وليد جنبلاط …. الزعيم المعضلة / (المجلة)

أثارت شخصية وليد جنبلاط جدلاً واسعاً بعد تحوله من أكثر من خط وميل سياسي في لبنان، لكن موقفه بعد اغتيال رفيق الحريري جعل منه رمزاً تحررياً ولاعب أساسي في الموازنات السياسية لبلد تتحكم فيه الصراعات الدينية والمذهبية.

يُسرع في التقاط المؤشرات، كثيراً ما يتعجل في التعامل معها، فيُحير أصدقاءه ويترك خصومه في حيرة من أمره، ماذا يفعلون ينسون أم يسامحون أو يستمرون في القطيعة والمحاسبة فهوَ حمّال الهموم ومنتجها، كأنه مفتون دائم بالشغب، على أصدقائه المؤقتين وخصومه المؤقتين أيضا. حوله شغبه إلى مصدر حيوية للجميع، فيذكرك بكمال جنبلاط، الذي قيل بعد اغتياله، أن بغيابه غابت المتعة في الموالاة والمعارضة معاً.

يعرف المقربون جنبلاط بتحوله السريع إلى الوضوح، الذي يصل إلى حد الحرج والإحراج، فلا مانع عنده من إعادة النظر في الكلام والموقف والسلوك، إلى حد أن البعض يرى فيه تناقضا فاضحا. ويرى البعض الآخر فيه انسجاماً عميقاً مع وظيفته السياسية، ودوره وموقعه الدرزي الذي يُعتبر مصدرا لمخاوف دائمة، ما يضطره إلى الانتقال من مكان إلى مكان آخر، ومن موقف إلى موقف آخر. يطمح بتحويل الوجود الدرزي كأقلية إلى معنى إشكالي، تصحُ معه أطراف الأكثرية أسيرة وراغبة بالمناكفة أو الملاطفة.

يدرك وليد بك جنبلاط بعمق أن الجبل هو وتد لبنان دولة ووطناً، وأن الشراكة فيه أو الغلبة عليه هي حصانة الموقع الدرزي، وهو لا يخلو من مخاطر تأتي من الشراكة المارونية، التي تتحول إلى صراع في محطات عديدة. فهو يعرف جيداً أن الموارنة ضرورة للجبل، ولكن أن تصبح شراكتهم تامة فيه قد تحولهم إلى ضرر على الموقع الدرزي، والدور الجنبلاطي، فتراوحت لغته مع الموارنة بين الغزل والمناكفة، التي لم تخلُ من الدم خلال حروب لبنان.

القلق على الدروز، ومناكفة الموارنة، جعلا منه رقماً متحركا ًعلى إيقاع درزي فهو عندما يشعر بالقوة يصبح درزياً كيانياً، وعندما يستشعر الضعف يعود إلى العروبة، ماراً بفلسطين، مستذكراً كمال جنبلاط، مقترباً من المسلمين، مندمجاً في مشهدهم العام في الحيز الشيعي مرة والحيز السني مرة أخرى.

كانت حادثة اغتيال والده عام 1977 في السنة الثالثة للحرب الأهلية، الحد الفاصل في حياة وليد بك التي نقلت إبن الجامعة الاميركية إلى تفاصيل الصراعات اللبنانية الداخلية وأتون الحرب الأهلية ليتعامل من بعدها مع اجتياحات واحتلالات إسرائيلية، ثم إلى مرحلة وصاية كانت الأصعب على وليد جنبلاط في اتخاذ قرار الاعتراض أو الموافقة عليها.

إبن الجامعة الأميركية، الذي يتحدث الفرنسية بطلاقة، إنصرف عن السياسة وشأنها اليومي حتى غياب والده، فوجد نفسه في موقع أكبر منه بكثير، ولكن في تكوينه ما يُمكِنه من أن يملأ الموقع، فذهب بسرعة إلى موقع أبيه المحجوز له في قيادة الحركة الوطنية، مطمئنا إلى حاجتها الماسة إليه.

وأخذ جنبلاط يستعيد والده سلوكيا، جامعا بين رعايته للحركة الوطنية والتوتر الدائم معها، راغبا في أن يكون حوله فريقا استشاريا من خارج الدروز، يتخلص به من استمرار الضغط التاريخي، لعدد من قيادات الحركة الوطنية والفلسطينية على أبيه. فتعامل مع الواقع الفلسطيني بالتوفيق بين الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وبين الدور الفلسطيني المتداخل مع الوضع اللبناني، بشكل لا يخلو من تعقيدات وإحراجات، وان يتعامل مع العمق العربي على مشارف كامب دايفيد والانقسامات العربية الحادة. مضطرًا للتجاوز المؤقت في مسألة اغتيال والده، حتى لا يكون الرد الانفعالي مدخلا الى نهاية دُرزية في لبنان.

استطاع وليد جنبلاط,بصرف النظر عن ملابسات الاغتيال، أن يثبت أن البرغماتية مرادفة للسياسة العملية، ولولا هذا التصرف لما تمكن وليد بك جنبلاط من أن يحفر موقعه في عمارة السياسة في لبنان، وقد اظهر ذلك في سلوكه في الحرب الأهلية.

أدرك وليد جنبلاط، كما أدرك كمال جنبلاط، أن فلسطين مسألة فاعلة في السياسة والاجتماع والنضال، ولكنه كان عصياً على الاستغراق فيها، فهو يأتي إليها من لبنان ويعود إلى لبنان منها، فكانت فلسطين وعروبة وليد جنبلاط ممراً لا مقراً، هَماً لا مشروعا قومَيا، لذلك عندما تقرأ كمال جنبلاط أصلا تجد فكرًا يتوجه نحو السلام مباشرة.

إلا أن الاجتياح الإسرائيلي الأول للبنان عام 1978 كان توكيدا لخيارات وليد جنبلاط في وجه خصومه وخصوم الحركة الوطنية، وتعزيزا لخياره العربي، واكتمل نصابه في اجتياح 1982 حيث وصلت القوات الإسرائيلية إلى العاصمة بيروت مرورا في الجبل، واستقرت فيه، حاملة معها مشروعا لتغليب أدواتها على لبنان عامة والجبل على نحو خاص.

التقط وليد بك الإشارة كعادته وأحسَ بخطورتها، فخيب ظن زُواره المحتلين اللذين دخلوا منزله رغما عنه سنة 1982 وذهب إلى دمشق في لحظة ضعف عامة، وضعف سوري فلسطيني خاص، مقررا أن يستقوي بدمشق ويقويها، فحَسم أمره وتشبث بلبنان العربي بكل المترتبات، مقتنعا بأن الخطر الإسرائيلي قد أصبح في صلب العملية السياسية اللبنانية اليومية، ولم يعد بالإمكان إتباع سبل المرونة مع أصدقاء إسرائيل، لاسيما وأنه ومن خلال حرب الجبل، رأى أن هذا التوجه يمر بالجبل أولا، ما يعني أنه سوف ينهي الشراكة الدرزية لصالح غلبة مارونية، تجعل الجبل مقوضا لعروبة لبنان والكيان.

ثم بدا أن وليد جنبلاط قد انتبه إلى معنى مقتل بشير الجَميل في لحظة وطنية، لكن ما قام به سمير جعجع وإيلي حبيقة في شرق صيدا وصبرا وشتيلا، جعلاه وحلفاءه يزدادون قلقا، ولاسيما مع خروج منظمة التحرير الفلسطينية، واهتزاز الموقع الفلسطيني في المعادلة اللبنانية، ما جعله يتشبث بدمشق التي تشبثت به بعد الطائف.

تمسك وليد جنبلاط باشتراكية غير عقائدية، فظهر وكأنه غير مطمئن إلى مشروع زعامة الحريري، ودور المملكة العربية السعودية في لبنان، في تنشيط مشروع الرئيس الراحل رفيق الحريري. ثم ما لبث أن اكتشف أن مشروع الحريري مشروع وطني جامع في دولة جامعة، وأُفق عربي حقيقي، وعمق دولي. فوضع نفسه في سياقه، ما أدى إلى انفتاحه وتحرره من الذاكرة الصراع في الجبل وفي لبنان، فدخل في مصالحة مع الموارنة متجاوزا كل التجارب المرة، متحرراً من أثار قرار العزل، منتبها الى أن كمال جنبلاط وياسر عرفات لم يصنعا هذا القرار وقد تم توريطهما فيه.

وفي لحظة اندفاعه نحو المقاومة، في تسعينات القرن الماضي اكتشف وليد جنبلاط أن العروبة قد لا تمر بلبنان، وأحيانا تتخطاه لتكون على حسابه، ويصبح لبنان في لحظات معينة كيانا مؤقتا لخدمة كيان آخر ثابت في معادلة القومي والقُطري، ما يجعل العلاقة قائمة على شيء من الإلغاء والوصاية. أثار هذا الأمر وليد جنبلاط، واختلط في خطابه وسلوكه الشغب الدرزي بالشغب اللبناني على قاعدة الشعور بالاستضعاف لكل منهما، فكان موعد التجديد للرئيس اللبناني إميل لحود سنة 2004 الحد الفاصل بين جنبلاط الذي أتقن تجاوز الأزمات إلى التصدي، فاتخذ قرار المواجهة.

كان استشهاد الرئيس رفيق الحريري، المحطة التي ألغى فيها وليد جنبلاط كل تردده، وأنفجر متحرراً من ضغوط قناعاته الأساسية الراسخة بالعروبة وفلسطين من دون أن يشعر بحرج، مقتنعاً أن المكاسب التي جناها من سلوكه السابق لا تعادل الخسائر المحتملة من استمراره في هذا السلوك.

في ثورة الأرز اسقط وليد جنبلاط أكثر المحرمات، تجاوز كل الخطوط الحمراء، فتصدى لقيادة تيار كياني عَصبي إلى حدٍ بعيد، متجاوزًا كل النتائج التي جناها من تحالفاته القديمة في لحظة تغليب الأسئلة الصعبة التي تخص لبنان كيانا ودولة.

خروجه على الوصاية عرّضه لحالة عداء قوية، كانت مدخلا لمحاولة إلغاء وليد جنبلاط نهائيا أو إضعافه في المعادلة اللبنانية المستجدة، فانعطف نحو دُرزيته ليحفظ الدروز، وتراث آل جنبلاط بالمرونة مع شركائه في الوطن والجبل، والتنازلات العميقة مع أعداء الأمس حلفاء اليوم.

غير أن الأداء داخل 14 آذار، وبسبب الانقسام المسيحي، جعله يتصور أن المشروع الماروني التاريخي يُعاد إحياءه بطريقة استفزته، وجعلته يستعيد ذاكرته العربية والفلسطينية ليتحصن بها، ويخوض معركة الانتخابات الجديدة بذهنية المتوجس، خيفة من استشراء النفوذ الماروني في الجبل بشكل التفافي هذه المرة. فبدأ يُعيد المسألة إلى حالة الصراع، حذراً من حلفائه الافتراضيين ومن أصدقائه الافتراضيين في نفس الوقت ولاسيما الأميركيين.

حيث انتبه وليد جنبلاط الى خطأ التوهم أن لدى واشنطن مشروعا خاصا للبنان أرقى من المشروعات المطروحة، وبأن السياسة الواقعية لم تفلح في تغيير العقل الاميركي الذي عوّد أصدقاءه على أن يُحرجهم كثيرا. يعرف وليد جنبلاط أن الولايات المتحدة إمبراطورية، وأن أصدقائها مهما كانت أحجامهم، هم تفاصيل في مشروعها ومن الممكن أن تنساهم في لحظة ما.

في كل الأحوال، فإن خصوم وليد جنبلاط وأصدقاءه يُحسنون استدراجه إلى شبكات صيدهم، لكنه يُحسن أيضا الخروج من الشبكة وتفكيكها إذا شاء، والهروب إلى شبكة أخرى.

وليد بك جنبلاط، لا يتردد في طرح اشكالياته علنا، ولا مانع لديه من التنصل من كلام قاله والعودة إلى كلام قد قاله سابقاً، ثم عاد عنه لاحقا، حسب التقاطه للإشارات. يرى البعض في الأمر تناقضا فاضحا، في حين يراه البعض الأخر انسجاماً عميقا مع وظيفته السياسية، أي المعارضة على حافة الموالاة والموالاة على المعارضة.