لبنان.. سادوم وعاموره! بل أكثر

محمود الاحمدية

 معظم الناس في ذلّ، فالعبيد أذلاّء لساداتهم، والسادة اذلاّء أهوائهم (ديوجين)

 كنت في مكتبي في عاليه ومنظر العاصمة وجبل صنين والمتن الشمالي والمتن الجنوبي جواهر متلألأة في تاج الجمال الذي يرصع التلال الخضر والقلوب المؤمنة الرائعة في وطني… غيمة بيضاء كانت تركض سعيدة، حرة، شامخة، لا ضغوطات عليها، وكأنها تختال أمام ناظِرِيها تذكّرهم بلبنانها الماضي، لبنان الحرية والعزة والكرامة… لبنان الجامعة والحضارة والكتب والمرجل الذي كان يغلي صدى” لكل صاحب إرادة حرة من فيتينام التي مرّغت الامبراطور الاميركي في التراب إلى قاهرة جمال عبد الناصر صانع شموخ وعزة بني يعرب إلى الجزائر شاهد المليون شهيد إلى الحركة الوطنية تصدح بتراكم الحرارة الديمقراطية وطبيعية انتقال السلطة في منطقة لا مكان فيها لهذه الطقوس، إلى رجال صنعوا كرامة وطني وناطحوا السحاب واجتازوا حدود القارات الخمس كشاهد أزلي على تفرّد هذا اللبناني…

وفجأة سقط التمثال وتغيّرت الأحوال ، وباع بعض المسؤولين شعبهم في سوق النخاسة وكانت الوصاية التي أعادتنا قروناً إلى عصر الجاهلية وكنّا موضوعاً قابلاً وتبرمجت عملية التخلّص من كلّ فكر لبناني خلاق ومبدع وخلقوا لنا منطق البوسطات التي أوصلت من لا يحلمون بالوصول إلى مراكز النيابة التي تختصر كلّ الوطن لأنها إذا جلست جلس الوطن وإذا مارست دورها بحرية وبعلم وبثقافة وبرؤيا نهض الوطن فجاء متطفلون وندّابون وعفاريت وجماعة (ايش يا خال) ولا يخلو الأمر من بعض النواب الذين يملكون الثقافة والرؤيا وكما يقول المثل (إن خِلِتْ خِرْبِتْ)… ولكن وأَضَع ماية خط تحت كلمة ولكن… سياسة تفريغ الوطن من أدمغته أصبحت واضحة كالشمس… سياسة تجاهل البعض وتركيب الخوازيق المصنوعة بطريقة جيدة أيضاً أصبحت واضحة… وسياسة التجاهل والتعتيم عن سابق عمد وإصرار أصبحت واضحة… فحتى تعيش في هذا الوطن يجب أن تملك موهبة مسح الجوخ والقبول بذل المال الأسود وطأطأة الرأس فتصبح سيدا” محترما ناجحاً تنظر من علياء ملايينك الغير نظيفة وتتطلّع بمنخار أعوج وعالٍ ويكفي رضاء الأسياد فأنت ناجح وإياك أن تكون مثقفا رؤيويا” تملك جرأة قول الحق وجرأة المواجهة فمصيرُكَ إمّا الهجرة وإمّا القبول بواقع مندثر منهار ومهترىء …

بالأمس واستطراداً لبداية مقالتي، وبينما كان يسرح نظري نحو البعيد، تفاجأت بشاب من منطقتي الجرد الأعلى، كنت أعهده شامخ الرأس ذا عزّة وشموخ وكبرياء، من هذه الجِبِلّة التي تركت بصمة على جبين التاريخ، رحبت به كعادتي بحرارة وبمحبة وجلس على المقعد، عيناه غائرتان في اللاشيء، وكأنه مسكون بالرتابة والبطىء واليأس، انشغل بالي فقلت له “مش على بعضك”؟؟ ليش؟؟ ردّ بكل أحزان الدنيا بعد تردد كبير، صدقوا أو لا تصدقوا قسماً برأس أولادي الأربعة: بدي ألفين ليرة ثمن خبز للعائلة وثلاثة آلاف ليرة حتى أصل إلى الضيعة!!! شعرت لحظتها بدوخة وبحزن يخرق العظم وسألته: على علمي أنك سائق وتعمل بجد ونشاط ولقمتك دائماً تحمل عرق العافية والتعب ماجرى؟؟ قالها كما يقوله مئات الألوف في وطني: دقيت كل الأبوا، وصار لي أربعة شهور بدون عمل، رزقي الوحيد عرق جبيني أولادي أطفال وجاء غيري غير لبناني أخذ عملي وجشع صاحب الشركة فضّله عليّ: لا ضمان اجتماعي له، لا تقاعد له، قَبِلَ بنصف راتبي، ورأيت نفسي في الشارع !!!!

خجلت من نفسي وقمت بواجبي وتركني شاكراً وباستحياء غريب… عظمة شعبنا أنه يعضّ على الجرح ولكنّنا أصبحنا مجبرين على ترك هذه الميزة الرائعة وتحطيمها وتجاوزها…

لبنان… سادوم وعامورة!! بل أكثر.

اقرأ أيضاً بقلم محمود الاحمدية

لبنان لن يموت

أكون حيث يكون الحق ولا أبالي

لماذا هذا السقوط العربي المريع؟!

جشع بلا حدود وضمائر ميتة في بلد ينهار!

جاهلية سياسية… بل أكثر!

معرض فندق صوفر الكبير والتاريخ والذاكرة

قال لي: عندما تهاجم الفساد ابتسم بألم!!

إذا أجمع الناس على مديحك سوف أطردك!!

التاريخ لا يرحم… يجب إعادة كتابته

ما هو دوري كوزير جديد؟

مشروع كمّ الأفواه تدمير للبنان الرسالة

الجامعتان اليسوعية والأميركية تنسحبان: التعليم العالي في خطر

السويداء في عين العاصفة

تقريران رسميان متناقضان عن تلوث بحر لبنان

في ذكراها الـ 74 اسمهان: قصصٌ خالدة

طبيعة بلا حدود ربع قرن من النضال البيئي

فريد الأطرش وشوبرت والفن العالمي الخالد

يوم البيئة العالمي: التغلب على تلويث البلاستيك

قطعة الماس في جبل من الزجاج

مسيرة منتدى أصدقاء فريد الأطرش تشع في دار الأوبرا في القاهرة