من رواندا إلى سوريا وفلسطين.. امتحان الضمير

غازي العريضي (الاتحاد الاماراتية)

في السابع من الشهر الجاري اسـتذكر الروانديون المجـزرة التي ارتـكبت بحق الـ «توتسي» بين شهري أبريل ويوليو عام 1994، وذهب ضحيتها 800 ألف مواطن، وبعضهم يقول تجاوز عدد الضحايا المليون!

تم إحياء المناسبة، تحت عنوان «الذكرى، الوحدة، التجدّد»، فلا بد من تذكّر الأبرياء وآلام وعذابات الأهل، ولا بد من التأكيد على وحدة البلاد، كما لابد من التجدّد وإعادة البناء على أسس متينة لتجاوز ما زرع في النفوس، وما خلّفته تلك المجازر. ولا شك في أن ثمة نقاشاً كبيراً يدور منذ سنوات حول دورين أساسيين، الدور الفرنسي، حيث لفرنسا نفوذ كبير في رواندا، وصدرت كتب كثيرة تدين موقفها وتغطيتها المجازر، وعدم تحمّل المسؤولية لتجنبها، والبحث عن مصالح ضيقة أمام فضيحة دولية في تاريخ الإنسانية.

والدور الثاني، يتعلق بالأمم المتحدة التي شكـّل فشلها في رواندا سقوطاً مدوياً لها يوازي حجم الفضيحة بحد ذاتها. لقد ألحقت تلك المجازر عاراً لا يُمحى من تاريخ الأمم المتحدة، ولا تسامح عليه مع ما تركه هذا الفشل من أثر سلبي على صدقية المنظمة الدولية ومسؤولياتها السياسية والأمنية والانسانية في حماية حقوق الانسان، وتكريس الأمن والاستقرار في العالم. ويقول أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون : «على مدى جيل كامل لن يُمحى هذا العار، كان علينا أن نفعل الكثير، لقد سحبنا قواتنا من هناك في الوقت الدقيق الذي كنا نحتاج وجوده، لقد استخلصنا الدروس والعبر، وينبغي ألا نكرر هذا الأمر أبداً» !

أما عن المسؤولية الفرنسية، فقد قيل الكثير، ثمة كتــّاب ومسؤولون وسياسيون وحقوقيون ومناضلون من أجل حقوق الإنسان طرحوا أسئلة حول موقف فرنسا محمّلين عدداً من المسؤولين في تلك الحقبة مسؤولية ما جرى. أحد المسؤولين الفرنسيين عن لجنة التنسيق العسكري قال: «يجب تقديم كل الإثباتات والشواهد للدفاع عن شرعية الحرب، وذلك لتعديل الرأي العام العالمـــي لمصلحة رواندا، واستعادة التعاون الثنائي معها». في لحظة كان فيها مئات الآلاف من الضحايا الـ «توتسي» يذبحون !

وكانت تساؤلات كثيرة منها: (لماذا تحدث آلان جوبيه في الجمعية الوطنية عن تصفية مبرمجة لـ«التوتسي» على يد القوات الحكومية ، ثم بعد أيام حمّـل الميليشيات المسؤولية!)، مقالة في صحيفة لوموند الفرنسية للكاتبين رفايل دوريدان وشارلوت لاكوست يوم 9أبريل الجاري.

وقالت وزيرة الخارجية الرواندية Louis Mushikiwabo في المناسبة : « إن فرنسا لم تقم بفحص الضمير» حول دورها قبل وخلال المجزرة .

أما الرئيس Paul Kagame فقال: «أي دولة مهما حاولت، وحتى لو اقنعت نفسها لا تستطيع أن تغيـر الوقائع، إن الوقائع عنيدة»، وذلك في إشارة إلى الدور الفرنسي، وذكـّر البعض بكلمة يقول إنها للرئيس فرنسوا ميتران قال فيها: «المجازر في تلك البلاد لا أهمية كبرى لها»!

إننا ونحن نعيش في مواجهة عصابة الأبارتيد والإرهاب في إسرائيل منذ عام 1948، وما نشهده اليوم في سوريا، وبعد نتائج الاحتلال الأميركي للعراق نطرح بدورنا أسئلة كثيرة، منها: هل صحيح أن الأمم المتحدة استخلصت الدروس والعبر مما جرى في رواندا؟ وهل صحيح أنها قامت وتقوم بدورها بعد ذلك؟ ها نحن أمام الملايين من النازحين السوريين المشردين المعذبين داخل بلادهم وخارجها، وفشل الأمم المتحدة وصمة عار جديدة في تاريخها! وإذا كانت الحرب في رواندا في مجزرة مرعبة قد حصدت 800 ألف قتيل، فالحرب في سوريا في بداياتها وقد حصدت حتى الآن 150 ألف قتيل، فضلاً عن النازحين، والمفقودين والمعتقلين، وهؤلاء مشاريع الضحايا. ماذا فعلت وماذا تفعل الأمم المتحدة؟

ماذا عن فلسطين ؟ منذ 1948 لا تنفذ قرارات الشرعية الدولية، إسرائيل تستمر في ارتكاب المجازر الجماعية بحق الفلسطينيين العزل، تصادر أرضهم وتهجرهم، تمنع عنهم المياه والكهرباء والغذاء.

ماذا سيقول التاريخ عن هذه المنظمة الدولية، وعن العـار الذي يميز دورها ؟ كيف تواجه الوقائع العنيدة التي أشار اليها الرئيس الرواندي؟ أين امتحان الضمير؟ بل أين الضمير أولاً والشعارات المتعلقة بحقوق الإنسان والديموقراطية؟ وإذا كانت كلمة الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران صحيحة، فهل ثمة اليوم من قادة العالم من يتصرف مع ما يجري في سوريا على أساس ألا حرمة للموت هناك، أو لا حرمة للإنسان وكرامته وحقه في الحياة، وألا قيمة وأهمية للمجازر والتهجير والنزوح؟ مع ما يترك ذلك من انعكاسات خطيرة باتت تهدد ليس المجتمع السوري وحده، أو الوضع داخل فلسطين المحتلة، بل بدأ كثيرون يحذرون من «الإرهاب» المتنقل الضارب في ساحات عديدة، ومن الأمراض والأوبئة والبطالة والأزمات الاجتماعية المهددة لاستقرار دول وأمم ومجتمعات؟ هل يتلاقى كلام «ميتران» مع ما عبر عنه الرئيس الأميركي أوباما – وكتبنا سابقاً – عندما قال : « كان بإمكاننا ألا نبالي بما يحدث في أوكرانيا . لكن هذه اللامبالاة لا تعني عدم الاهتمام بما تعنيه المقابر حول أوروبا بسبب الحربين العالميتين». نجدد السؤال: هل ثمة بشر يستحقون الاهتمام بهم وبمقابرهم وبتاريخهم وثمة بشر آخرون لا قيمة لهم ، ولا لمقابرهم ولا أهمية للمجازر المرتكبة بحقهم؟ ما يستحقونه هو فقط اللامبالاة لأن لعبة الأمم ومصالح الأمم هي الأهم ولها الأولوية؟ كيف يكتب التاريخ ؟ من يكتب التاريخ؟

يقال: الكبار في مواقعهم عموماً، وأحياناً الكبار في مواقفهم، وفي التاريخ وفي سير الرجال ثمة كبار مروا في هذه الحياة، كبار في مواقعهم وفي أفكارهم وفي مشاريعهم وفي أحلامهم ومواقفهم، لكن في كتب سيرهم صفحات سوداء، هذه واحدة من الأمثلة التي نشير اليها اليوم في رواندا وفي سوريا وفلسطين، تُرى هل ثمة مكان للضمير؟ وهل ثمة شجاعة في الدخول في امتحان للضمير؟

ليس ثمة ضمير يغفر لمن هم في مراكز القرار في الأمم المتحدة والدول القادرة ما يتجاهلونه أو يتجاوزونه من حقائق ، أو ما يدعمونه ويغطونه من مجازر ومآس وخراب ودمار وكوارث إنسانية على مساحة الكرة الأرضية كلها، وخصوصاً في منطقتنا وبشكل أخص في سوريا وفلسطين.