إسرائيل ومحرقة العصر في غزة

د. قصي الحسين

أنشأت إسرائيل دولتها في العام 1948 وفرضتها على الفلسطينيين بالمذابح المروعة. ومذبحة دير ياسين ومذبحة كفر قاسم، من المذابح الإسرائيلية الّتي أجلت بها الفلسطينيين في عام النكبة عن ديارهم ومدنهم وقراهم. وقد جندت لذلك عصابات النخبة واعتمدت عليها. وتولت فرق الموت والموساد قتل الفلسطينيين وترويعهم وإبادتهم وسوقهم قسراً إلى المنافي. وتولت أيضاً متابعة القيادات الفلسطينية واغتيالها حيثما لجأت وحيثما تكون. وحيثما تهرب. واستقرت نظرية البنيانية الإسرائيلية دولياً، على التخلص من كل فلسطيني. وقد شكل ذلك عقيدة لها خلال نصف قرن. مما غلّب عندها الروح العدوانية على الروح الإنسانية. والروح الاستفزازية القهرية على روح الاعتدال والمسالمة والمسامحة.

وتلطخت بالدم سمعة الدولة الاولغارشية السبارطية الناشئة بالنيران وبالعدوان وانعكس ذلك على التربية الإسرائيلية وعلى الكتابات الإسرائيلية وعلى المجتمعات الإسرائيلية وعلى المستوطنات الإسرائيلية وعلى السياسات الإسرائيلية.واتصل ذلك بنفوس الأجيال وتأصل وتعمق لدى الشباب والشابات. وطغى هذا الأمر كذلك على الأحزاب السياسية الإسرائيلية وعلى القطاعات العامة المدنية والعسكرية. وتحكمت فيهم عقد الكراهية والحقد الأعمى، وعقد الحرب الدائمة بدل السلم الدائم. فخرج المجتمع الإسرائيلي جيلاً بعد جيل إلى العسكرة والقوة الغاشمة وعقيدة سحق الخصم بالضربة القاضية، بدل السكينة إلى الحياة الإنسانية الطبيعية.

وخلال ستين عاماً تقريباً، أوقعت إسرائيل بالفلسطينيين حروباً يومية وحروباً سنوية. وقد انتهجت فيها جميعاً نهجاً حلزونياً. ورصدت لذلك آلة القتل المناسبة، أدارت بها سياستها في القتل والتهجير داخل الأرض المحتلة وخارجها. فاخترعت الحرب الاستباقية على الفلسطينيين الّتي تجاوزت حروب المباغتة. ووضعت يدها بالحديد والنار على المخيمات وعلى الأرزاق وعلى الأراضي وعلى الحدود وعلى الجوار وعلى الماء وعلى المناهج والمدارس والجامعات والكنائس والجوامع، ضاربة عرض الحائط بكل المعاهدات وبكل الاتفاقيات وبكل القوانين الدولية والشرائع الإنسانية.

ومثل هذا التاريخ الدموي الّذي نشأت فيه الدولة العنصرية، ومثل هذه الطقوس من الاعتداءات والحروب الّتي تربت فيها الأجيال الإسرائيلية، هي الّتي غلبت كفة الصقور على الحمائم في إسرائيل. وهي الّتي غلبت كفة اليمين على اليسار، حين جعلت من الحرب قسمتها الإلهية.

وخلال العقود الأخيرة، عمت رؤية اليمين إلى العالم داخل المجتمع الإسرائيلي. ولم يلحق اليمين الهزيمة باليسار الإسرائيلي، بل قاد إسرائيل نفسها إلى صنع محرقة غزة اليوم، محرقة العصر. وعزز من صورة الفاشية الإسرائيلية ومن سقوطها الأخلاقي. ومن صورة المجتمع الإسرائيلي المشبع بروحية النـزعات النازية والسلوك الفاشي ضد عموم أهالي غزة، بحيث بات مشبعاً بروح الغطرسة. وقد جاء قتل الفتى المقدسي الفلسطيني محمد أبو خضير حرقاً بالنار وهو حي، ليجسد عمق الأزمة النفسانية المجرمة وعمق الأزمة الأخلاقية والدينية والانسانية الّتي تعاني منها إسرائيل بعامة واليمين الإسرائيلي بخاصة.

وعطفاً على ذلك فإن استهداف أربعة أطفال من عائلة واحدة كانوا يلهون على شاطئ بحر غزة بالقرب من استراحة الشراع، من قبل زورق اسرائيلي، لمما يشهد على العقلية النازية المستبدة بالجنود الإسرائيليين. وقد تجاوزت إسرائيل ذلك من خلال إبادة عائلات كاملة، بالعشرات على شواطئ بحر غزة وداخل أحيائها المكتظة بالسكان. وهذا يدل على أن إرهاب الدولة الصهيونية بات إرهاباً متجذراً. وأن عنجهية القوة والغطرسة والقتل والسادية تقوى يوماً بعد يوم في المنطق الإسرائيلي، بحيث أمسى معها إرهاب المستوطنين ومجموعات الاستيطان متفشياً داخل الكيان الإسرائيلي برمته.

وتنادى اليمين الإسرائيلي بشقيه العلماني والتوراتي ومعه اليسار الصهيوني لحث حكومة نتنياهو لالتقاط الفرصة والفتك بقطاع غزة. أما حزب ليبرمان الأكثر أهمية في صناعة القرار في إسرائيل كوزير للخارجية في حكومة ائتلافية يسيطر عليها تحالف قوى اليمين واليمين المتطرف، فهو وراء عمليات القتل والإبادة. وهو أيضاً وراء محرقة غزة اليوم. فمواصلة قصف غزة بقوة النيران من الطلعات الجوية والزوارق البحرية والمدرعات والدبابات، ليست لتأديب حماس والجهاد، بل لحرق غزة بالكامل.

بهذا المعنى، وعلى هذا الايقاع كانت جريمة إسرائيل المنظمة ضد الشعب الفلسطيني منذ العام 1948 والتي حملت عليه خلالها بثماني حروب: 48 و56 و67 و73 و80 و2006 و2012 و2014 واحتلت لإذلاله، المخيمات في الضفة والقطاع. وأغارت بأسرابها العسكرية وبوارجها الحربية ودباباتها ومدرعاتها على مخيمات اللجوء في لبنان. وانتهكت حرمة الأراضي اللبنانية والسورية والعراقية براً وبحراً وجواً.

وها هو رئيس حكومة إسرائيل نتانياهو يسارع من خلال حملته العسكرية الطاغية على غزة: “الجرف الصامد” إبادة المدنيين الغزاويين وصنع محرقة العصر بيديه، محرقة غزة الأبية والمجاهدة، دون أن يعير اهتماماً لدعوات التهدئة ومبادرات السلام، وكأنه يختار أن يطوي طريق السلام مع الفلسطينيين إلى الأبد، حتى بات من يقول له من الإسرائيليين أنفسهم: كيف نسارع إلى رمي الطلاق على السلام بصنع محرقة العصر للشعب الفلسطيني، بدل صناعة الأمل بالسلام، ومستودعه هو جلاء الشعبين اليهودي والفلسطيني على صورة معقولة، حين تخبو نيران الحرب، فينسج “نسيج الحياة من جديد، ويربى الأطفال من غير خشية الموت. وتدور الحياة من غير أن تسلط عليها مهانة الاحتلال والخوف من الارهاب “( ديفيد غروسمان – كاتب وروائي اسرائيلي: والمقبوس من مقالته: اليمين هزم إسرائيل: الحياة ص 14: 23/7/2014).

————————————-

(*) أستاذ في الجامعة اللبنانية

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث