لبنان قِلقٌ.. ومُقلق

غازي العريضي (الاتحاد الاماراتية)

في حديثين إلى «الشرق الأوسط»، قال زعيم حركة «النهضة» التونسية راشد الغنوشي، ونبيل عبد الله، الأمين العام لحزب «التقدم والاشتراكية» المغربي ( الشيوعي سابقاً ) ما يلي:

الغنوشي: «تجربة سنتين كشفت لنا أن البناء الوطني لا يزال هشاً، لا يتحمل الصراع المفتوح بين سلطة ومعارضة. لقد كادت التجربة التونسية في العام السابق أن تنهار لاسيما بعد ما حدث في مصر وبعد اقتراف الإرهاب جريمتي اغتيال سياسي. ولم ينقذ الوضع إلا خروج (النهضة) من السلطة إلى حكومة محايدة، ونحن أقدمنا على أن نضحي بالسلطة من أجل شيء أثمن هو تونس. هو استقرار البلد واستمرار الانتقال الديموقراطي». وأضاف : «قانون الإقصاء لا يخدم المصلحة العامة، وهذا المسار. ولا نعتقد أن المحاسبة الجماعية عادلة و حتى فعّالة. لا بدّ من الانطلاق إلى المستقبل دون توريث العداوات للأجيال الجديدة، يجب على سفينة تونس أن تبحر بكل أبنائها لا أن تلقي بعضهم خارجها » … «السياسي الحكيم، هو الذي يستوعب موازين القوى، ويقرأ المتغيرات ويستوعبها، وينسج سياسة موافقة للموازين الجديدة، وإلا فقد السيطرة …».

أما نبيل عبدالله، فقال: «المغرب تفرد بإشراك العدالة والتنمية كتيار إسلامي في التجربة الحكومية، كما أن هذا الحزب لم يتصرف كما تصرفت أطراف أخرى في بلدان أخرى. ونحن رأينا أن موقعنا الطبيعي هو أن نكون في خضم الحفاظ على الاستقرار ومواصلة الإصلاحات …». وأضاف: «إن النقاش السياسي سقط إلى مستويات مرفوضة، وأعتقد أنه يتعين على الجميع أن يعي بأن هناك شعباً ينظر إلينا. ومتتبعين يراقبون ما نقوم به كسياسيين وكفاعلين، وحذار للجميع أن نفقد ما تبقى من صدقية..».

أقف عند هذا الكلام لأتحدث عما وصلنا إليه في لبنان، لقد ضرب الإرهاب أكثر من منطقة، وارتُكبت أكثر من مجزرة، وخسرنا خيرة رجالنا شهداءً كباراً على رأسهم رفيق الحريري. واختلفنا على كل شيء تقريباً من الثوابت الوطنية، وليس من التفاصيل، ودفعنا أثماناً كبيرة. وعقدنا تسويات صغيرة بضغوط خارجية، ولم نعرف كيف نستثمرها ونستفيد منها. في تونس يقول زعيم الأكثرية إن الإنقاذ تم بفضل خروج حركته من السلطة ووجودها على رأسها حق طبيعي لها، أما نحن، فمن أجل أن يدخل أحدنا إلى السلطة لا بد للبلاد أن تدفع ثمناً كبيراً. وإذا خرج آخر فستدفع ثمناً كبيراً. وإذا تواجدنا مع بعضنا، فلا نعرف كيف ندير السلطة والحكم لنحمي بلدنا وأمنه واستقراره. دخلنا في مرحلة فراغ في الرئاسة. طالت مدته لأشهر. أقفل المجلس النيابي، وكان هناك فراغ. وكانت حكومة دستورية، لكنها لم تتمكن من العمل كما يجب لأن مكونات أساسية خرجت منها. اليوم عدنا إلى الفراغ في الرئاسة. وثمة كلام عن عدم جواز التشريع، يعني إقفال المجلس النيابي إلا عند الضرورات، وزد على ذلك بأن وقف عمل المجلس يعني وقف دور الجهة الدستورية المنوط بها مراقبة عمل الحكومة. يعني لا تستطيع الحكومة أن تعمل كما يجب، مرة يعطل هذا الفريق.

يردّ فريق آخر بالتعطيل في مرحلة لاحقة وتحت العناوين والأسباب ذاتها، ونعيش في دوامة التعطيل المتبادل، بدل أن نعمل معاً في جوّ من التفعيل الكامل لمؤسسات الدولة. بعد أحد عشر شهراً من التجاذب والخلاف وإدارة البلاد على طريقة تصريف الأعمال، التي لامست حدود الشلل في الإدارات بسبب الخلافات تمكنا من التوافق على حكومة بتشجيع من الخارج، أو في ظل ملاءمة الوضع الداخلي مع الوضع الإقليمي. لكننا اليوم لا نصل إلى توافق على الرئاسة!

الوضع الاقتصادي سيئ جداً في لبنان، الدين العام بلغ حدود الـ 65 مليار دولار، ولا أفق للمعالجة، ينتظر بعضنا النفط – الثروة الكبيرة المكتشفة – وتدور في الصالونات السياسية الأحاديث المتشعبة عن أن هذا العنصر، هو أساس من أسس التوافق أو الوصول إلى رئيس جديد للجمهورية! فهل يكون ذلك مطمئناً لمعالجة مشكلة الدين العام في لبنان أو هو عنصر لحل مشاكل، أو توفير عناصر قوة للفرقاء الذين سيتفقون؟

الإضرابات تعمّ لبنان تحت عنوان إقرار سلسلة رتب ورواتب جديدة للموظفين والأساتذة، أدير الأمر بطريقة ارتجالية من الأساس، ووقعنا جميعاً في المحظور، نحن أمام أزمة، أو مشكلة إذا لم تقرّ السلسلة، ومشكلة إذا أقرّت، الوضع المالي صعب. والإصلاحات غير موجودة، والضغط الاجتماعي في وجه الجميع. وقوى أساسية رئيسية غيرت مواقفها من هذا الأمر تبعاً لحساباتها الرئاسية وتوجهاتها الجديدة أو تقلبات مواقفها في هذا الاتجاه! قضية النازحين السوريين الأزمة الكبرى، التي أديرت منذ البداية بعيداً عن منطق الدولة، وفكر الدولة ومصلحة الدولة وعن اعتبارها قضية وطنية لبنانية. ذهب البعض إلى الجانب الإنساني في سياق الرهان السياسي إلى القول إن الأسد ساقط خلال أسابيع. ولاقاه البعض الآخر في الاتجاه ذاته، لكن من موقع الحساب أن الأسد ثابت والمسألة تنتهي خلال أيام. وها نحن اليوم أمام أزمة كبيرة وفرز خطير في المواقف، إذ ثمة من يدعو إلى ترحيل الذين يؤيدون النظام مثلاً، ويتظاهر معارضو هؤلاء، بعد الذي جرى في التصويت الرئاسي – المزحة الثقيلة – وكنا نقول من الأساس لا نستطيع أن نعرف من هو مع النظام ومن هو ضده. وكثيرون يغيرون مواقفهم حسب موازين القوى. وليس هكذا تُدار الأمور، وإذا سألنا يوماً ماذا لو دفع النظام بالألوف عمداً إلى لبنان فلم يكن ثمة جواب. كان الوهم هنا وهناك أن الأمور محسومة خلال فترة قصيرة كما ذكرت، وها نحن أمام الكارثة والمأزق الكبير!

أين مصلحة لبنان وأمنه واستقراره وسلامة اقتصاده؟ وكيف يمكن إعادة بناء مؤسساته وضمان ثرواته ووحدته الوطنية في ظل انهيار مستوى العمل السياسي واستخدام لغات التخوين والاتهام، وعدم وجود الثقة بين «الرموز»، واستمرار انتظار التطورات الإقليمية والدولية والتلاعب بالأوضاع الداخلية، وضخ كل عناصر الانقسام والفتن؟ في تونس، تخلى الطرف الأقوى والأكثر تمثيلاً عن السلطة من أجل البلاد. وفي المغرب جلس «الشيوعي مع الإسلامي» في ظل نظام ملكي.

هنا من أجل تونس وهناك من أجل المغرب، كل تونس وكل المغرب. وفي ظل سعي لعدم توريث العداوات للأجيال القادمة، فماذا نفعل في لبنان ونحن السباّقون إلى ممارسة الديموقراطية، وابتكار الحلول والتسويات وتجربتنا هي الرائدة في كل المنطقة العربية؟ وها نحن في دوّامة السجالات والادعاءات: من هو الأقوى؟ والكل ضعيف.

قد يقول قائل: ليس في تونس، ولا في المغرب تنوّع مذهبي أو طائفي كما في لبنان.. هذا صحيح، لكن الأصح، هو أن التنوع هذا ميزة لبنان، ويجب أن يشكل حافزاً أكبر لدينا لحمايته وتكريسه وتطوير أنظمتنا على أساسه، وكما تونس والمغرب لديهما نزاعات إقليمية خطيرة حولهما ومشاكل مع جيرانها، ويتأثران بالمعادلات الإقليمية والدولية فكذلك لبنان. هناك توصلوا إلى تفاهمات. ما نقوم به في لبنان لا يعبّر عن «حكمة» أو «عقلانية» أو «عبقرية» أو «مصلحة وطنية» – رغم تسمية هذه الحكومة بهذا الاسم – أو «واقعية». إن اللبننة اليوم عكس ذلك تماماً للأسف، والقلق يحيط بالجميع.

لبنان بلد قلق في الداخل، ومقلق للخارج، قلقُ الداخل يستدرج قلق الخارج. التاريخ والجغرافيا والتنوع ميزات تجذب القلقين من الخارج وتحرك القلقين في الداخل إلى الخارج، وأضيف إليها النفط اليوم. عسى ألا يكوينا فوق ما نحن فيه وعليه. إنها ساعة الرجال إذا وجدوا ليحكموا العقل وننقذ البلد في هذه المرحلة!