العراق وخطر التقسيم

غازي العريضي (الاتحاد الاماراتية)

وزير الخارجية الفرنسي «لوران فابيوس» اعتبر أن ما يجري في العراق اليوم، بعد سيطرة تنظيم «داعش» على الموصل وما تلاها، أخطر حدث بعد الحرب العالمية الثانية، كان يمكن القول إن في ذلك مبالغة كبيرة أو تضخيماً لأسباب سياسية معينة. لكن عند مراقبة مسار الأحداث وتطورها و«الهزة» الدولية التي لا تزال ارتداداتها تظهر يومياً، وسيل التعليقات والتحذيرات من تقسيم العراق تحت عناوين فيدرالية الأقاليم أو خريطة جديدة تمتد من العراق إلى سوريا بدءاً بإقامة دولة سُنية متصلة بتركيا والسعودية وبسوريا والعراق لتفصل إيران عن العراق، وإيران عن سوريا، ويرافق ذلك إعادة توزيع النفوذ بين الدول الإقليمية في الجوار والدول الكبرى، وإعادة توزيع الثروة في ظل التنافس الكبير الجاري على النفط المكتشف حديثاً والموجود أساساً في أعماق الأرض والبحار في كل منطقتنا، هذه المواقف تعطي كلام «فابيوس» صدقية ما أو موقعاً في التحليل السياسي وقراءة ما يجري اليوم.

في كل الحالات، يعيش العرب حالة نزوح خطيرة، نزوح سياسي عن الانتماء الوطني والقومي الذي يوحّد، في اتجاه الالتزامات أو الحسابات الدينية والمذهبية والفئوية التي تفرّق وتغذي الصراعات، ونزوح سكاني، ويتم كل ذلك بالدم. ليس قليلاً أو أمراً عادياً أن يكون عدد النازحين في العالم اليوم يقارب الـ 51 مليـون شخص، عشرة ملايين منهم سوريون! ويضاف إليهم نزوح العراقيين وتكريس واقع جديد في أكثر من مدينة أو محافظة. وليس أمراً عادياً أن يستمر سقوط عشرات الضحايا يومياً في سوريا ليضاف إليهم أكثر من ألف قتيل خلال أيام في العراق! وليس أمراً عابراً أن تسمع وتقرأ سيلاً من التصريحات التي تتحدث عن نعي حدود «سايكس بيكو» ، وكنا قد كتبنا منذ سنتين ونيف أننا مقبلون على منطقة جديدة، وبعد مرور مئة عام على مرور اتفاقية الحدود تلك، وبعد صدور وعد بلفور بإقامة وطن لـ«اليهود» في المنطقة على أرض فلسطين، مقبلون على سقوط هذه الاتفاقية وتثبيت الوعد.

وها نحن اليوم نشهد سقوطاًَ للحدود وحديثاً عن رسم كيانات جديدة، ونرى إسرائيل تعمل بسرعة فائقة على تثبيت وعد بلفور. الثابت هو مصلحة إسرائيل وحماية أمنها ودورها ومصالحها، والمتغير هو حدود الدول العربية، واستباحة أراضيها ونزوح أهلها وفرض منظومة قيم جديدة في أماكن عديدة لا علاقة لها بالدين أو بالإسلام ، وبعث مخاوف في نفوس الناس وفرزهم على أسس مذهبية وطائفية وفئوية. إنها لعبة الأمم المتحركة وبعيداً عن نظرية المؤامرة، إذ لا أحد كان يتوقع حصول ما حصل في الموصل. ولا أحد بإمكانه الادعاء أنه كان يقرأ هذا التطور وتسليم الجيش العراقي سلاحه وموافقة والتفاف العشائر والقوى السياسية المختلفة حول «داعش» ولو نظرياً لأسباب مذهبية ورداً على «الظلم والقهر» اللاحقين بالطائفة السُنية على أيدي المالكي وجماعته كما يقول أصحاب هذا الرأي و«داعش عرف كيف يستفيد من هذا الوضع».

تغيرت كل الحسابات والحركة السياسية. الإدارة الأميركية مرتبكة، وثمة تناقض في التصريحات والمواقف. صحيح أن الإدارة السابقة هي المسؤولة، لكن لا يستطيع المسؤولون الحاليون الاكتفاء بقول ذلك، لقد خرج أحد مسؤولي المخابرات ليقول: «منذ فترة طويلة ونحن نراقب بتقنية عالية كل الاتصالات والتحركات في العراق». إذاً، ألم ترصد حركة «داعش» وغيرها من التنظيمات؟ ويقول آخرون في العراق : «أبلغنا الأجهزة الأمنية العراقية والنتيجة لم يفعلوا شيئاً! كانوا مطمئنين. سمّوها ما شئتم انقلاباً أو تواطؤاً. في النتيجة نحن أمام حدث كبير قد يغيّر المنطقة وذهب «فابيوس» إلى وصفه بالأخطر منذ الحرب العالمية الثانية لأنه قد يذهب في هذا الاتجاه لناحية النتائج المتوقعة.

والإدارة الأميركية الحالية تربط عملياً بين التفاوض مع إيران حول ملفها النووي وبين معالجة الوضع الداخلي العراقي، حيث لإيران الكلمة الفصل في التأثير على المالكي. وإيران تردّ : نتفق على النووي ثم نتفاوض على غيره، وإذا لم نتفق على النووي سنعود إلى ممارساتنا السابقة. كما قال وزير الخارجية الإيراني، ويتساءل مسؤولون عراقيون عن الاتفاقية الأمنية مع أميركا ويطالبونها بالتدخل وهم يرفضون في الوقت ذاته تدّخلها في سوريا مثلاً، هم يستندون إلى الاتفاقية فيقول الأميركيون سنرسل خبراء ومستشارين، ولكننا نريد ضمان قانونية الخطوة، وهذا الشيء لم يتوفر لهم عند انسحابهم! ويؤكدون أنهم يريدون الحل السياسي، يأتي وزير خارجيتهم، ويلتقي كل الفرقاء، ويدعو إلى موقف سياسي موحّد يحصّن الوضع. الأكراد يريدون إقليمهم وقد توسّع وليس في ذلك تقسيم، إنه الإقليم، والسُنة يتمسكون بمواقفهم، لن تتوقف العملية قبل رحيل المالكي. والشيعة يؤكدون موقفهم، أي خطوة تكون على أساس نتائج الانتخابات السابقة، وإنْ كان ثمة بحث حول البديل عن المالكي، لكن الكلمة النهائية هي لطهران. الأميركي يقول: «لا يحق للولايات المتحدة أن تحدّد من هم قادة العراق». يجيب العراقيون الموالون للنظام في سوريا «وهل يحق لكم تحديد من هم قادة سوريا»؟ إنها «سياسة الكيل بمكيالين»، يضيف هؤلاء. ليأتي كلام أوباما ويعطي زخماً للموقف فيعلن: «ليس ثمة معارضة معقولة قادرة على إزاحة الأسد»! ضربة للائتلاف الوطني الذي كان رئيسه في واشنطن قبل أحداث الموصل، والتقى أوباما وتم تسريب معلومات عن إمكانية تسليم أسلحة «فتـّاكة» للمعارضة السورية. اليوم، الموقف مختلف تماماً، لا فعالية للمعارضة، لا تأثير لها، لا ثقة بها، لن نعطيها السلاح وقد سقط سلاح الجيش في العراق بيد «داعش»، هذا هو الموقف الأميركي! والأسد باق ولم يعد أحد يتحدث عن عدم شرعيته وعن سقوطه، بل راح هو يتحدث عن مواجهة الإرهاب كعنوان واحد! وهذا يخدم النظام وإيران ومن معهما، في ظل اختراق سياسي دبلوماسي تحقق في النرويج من خلال زيارة مستشارة الأسد بثينة شعبان والتي التقت وزير الخارجية الأسبق والرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر وعدداً من المسؤولين وكذلك مساعد الأمين العام للأمم المتحدة “جيفري فيلتمان”. أهمية هذا اللقاء هي في الشخص، في «فيلتمان» تحديداً وليس في موقعه، وهو دعاها إلى «عدم عرقلة عملية انتخاب رئيس في لبنان»، مما يعني الإقرار بدور سوريا في العملية، ومع ذلك الموقف هذا أرحم من موقفه السابق يوم التقى مع رئيسه بان كي مون بخامنئي في طهران وقال : «بعد 30 سنة اكتشفت أن هناك سوء فهم بيننا»! وذكرني موقف «فيلتمان» الأخير بزيارة وزير الخارجية جون كيري إلى بيروت منذ أسابيع عندما قرأ نصاً مكتوباً دعا فيه روسيا وإيران و«حزب الله» إلى المساعدة في معالجة الأزمة وكأنها دول محايدة أو جمعيات ومنظمات إنسانية غير حكومية، وهو وإدارته كانوا يتهمون روسيا وإيران بالتدخل و«حزب الله» بتجاوز حدوده وبأنه منظمة إرهابية…اليوم يدعونهم إلى التعاون!

في المقابل لا تزال إسرائيل تحصد المكاسب، تنجح حتى الآن في عرقلة الاتفاق النووي مع إيران، «تدعو إلى عدم التدخل في العراق ليستمر القتال بين أعدائنا»، كما أعلن نتنياهو، وهي تشتري النفط من كردستان علناً! توطد العلاقات معها، تحضر ميدانياً من خلال خلايا كثيرة تماماً كما فعلت يوم الاحتلال الأميركي، التفتيت هو مشروعها، واقتتال أبناء البيت الواحد والقضية الواحدة هدفها. ها هو يتحقق والقضية أصبحت قضايا، وفلسطين تستباح، وهي تفعل ما تشاء، الاتحاد الأوروبي يوقّع معها على اتفاق حول مشروع «أفق 2020» التكنولوجي، الذي كان هماً بالنسبة إليها عدم التوقيع عليه، في مقابل خلاف خليجي أوروبي وإلغاء اجتماع وزراء خارجية دول الخليج مع الاتحاد بسبب عدم الاتفاق على البيان النهائي، لأنه يركّز على البحرين، ولا يشير إلى مسؤولية المالكي «وقهره للسُنة» في ما يجري في العراق! وفي الدول الأوروبية وخصوصاً بريطانيا رعب من عودة «الانتحاريين إليها وعدم القدرة على متابعتهم». وإسرائيل تقول للجميع: الإرهاب هو الأساس وهذا ما نكافحه هنا. قفوا إلى جانبنا. وهذا ما كانت تريده منذ سنوات وللبحث صلة أيضاً.