعاد ضبط الجهاز الكبير الذي يحرّك الأمور حسب الأهداف المطلوبة والخطة المرسومة! وقد تسأل يا مستر «إده» عن طبيعة الخطة. لا أكتمك أنني بدأت بشيء ثم انتهيت بشيء آخر. كان همي الوحيد أن أُبعد الاتحاد السوفييتي عن مجال التدخل، والحسم والمشاركة في حل أزمة الشرق الأوسط، كما أسعى إلى تأجيل مؤتمر جنيف، والاعتراف بمنظمة التحرير إلى ما بعد انتخابات الرئاسة الأميركية والانتخابات النيابية في إسرائيل إلى مدة سنتين على الأقل، ثم تشعّبت مطامحي بعدما رأيت أن خصوبة الأحداث الدامية في لبنان قد أسقطت صيغة التعايش المطروحة، وبعد أن بدا لي أن ما كان يحلم به «موشى شاريت» عندما كتب رسالته الشهيرة إلى بن غورويون ( 18-3-1954) أصبح سهل المنال. فقد تحدث الرجلان يومها عن وجوب تقسيم لبنان إلى دولتين طائفيتين. دائماً دعني استعمل عبارة «شاريت» حرفياً – لا جدوى ولا فائدة في محاولة إثارة حركة في الخارج، إذا لم يكن تعزيز روح حية إذا كانت تنبض من تلقاء نفسها، وليس من الممكن بعث الروح في جسد لا تبدو عليه دلائل الحياة – لذلك أريدك يا مستر «إده» ألا تجعلني مسؤولاً عن خطة كانت إسرائيل تمهد لها منذ 1954. صحيح أنني أفكر بخلق دويلات شبيهة بإسرائيل بعدما فشلت في إقناع الدول العربية بفكرة الصلح الانفتاحي، وفي قبول هذه الدولة الجديدة جزءاً من المنطقة. لكن الصحيح أيضاً أن الأحداث الدامية التي افتعلناها أمنت لنا أرضية مثالية لتقسيم النفوس الموحدة وتدمير صيغة التعايش وإحداث خلل أساسي في النظــام الديموقراطي الوحيد في المنطقة، لقد أصبح لبنان عبئاً على الغرب لكثرة ما أعطت حريته من أفكار كانت تستعمل ضدنا وليس ضد دول المنطقة، لهذا قررت إلغاء هذه الحرية وأن أجعل نظامه ذليلاً». وأضاف كيسنجر: «إنني أتطلع إلى جغرافيا العالم من خلال مصالح أميركا، ومن خلال مصالح إسرائيل في المنطقة. إن الحرب في بلادكم لن تتوقف إذا هددت أمن إسرائيل، وأخيراً: أذكرك بعبارة ملهمي مترنيخ «البعض يصنعون التاريخ والبعض يكتبونه، أنا شخصياً قررت أن أكون من صانعي التاريخ».

أستذكر هذه الرسالة لأذكر الناس بها علـّنا نتعلّم، نتعلّم الخروج من سيطرة فكرة المؤامرة علينا والركون إليها، وتضييع الوقت في الحديث عنها دون أن نفعل شيئاً. ونتعلّم كيف نتجاوز أخطاءنا، ونتعلّم تكوين جهاز يحرّك الأمور وتطويره ومراقبته لتفعيله دائماً، ونتعلّم كيف نحمي وحدتنا ونمنع تقسيم نفوسنا وعقولنا وإمكاناتنا، وبالتالي نمنع تشقق أرضنا مما يتيح حدوث الزلازل بشكل سهل ودوري!

نعم، ها هو كيسنجر يعترف بالتآمر على الدول العربية، وبالعمل على خلق دويلات في المنطقة، وبوجود جهاز يدير هذه العملية، وعندما أخطأ الجهاز كلف مهندسا شاطرا بإعادة ضبط الحركة وإيقاعها وتوجيهها في الاتجاه الصحيح. ويعترف بأنه لو لم يحصل التقسيم الجغرافي في مرحلة معينة وتحديداً في لبنان، فإن التقسيم في النفوس قد حصل. وهذا بحد ذاته يؤدي إلى صراع دائم مفتوح، وفي اللحظة المؤاتية يعيد إحياء مشروع تقسيم الجغرافيا، التي لا قيمة لها في نظر كيسنجر ولا يتطلع إليها إلا من خلال مصالح أميركا في العالم ومصلحة إسرائيل في المنطقة. إذاً، كل شيء قابل للتغيير في سياق تأكيد هذه المصالح!

تغيرت الإدارات، تغير الرجال، لكن الجهاز لم يتغير، ربما تعثّر في فترة، ربما أخطأت راداراته في فترة، ربما خرجت الأمور عن مسارها في مناطق معينة، ربما كانت مفاجآت، لكن الجهاز موجود يعيد ضبط الأمور. فالرؤية لم تتغير والقناعة لم تتغير والمشروع لم يتغير. لكن الأخطر اليوم، هو أننا لا نقرأ، وإذا ذكرنا صاحب المؤامرة بدوره لما واجهنا أنفسنا وأبدينا الاهتمام المطلوب، ألا نرى اليوم تقسيماً في النفوس وتقسيماً للنفوذ على قواعد دينية وعرقية في أكثر من دولة؟ ألا نرى اليوم تشققات في أرض دولنا وزلازل متنقلة وبراكين متفجرة هنا وهناك؟ ألا نرى أجساد دولنا لا تبدو عليها دلائل الحياة؟ ألا نرى ونسمع قادة أميركا يتحدثون عن مصالحهم، ولو أدى ذلك إلى تغيير التحالفات والذهاب إلى من كانوا يسمونه «محور الشر» والتفاهم معه؟ ألا نرى تركيباً وحماية لديكتاتوريين هنا وهناك، وتقاتلاً مع أنظمة مستبدة في أكثر من مكان، وكل ذلك من أجل التغيير والديموقراطية، وبكل وقاحة لأن مصالح أميركا وإسرائيل تقتضي ذلك؟ ألا نرى «جغرافيات» تتغير – والأميركيون مرتاحون، والإسرائيليون يعبّرون بفرح ويطالبون بتكريس ذلك؟ – ألا نرى مشروع الدويلات الذي أشار إليه كيسنجر يتحول واقعاً على الأرض في بعض المناطق؟ ألا نرى اليوم أن الحروب لن تتوقف في دولنا ما دامت تهدد أمن إسرائيل؟ وأن الأسلحة التي تهدد هذا الأمن قد سلمت طوعاً؟ وأن كل ما يجري هو لمصلحة إسرائيل؟ وأن الإبادة الجماعية باتت حقاً مشروعاً تمارسه إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، لأن أمن ومصالح إسرائيل فوق كل اعتبار؟ ألا نرى أن بعض قادة أميركا وإسرائيل يريدون صنع التاريخ الأسود وفق برامجهم ومصالحهم ورؤيتهم للمستقبل، وأننا نكتفي بالحديث عن ذلك وأحياناً لا نكلف أنفسنا حتى كتابة هذا التاريخ؟

المتآمرون يعلنون عن أنفسهم، وعن خططهم وأهدافهم وعن نظراتهم لواقعنا ولدولنا وعقولنا وأفكارنا وسياساتنا وسياداتنا على أراضينا ولأرضنا المشقوقة، ونحن لا نزال نبحث في أعماق هذه المؤامرات وعن أصحابها وغاياتها وننجرّ إلى لعب الأدوار التي يريدها لنا الآخرون. لقد بتنا أسرى أحقادنا وحساباتنا الضيقة وأخذتنا المؤامرات إلى ملاعبها!