النكبة وأخواتها

غازي العريضي (الاتحاد الاماراتية)

بعد ستة وستين عاماً على النكبة في فلسطين لم يتغير العقل الإسرائيلي ولم يتطور. أحفاد وورثة الصهاينة الأوائل يؤكدون يومياً أن «الاستيطان ليس السبب في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. فالمركّب الأساسي في حياتنا القومية سيحظى بمكـانة قانونية. لأن هناك من يرفض الاعتراف بحقنا الطبيعي في دولة يهودية. إنهم يريدون الطعن في المبرّر التاريخي والقانوني والأخـلاقي لقيام دولة إسرائيل دولة قومية لشعبنا».

هذا ما أعلنه رئيس حكومة الإرهاب بنيامين نتنياهو وهو يستعد لسنّ قانون يؤكد يهودية دولة إسرائيل. أما وزير الدفاع «موشيه يعالون»، فقال : «المشكلة تكمن في رفض العرب الاعتراف بوجودنا في بيتنا القومي، إسرائيل هي دولة الشعب اليهودية» !

هم لا يريدون دولة ثنائية القومية، لأنه «لايمكن الإمساك بالعصا القومية من طرفيها القوميين. ولا يمكن أن نقول نريد الانفصال عن الفلسطينيين لنمنع دولة ثنائية القومية، وفي هذا منطق ما، ومن جهة أخرى تقديس دولة ثنائية القومية يهودية عربية فيها الحدود الدائمة لدولة إسرائيل»! كما أعلن نتنياهو.

وفي الوقت ذاته لايريدون دولة للفلسطينيين، يريدون دولة يهودية قومية لهم. عملياً، لايكون فيها فلسطينيون إلا العدد القليل منهم. وبالتالي سيستمر التهجير والتدمير والاستيطان، ولا يريدون دولة مستقلة للفلسطينيين بكل ما للكلمة من معنى الدولة، لايريدون استقلالاً ولو نسبياً للفلسطينيين رغم كل ما قدمّه أبومازن في الفترة الأخيرة وما شهد عليه المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية ورئاستها وطواقمها الذين أعلنوا أن سبب فشل المفاوضات هو السياسة الاستيطانية الإسرائيلية ورفض الحكومة الإسرائيلية الالتزام بما تم الاتفاق عليه في المفاوضات. ومع ذلك أكد الأميركيون التزامهم بمصالح وأمن إسرائيل وطمأنوا الإسرائيليين بأن تصريحاتهم ومواقفهم هي من باب الحرص على هذه المصالح، والتنبيه إلى ضرورة أخذ الحذر والحيطة مما يقومون به لأن « العالم لن يستمر في القرن الواحد والعشرين في تحمّل الاحتلال الاسرائيلي، الذي يهدد مكانة إسرائيل في العالم ويهدّدها كدولة يهودية»!

الإرهابيون الإسرائيليون يريدون السيطرة على كل شيء. حتى لو بقي فلسطينيون على أرضهم، فلن يكونوا إلا تحت رحمة الإرهابيين. هكذا يفكر هؤلاء. وقد اعتبر وزير خارجيتهم أفيجدور ليبرمان «الفلسطينيين في مناطق الـ 48 طابوراً خامساً يسعى لتدمير إسرائيل» !

يستفيد الإسرائيليون من واقع الانقسام الفلسطيني والتخلي العربي والدولي الفعلي عنهم ومما يجري اليوم في عالمنا العربي. كنا عندما نقول كلمة قضية فالكلمة واضحة، مضمونها معروف، رمزيتها معروفة، هي فلسطين، القضية المركزية بالنسبة إلى العرب. وكنا نقول النكبة، فالتعبير واضح، والمقصود، النكبة التي حلّت بالفلسطينيين. والمجازر التي لحقت بهم، والتهجير الذي استهدفهم فاقتلعهم من أرضهم وقامت عليها دولة الإرهاب والاغتصاب إسرائيل . وكنا عندما نتحدث عن العنصرية فالعنوان معروف: إسرائيل. وعندما نقول كلمة إرهاب فالاتجاه واضح، والجهة محددة: إسرائيل.

عندما هزم العرب في حرب الـ 67 ، وكانت هزيمة شنيعة، لم يستخدم أحد كلمة نكبة. سميت كل نتائجها الكارثية: «نكسة». فالنكبة تستخدم حصرياً لما جرى في بداية الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين. وكانت جهود لتجاوز النكسة وجاءت حرب أكتوبر لتثبت أنه عندما تتوحد الإرادة فالعربي قادر ولكن عندما تكون الإدارة سيئة يتحول الانتصار إلى هزيمة أو يفرّغ من مضمونه، وهذا ما جرى بعد الحرب.

اليوم ، لم نعد أمام «القضية» المعروفة، أصبحت لدينا قضايا في كل دولة من دولنا قضية، ومنها تتفرع قضايا. لم نعد أمام نكسة، فكل أيامنا نكسات، في ليبيا والعراق واليمن وسوريا. تضاف إلى نكسات موسمية هنا وهناك، ولم نعد أمام الـ «نكبة» الحصرية، بل أصبحنا أمام نكبات متتالية يعيشها الفلسطينيون والعرب.

أليست نكبة أن نرى ما نراه في ليبيا من اقتتال وفوضى وخراب وتدمير وقتل وفلتان ومشاريع دويلات وتعميم الإرهاب في الداخل ومنه إلى الخارج؟

أليست نكبة أن نرى ما نراه في سوريا؟ مخيم اليرموك يعيش فيه الفلسطينيون ذلاً لا مثيل له، أنساهم النكبة الأولى وهم على أرض شقيقة، واستغلت ذلك إسرائيل الإرهابية، وأن نرى الدولة والمجتمع يدمران بالبراميل المتفجرة، أو بتفجير الأماكن التراثية الهائلة المميزة لتاريخ سوريا وعراقتها وجذورها في الحضارة الإنسانية؟ أليست نكبة أن نرى الملايين من الشعب السوري مهجرين في الداخل، نازحين إلى دول الجوار، يعيشون قهراً وذلاً ويعانون مشاكل، منازلهم دمرت، جرفت، أصبحوا عبئاً على مجتمعات مختلفة هنا وهناك، وبعضهم يستعد للرحيل إلى الخارج، فلن يعود كثيرون إلى وطنهم، والمذهبية والطائفية أعمت البصائر وولّدت الأحقاد وعززتها في النفوس؟

أليست نكبة أن نرى الجيش السوري يدمّر ويدمّر بلده ويفقد الآلاف من كوادره وقياداته في قتال أهلهم؟ ويسلّم سلاحه الكيماوي فتربح إسرائيل؟ وأن نرى الوافدين من كل حدب وصوب إلى سوريا للقتال فيها تحت عناوين مختلفة بات معظمهم يشكل خطراً ليس على سوريا والسوريين، كلهم بل على المحيط والعالم وخصوصاً الجزء منه الذي أدار هذه العملية ثم وقف متفرجاً، وكأن المطلوب هو التدمير الكامل لسوريا، وإضعاف كل السوريين والعرب ليكون الاقتتال سيد الموقف بينهم؟

تماماً كما يجري أيضاً في العراق، حيث بلاد ما بين النهرين الغنية بثرواتها وتاريخها وحضارتها الإنسانية المدمّرة اليوم بانقساماتها وقتل علمائها وتهجير أهلها وتعميم الفتنة المذهبية فيها، وتنامي دور الإرهاب وصناعة المتفجرات النوعية لقتل الأبرياء فتحولت إلى بلاد ما بين القهرين المتغيرين. قهر النظام السابق، ثم قهر الاحتلال، واليوم قهر الإرهاب وقهر المذهبيات والقوميات. أليست نكبة ما يجري في اليمن المفخّخ والمفتوح على كل التدخلات الأجنبية؟ أليست نكبة أو نكسة أن نرى عشرات الملايين من العرب أميين، أو جائعين، تغزوهم كل الأفكار والعصبيات، ويدخل إليهم وعليهم الآخرون لاستغلال ثرواتهم وهم فقراء؟ أليست نكبة أن نرى بناتنا، أمهاتنا، أخواتنا في عدد كبير من دول العالم وخصوصاً في سوريا اليوم، يقتلنّ، يعتدى عليهنّ ، يغتصبن، يعذبن، يبعن، يقهرن، يعتدى على أزواجهنّ وأبنائهنّ أمامهنّ وتغتصب الفتيات أمام الأمهات؟

أليست نكبة أن نرى العالم مستنفراً لمواجهة موجة الإرهاب التي تجتاح منطقتنا وتصدّر إلى الخارج؟ كنا في النكبة الأولى أصبحنا أمام «النكبة وأخواتها»، التي تستغلها إسرائيل لتضيف إلى منطقها في إذلال الفلسطينيين الإدعاء بأن سبب الصراع هو عدم الاعتراف بحق الوجود. فتقول «ما يجري في العالم العربي كشف الكذبة الكبيرة التي كانت تروّج لتؤكد أن الصراع العربي – الإسرائيلي سببه مخططات إسرائيل وإرهابها. يا عرب إن الإرهاب بين بعضكم ومن مصادركم وضد بعضكم تجاوز كل الحدود والتطورات! رغم ذلك وبعد ستة وستين عاماً من الاحتلال والنكبة، لن يموت حق الفلسطينيين ستقوم الدولة الفلسطينية. هذا منطق التاريخ، لكن الكلفة ستكون هائلة.

مع كل التحية للشعب الفلسطيني، والمباركة للمصالحة بين قواه الأساسية، أود تخصيص هولندا بكلمة شكر وتقدير. هولندا التي أعلنت سفيرتها لدى فلسطين في احتفال اليوم الوطني في رام الله وغزة « أفتخر بالاحتفال بيومنا الوطني هنا . غزة هي جزء لا يتجزأ من الدولة الفلسطينية المستقلة وحدودها حدود عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية».

ووزّع موظفو السفارة باقات زهر صغيرة كتب عليها: « تمّ إنتاج هذه الأزهار في غزة بدعم من الممثلية الهولندية في رام الله» . وهولندا قاطعت مؤسسات ومصارف وشركات إسرائيلية إنسجاماً مع موقفها الرافض لاستمرار الاستيطان.

زهرة فلسطين لن تموت !