الموصل.. والضياع

غازي العريضي (الاتحاد الاماراتية)

احتلت «داعش» الموصل، وكل القوى العراقية والدول المعنية مباشرة والمتابعة أصيبت بالصدمة، لا أحد يعرف ماذا جرى، وكيف جرى الاحتلال بهذه السرعة من قبل مئات من العناصر في وجه قوى عسكرية نظامية تعد بالآلاف، فجأة سقط الجيش العراقي، خلع عناصره بزاتهم، وهربوا تماماً مثلما حصل يوم الاحتلال الأميركي للعراق.

يومها كان الجيش الأميركي بكل إمكاناته وطاقاته والهالة المرسومة عنه والحملة الإعلامية التي سبقته. اليوم، مئات من المسلحين احتلوا مناطق شاسعة من الأراضي، أعلنوا دولتهم ذات الطابع «السني» واقعياً، أسقطوا الحدود والحواجز بين العراق وسوريا، وأقاموا وصلة بين دولتيهم هنا وهناك.

سيل من الأسئلة يُطرح أبرزها: لماذا لم تأخذ الأجهزة الاستخباراتية بالمعلومات التي وصلتها والتي أفادت بأن الموصل ستتحول إلى جحيم؟ هل كان ثمة لعبة ما أراد منها أصحابها الاستفادة مما يجري لتبرير دورهم في السلطة واستمراريته تحت عنوان مواجهة الإرهاب وتأكيد الشراكة مع الأميركيين في هذا الأمر، ثم شعروا فجأة أن المسألة أكبر من ذلك، وقد أفلتت من يدهم؟ هل كان ثمة سوء تقدير أولاً، وسوء تدبير لاحقاً؟ هل كان ثمة مبالغة في الثقة والقدرة على ضبط الأمور، ثم اكتشف الجميع أن البناء العسكري هشّ، وأن الهيكلية العسكرية والبنية كرتونية؟

كيف استخدم عناصر «داعش» صواريخ «سكيف» أوكرانية الصنع ضد الدبابات وفعلت فعلها؟ من أين جاؤوا بها؟ أين الرصد والمخابرات و«الدولة» ومؤسساتها؟ أياً تكن المبررات والأسباب والحسابات هي فضيحة وصدمة انفجرت في وجه الجميع.

وحالة من الضياع تسيطر على كل مراكز القرار في مواقع الدول المعنية والمتابعة، أما وقد حصل ما حصل، يبدو حتى الآن أن الكل يريد تبرير ما يقوم به، ومحاولة استثمار ما حصل.

ولأنه لا يمكن فصل ما يجري في العراق عما يجري في سوريا، فإن الإدارة الأميركية الواقعة تحت الصدمة، والداعمة للمالكي، أعلنت أنها تدرس خيارات التدخل واستخدام طائرات من دون طيار ضد جماعة «داعش» وتمددها، واستعدادها للتباحث مع إيران في هذا الأمر، وإيران أكدت بدورها الاستعداد للتعاون مع الأميركيين لمواجهة خطر واحد هو الإرهاب.

يبدو واضحاً أن ثمة استغلالاً لهذا الحدث لتقول الإدارة الأميركية إن ما جرى ليس من صنعها، بل هو نتيجة ما فعلته الإدارة السابقة باحتلالها العراق، وهي قلقة من ذلك، ولذلك لا تريد التدخل العسكري في سوريا، إضافة إلى أن موقفها الرافض لدعم المعارضة السورية بسبب عدم ثقتها بأن السلاح الذي يعطى لها قد يقع في أيدي المتطرفين أثبتته أحداث الموصل، فسلاح الجيش العراقي النظامي المفترض أنه ليس ميليشيا قد وقع بين أيدي «الإرهابيين»! وهذا سيفيد جماعة النظام في سوريا، وإيران التي تدعمهم للتأكد من أن الأولوية هي لمواجهة الإرهاب وهم يقومون بذلك، وأن إدارة أوباما محقة في عدم تسليح المعارضة، وينبغي التعاون بين الجميع تحت هذا العنوان.

حتى وصل الأمر ببعض المعلقين والباحثين الأميركيين إلى التعبير بسخرية عندما قالوا: «من سخرية القدر أن تكون إيران الحليف الأفضل للولايات المتحدة في الحرب الأهلية السورية – العراقية»! تماماً كما قال الأمير تركي الفيصل: «أن نرى الحرس الثوري الإيراني يقاتل جنباً إلى جنب مع الطائرات الأميركية من دون طيار لقتل العراقيين، هذا المشهد يفقد المرء صوابه ويجعله يتساءل إلى أين نتجه »؟ ولا يخفى على أحد أن هذه التطورات تأتي في ظل التفاوض الأميركي الإيراني على الملف النووي والتوجه نحو التفاوض على الدور الإيراني الإقليمي، والرغبة المشتركة لدى الطرفين في الوصول إلى اتفاق وهما يحاولان، كل من موقعه استغلال كل ما يجري في البازار المفتوح.

وفي سوريا كان التركيز قائماً على التشكيك في شرعية الأسد، بعد انتخابات البراميل المتفجرة ديموقراطياً، والتي كرّست الرجل في السلطة، أصبح حدث الموصل هو الأول سياسياً وإعلامياً، والنظام في سوريا يقول للجميع: « قلنا لكم من الأساس المسألة مسألة إرهاب، وها أنتم تقفون أمام خطر تمدده في كل مكان»، في محاولة لتبرير ما يقوم به، وتفسير «أحقية معركته» ويعرض خدماته على الآخرين.

ويسجّل في هذا الإطار أنه ومنذ سيطرة «داعش» على الرقة ودير الزور لم يستخدم النظام الطيران في وجههم.

في الأيام الأخيرة استخدم الطيران للمرة الأولى، لأن المعركة باتت تتطلب ذلك والخطر بات واضحاً بعد وصلة العراق سوريا، في إطار دولة «داعش»، بل ثمة حديث عن سحب قوات الميليشيات العراقية من سوريا إلى داخل العراق، واستعداد «حزب الله» اللبناني للقتال في العراق بعد تهديد «داعش» باستهداف النجف وبغداد ومرقد الإمامين العسكريين في سامراء.

لقد أصبحنا في معركة من نوع آخر، إنها صيحة «ياغيرة الدين» أو «النفير الشيعي» في وجه «الاستنفار السني»، وهنا يكمن الخطر الكبير، الذي يعبّر عن حقيقة واقعية على الأرض.

لقد وحّد حدث الموصل الموقف الشيعي داخل العراق وبين مراكز القرار في إيران روحياً وسياسياً.

كان ثمة خلافات داخلية، وتباينات، ومواقف شيعية ضد نوري المالكي وسياساته وتهوره، لاتزال قائمة، لكن الأولوية للدفاع عن المقدسات.

وكانت لافتة فتوى السيستاني ودعوته إلى التطوع والتسلح لمواجهة الإرهاب، وكذلك استعراض مقتدى الصدر، واجتماع الفعاليات العراقية برئاسة إبراهيم الجعفري، في المقابل وحدة موقف قطري – سعودي، لم نشهدها منذ مدة طويلة.

لاتلغي التباينات حول أمور كثيرة مهمة، ولا الخلافات والأولويات والمنطلقات والأهداف المختلفة.

لكن الدولتين أعلنتا مواقف موحدة: سبب ما جرى «إقصاء السُنة واستهدافهم وإخراجهم من دائرة القرار وسياسات المالكي المتهورة»، ومن الداخل موقف سنُي موحّد.

مفتي الديار العراقية رافع الرافعي وصف «داعش» بالإرهابيين، ولكنه اعتبر أن ما يجري هو «تحرير للشعب العراقي وخصوصاً السُنة، ورفع للظلم الذي لحق بهم من جيش المالكي»! أما رجل الدين السُني الفاعل والمؤثر عبد الملك السعدي، فقد عاتب السيستاني على موقفه وقال: «مرّ أكثر من عام، وأهل السُنة يطالبون بحقوقهم التي حرموا منها في بلدهم نتيجة التهميش الطائفي ويطالبون برفع الظلم عنهم من إعدامات واعتقالات و حملات دهم غير قانونية وهتك للأعراض وسلب للأموال وهدم للمساجد والمنازل وحرق لها، ولم نسمع من المرجعيات، أي تأييد لهم أو فتوى بإعطائهم حقوقهم ورفع الحيف عنهم» وأضاف: «وبعد أن عمد المالكي وأعوانه إلى التهديد – انتهوا قبل أن تنهوا – وبيننا وبينهم بحر من الدم، مقسماً العراقيين إلى أنصار يزيد وأنصار الحسين، ولم نسمع أي إنكار عليه من المرجعيات»، ثمة غليان سني يعبّر عنه بهذه الطريقة.

والأكراد أخذوا كركوك المتنازع عليها، وباتت تحت سيطرتهم، يستفيدون منها جغرافياً وأمنياً وسياسياً ونفطياً وبدؤوا يصدرون النفط إلى تركيا، أكراد الإقليم على علاقة جيدة مع تركيا، ذهبوا إلى إيران اليوم.

يريدون الحل السياسي القائم على العدالة حتى لو أدى الأمر إلى إقامة حكم ذاتي للسُنة! وهذا يقلق إيران وحلفاءها، والأمر ستكون له انعكاسات في الداخل الإيراني والسوري، منها استقلالية الأكراد وحكم ذاتي سُني، سيكون ذلك نموذجاً.

تحاول إيران معالجة الأمر مع تركيا لإسقاط الصيغة المذهبية، والرئيس روحاني عائد لتوّه من زيارة إلى تركيا أعلن فيها أن ثمة أهدافاً استراتيجية مشتركة مع الأتراك وليس فقط مصالح مشتركة ! ولكن تركيا مأزومة في الداخل، وفي الموضوع السوري، وتستفيد نفطياً من دير الزور من داعش ومن كركوك من الأكراد اليوم.

ولديها مخطوفون من القنصلية في الموصل، نحن أمام خلطة وتعقيدات لا يستطيع أحد التنبؤ بنتائجها السريعة، ولذلك قلت ثمة ضياع فرضه حدث الموصل.