حكمةٌ في العمليات وسط معاناة في الاستراتيجيات

 للوهلة الأولى قد تبدو المواجهات الحالية بين إسرائيل و «حماس» مجرد جولة عسكرية أخرى بين الطرفين. لكن عدداً من أوجه الاختلاف البارزة، خصوصاً في ما يتعلق بالعزل الإقليمي الذي تعانيه حركة «حماس» وتنمية قوتها على مدى عقد من الزمن وتطوير استراتيجياتها وتكتيكاتها العسكرية، يميز عملية “الجرف الصامد” الإسرائيلية عن العمليات السابقة. وفي حين قد يكون من السابق لأوانه استخلاص الاستنتاجات الاستراتيجية من العملية الراهنة، يمكن الاتعاظ من بعض النقاط الرئيسية للمستقبل. وعلاوة على ذلك، بما أن التنظيمات الإرهابية الأخرى في المنطقة تسعى لاستقاء الدروس من هذا الصراع، تصبح مهمة تحليل أعمال «حماس» منذ اليوم الأول أكثر أهمية.

العزلة السياسية

كانت «حماس» تعاني وضعاً سيئاً من الناحية السياسية والمالية واللوجستية قبل بدء “عملية الجرف الصامد”. وبادئ ذي بدء، أنّ أكثر من 40 ألف موظف في القطاع العام في غزة لم يتقاضوا رواتبهم منذ أشهر، بينما فشلت عملية المصالحة مع حركة «فتح» في إحراز أي تقدم حول القضايا الجوهرية. ومنذ إخلاء مكاتب الحركة في دمشق، انقطع الدعم الإيراني عنها، ناهيك عن أنّ أهم حلفائها في السنوات الأخيرة – حكومة الرئيس محمد مرسي المصرية – استُبدلت بنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي لا ترتبطه أي صداقة بـ «الإخوان المسلمين». وبشكل أكثر تحديداً، أدت الحملة التي استهدف بها الرئيس السيسي الأنفاق إلى شل قدرة «حماس» على إبقاء الأموال والسلع والأسلحة تتدفق بحرّية إلى قطاع غزة.

وإلى جانب هذه التحديات، تراجع الدعم الشعبي لحركة «حماس» بشكل ملحوظ، وفقاً لما كشفه استطلاع للرأي أجراه معهد واشنطن مؤخراً. وعلى هذا الأساس، وجدت القيادة العسكرية للحركة أن العملية العسكرية هي وسيلتها الوحيدة لتغيير الوضع القائم والاحتفاظ بالدعم المالي والسياسي. فـ «حماس» لم تبدأ بإطلاق الصواريخ لمجرد ابتزاز إسرائيل وإجبارها على تقديم التنازلات، بل أرادت في الوقت نفسه الضغط على كلٍّ من مصر والرئيس الفلسطيني محمود عباس بشكل غير مباشر عبر إسرائيل. ويتمثل أحد الأهداف الرئيسية للحركة بفتح معبر رفح والسماح بتدفق الأموال والسلع إلى غزة وبالتالي تعزيز الدعم السياسي لها. ووفقاً لحسابات «حماس»، كان التفاوض بالسلاح خيارها الوحيد.

الحكمة في العمليات

برهنت «حماس» في جولة القتال الحالية عن إحراز تحسن في ثلاثة أبعاد عسكرية كبرى. البعد الأول ينطوي على اتخاذ زمام المبادرة، وهي خطوة استفادت منها «حماس» بشكل فائق إذ أنها منعت ضمنياً إسرائيل من شنّ ضربة أولى مفاجئة وفعالة. وبالفعل فقد ثبت أن قدرة “سلاح الجو الإسرائيلي” على شن الضربة الأولى تشكل ميزة رئيسية في نجاح العمليات الإسرائيلية الأخيرة. ففي عملية “الرصاص المصبوب” التي شنتها إسرائيل في شتاء 2008-2009، أدت ضربتها الأولى التي استمرت مدة 3 دقائق و40 ثانية إلى قتل ثلث المقاتلين الذي قُتلوا خلال العملية بأكملها. وفي عملية “عامود السحاب” التي نفذتها في تشرين الثاني/نوفمبر 2012، نجحت الضربة الإسرائيلية الأولى بالقضاء على معظم صواريخ «حماس» البعيدة المدى. كما أدت الضربة المبكرة خلال عملية “عامود السحاب” إلى مقتل قائد الجناح العسكري لحركة «حماس» أحمد الجعبري. لكن يبدو هذه المرة أن الجناح العسكري للحركة كان قد أتم استعدادته لضربة إسرائيلية مضادة. فقد اختبأ القادة العسكريون تحت الأرض، وحرصت الوحدات اللوجستية على تأمين الحماية للأصول القيّمة، وانغمست الحركة في معركة مطولة.

أما البعد الثاني الذي يبين تقدم «حماس» بالمقارنة مع المواجهات السابقة فيتعلق بمنهج “اقتصاد الصواريخ”. فمنذ نهاية عملية “عامود السحاب” في أواخر 2012، عمدت «حماس» والتنظيمات الإرهابية الأخرى في غزة إلى مضاعفة ترسانة صواريخها، مما أتاح لها إطلاق نحو 120 صاروخاً ذات مدى متفاوت يومياً. وقد نجحت «حماس» فعلاً بمفاجأة الإسرائيليين بمدى صواريخها – وتحديداً صاروخها أر-160 (الذي يعرف أيضاً باسم M-302 السوري ويُزعم أنه قد أُرسل من قبل إيران) حين أرغم الإسرائيليين في المناطق الوسطى والشمالية من البلاد على الاحتماء في الملاجئ. فإطلاق العديد من هذه الصواريخ على أهداف متنوعة أتاح لـ «حماس» السعي إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية، وهي: (1) استهداف أكبر عدد ممكن من السكان الإسرائيليين بالقصف الصاروخي بشكل متواصل؛ (2) محاولة تخطي طاقة الاستيعاب القصوى لنظام الدفاع الجوي الذي يعرف باسم “القبة الحديدية” من خلال وابل قصف مكثف؛ (3) الإثبات بأن «حماس» قادرة على الوقوف على قدميها في المعارك حتى لو كانت إسرائيل تنفذ عملياتها في غزة.

والبعد الثالث هو أن العملية البرية الإسرائيلية كشفت شيئاً فشيئاً عن البنى التحتية المعقدة للأنفاق التي طورتها «حماس». وحتى الآن، كان “جيش الدفاع الإسرائيلي” [“الجيش الإسرائيلي”] قد عثر على عشرات الأنفاق التي تمتد على مسافة 2 إلى 3 كلم مع تشعبات متعددة. ومن الناحية الهجومية، تتيح هذه المنظومة من الأنفاق لإرهابيي «حماس» التسلل إلى إسرائيل ومحاولة ارتكاب مجازر جماعية في الكيبوتسات [القرى التعاونية]. والهدف الهجومي الثاني منها هو السماح لوحدات «حماس» القتالية بتطويق القوات الإسرائيلية في غزة ومن حولها والهجوم عليهم من الخلف – وهذه نقطة ضعف عسكرية معروفة. أما من الناحية الدفاعية، فمن شأن منظومة الأنفاق الممتدة تحت الأرض في المناطق المأهولة في غزة أن تمكّن إرهابيي «حماس» من التنقل بحرية بين مركزٍ وآخر متجنبين بذلك التعرض لاستهدافات “الجيش الإسرائيلي”. وبالتالي تمنح هذه الأنفاق قدرة أكبر للجماعة على الصمود خلال المعارك فيما تتحدى مركز “الجيش الإسرائيلي” في غزة.

وبالإضافة إلى تقدمها العملياتي، أثبتت «حماس» مرة أخرى الدور المحوري الذي يلعبه الاستشهاد في عقيدتها واستراتيجيتها العسكرية. ففي الآونة الأخيرة، تسبب انتحاري بإصابة عدد من المهندسين العسكريين في “الجيش الإسرائيلي” حين فجر نفسه بالقرب من جرافة مدرعة. بالإضافة إلى ذلك، إن الإرهابيين الذين تجندهم «حماس» وترسلهم إلى الحدود الإسرائيلية يدركون جيداً مصيرهم المحتمل.

على الصعيد النفسي، انخرطت «حماس» في عمليات دعائية وإعلامية هدفها نشر صورة النصر والإنجاز الجديد. ففي الحروب غير المتماثلة على غرار هذه الحرب، يتعين على الطرف الأضعف أن يعظّم ويضخم إنجازاته من أجل إقناع جمهوره المحلي وداعميه في الخارج بنجاحاته. وهذه مفخرة نجح بها «حزب الله» خلال حرب لبنان عام 2006، من خلال حملاته الدعائية الخلاقة، مما ساعده بشكل كبير على تعزيز دعم الدول العربية له. واليوم تحذو «حماس» حذوه محاولةً ابتداع صورٍ عن عمليات عسكرية رائدة. وإلى جانب حملات الصواريخ والأنفاق، تشمل هذه التقدمات تحليق طائرة بدون طيار في المجال الجوي الإسرائيلي ومختلف العمليات السيبرانية.

وفي النهاية، أظهرت «حماس» خلال هذا النزاع قدرات بالغة الفعالية في مجال القيادة والتحكم والمرونة. فبعد أسبوعين من المعارك، لا تزال «حماس» تبدو قادرة على الحفاظ على خطوط الاتصال بين وحدات الصواريخ والوحدات البرية والقيادات العسكرية، كما يتضح من التزام كل وحدة بخطة عملياتها – علماً بأن كل خطة تم إعدادها والتمرن عليها على مر السنين. وعلاوة على ذلك، نجحت «حماس» في شنّ عمليات مزدوجة شملت القصف المدفعي وتسلل القوات البرية إلى داخل إسرائيل.

ما هي الخطوة التالية؟

حين تصل العملية إلى نهايتها الحتمية، سوف تحاول «حماس» الادعاء بأنها أحرزت نصراً واضحاً من خلال التشديد على عناصر ثلاثة وهي: نجاح “مفاجآتها” العسكرية (على سبيل المثال، الصواريخ بعيدة المدى والأنفاق والطائرات بدون طيار/قوات الكوماندوز والعمليات السيبرانية)، ومرونتها خلال العملية، وصمودها بوجه عدوٍّ يتمتع بقوة أكبر وعتادٍ أفضل. ومن وجهة نظر «حماس»، ستساعدها هذه التأكيدات على استعادة الدعم السياسي من مختلف الفاعلين وفي تعزيز الدعم اللوجستي والمالي على المدى القريب من الفاعلين الخارجيين، لا سيما إيران. ومع ذلك، يبدو حتى الآن أن قرار «حماس» ببدء مواجهة مع إسرائيل يترتب عليه تكاليف سياسية أكثر من فوائد، كما يتضح من تصريحات الدول العربية، لا سيما مصر والمملكة العربية السعودية، التي اعتبرت أنه كان يجب على «حماس» الموافقة على المبادرة المصرية لوقف إطلاق النار.

وفي إطار الاستعداد للمواجهات غير المتماثلة في المستقبل، تحتاج إسرائيل والدول الأخرى إلى التدقيق في قدرة «حماس» على التكيف مع عقيدة القتال الإسرائيلية. ولا تتوقف الحاجة إلى مثل هذه الدراسة عند «حماس». وفي الواقع، أن التنظيمات الإرهابية الأخرى المنتشرة عبر القارات – بدءاً من «حزب الله» في لبنان وإلى «جبهة النصرة» في سوريا مروراً بـ تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» [«داعش»]» في العراق وحتى «بوكو حرام» في نيجيريا – تتعلم جميعها بسرعة وتستوعب الاستراتيجيات الناجحة عبر شبكات عملياتية متراخية. وستكون هذه التنظيمات توّاقة لاستخلاص الدروس من تجربة «حماس».

وعلى الرغم من التكتيكات الحذقة والاستراتيجية العسكرية المدروسة، لا تزال «حماس» تفتقر إلى القدرات القتالية اللازمة للوصول إلى مستوى قدرات إسرائيل الاستخباراتية والدفاعية والهجومية في ساحة المعركة. إلا أن التنظيمات الإرهابية الأخرى تملك إمكانيات مهمة، حيث من المرجح أن تستعين بتكتيكات «حماس» المعززة في المستقبل. ومن هنا، يعتبر الاستعداد لهذه الاحتمالات بالنسبة إلى إسرائيل والولايات المتحدة وشركائهما مهمةً ضرورية وملحة.

————————————

(*) معهد واشنطن