“كولوفيس، شيخ العروبة”

سمير عطاالله (النهار)

طلب كلوفيس مقصود موعداً من الرئيس جمال عبد الناصر، فقال له عضو مجلس قيادة الثورة كمال رفعت، إن اللقاء حدد في منشية البكري (منزل عبد الناصر) ولعشر دقائق.

في الطريق إلى منشية البكري برفقة كمال رفعت، لم يكن فكر كلوفيس منصباً على ما قد يسمع أو يقول، بل على ما سوف يقال في “مطعم فيصل” حيث يتقدم منح الصلح جلسات التعليق على رجال النخبة والمثقفين ورواد فيصل. لن يرى منح بك أن الموعد في حد ذاته أمر مهم، بل سوف يتهكم على قصر الدقائق العشر.
تبدلت مخاوف كلوفيس عندما استقبله عبد الناصر مازحاً: “هُوَه حضرتك عاوز تعمل شيخ عروبة باسم كولوفيس؟”. واستبقاه إلى العشاء. لكن ذلك كله لا يشكل أي حصانة في “مطعم فيصل” أو أي ضمانة في رضى منح بك. غاية لم يبلغها أحد.
لم يغير كلوفيس مقصود اسمه ولم يعرِّبه، لكنه مضى في العمر شيخاً من شيوخ العروبة، ووجهاً لامعاً من وجوهها. عندما اتفق مع هالة سلام على الزواج، اعترضت والدتها، ابنة عبد الحميد كرامي، على الزواج من غير مسلم، فكان دفاع والدها مالك سلام، أن في كلوفيس من العروبة ما يعفيه. عروبة كلوفيس مقصود، مثل عروبة أمين الريحاني، مثل عروبة فارس الخوري، مثل عروبة مكرم عبيد، كان فيها شيء من النسك وشيء من التبشير. لم يسخِّرها في عزها ولم يسخر منها في تهاويها وما آلت إليه في ازقة بيروت وعلى ارصفة العرب.
ذهب امين الريحاني إلى نجد والحجاز والشيخ خزعل والبحرين يبشر بالعروبة، أما في العصر الحديث وزمن الطائرات، فذهب كلوفيس مقصود سفيراً للجامعة العربية إلى الهند وإلى واشنطن وإلى الامم المتحدة، وفي المواقع الثلاثة لم تعرف الجامعة حضوراً ديبلوماسيا في مثل حضوره.
لست موضوعياً عندما يتعلق الأمر بكلوفيس مقصود، فأرجو المسامحة. شهدت مرحلة عمله في الأمم المتحدة وشيئاً من استذته في الجامعة الاميركية (واشنطن)، وجمعتنا معاً مودة اللورد مالك سلام، وسنوات “النهار”، والزمن الصعب، وظَل كلوفيس لا يتغير: قلب كبير ونفس عزيزة. وذهبٌ في حضورك، ذهبٌ في غيابك.
عَرفتُ رجالاً كثيرين نُظفاء من رجس الطائفية وعفونة التعصُّب. أكملهم، هذا الشويفاتي الذي نشأ عند الدروز وأخوَلَ عند اليسار (خاله الدكتور جورج حنا)، وصاهر آل سلام وآل كرامي معاً. عندما ذهب سفيراً إلى الهند وهو في الرابعة والثلاثين، كان هذا الاشتراكي العروبي رفيق كمال جنبلاط، وكأنه جُبل خصيصاً لتمثيل العرب عند جواهر لال نهرو وانديرا غاندي. تحوَّلت صداقاته في العاصمة الهندية إلى نوع من التندر. ومرة ذهب حمدي فؤاد من “الاهرام” ومحمد مندور من “الجمهورية” فوجدا أن كل انسان يعرفه. ذات مرة توقف حمدي عند بائع ترمس وسأله إن كان يعرف كلوفيس، فلما أجاب بالنفي صرخ على زميله عالياً: “إلحق يا محمد، في واحد هندي ما يعرفش كلوفيس”!
لا ادري إن كان ذلك صحيحاً. أي أنه كان هناك يومها حقاً هندي لم يصغ إلى كلوفيس يخطب في القضية الفلسطينية. ومنذ أن جاء سفيراً إلى أميركا، لم يكن هناك احد لم يسمعه في برنامج تلفزيوني أو إذاعي أو على منبر جامعي، يتحدث عن القضية العربية. مكَّنته البلاغة والبساطة من الجمع بين بلغاء الناس وبسطائهم. كنت تقابل في منزله هنري كيسينجر أو زبيغنيو بريجنسكي، أو المرشح الرئاسي جورج ماكغفرن، وكنت ترى القاعة مكتظة بالطلاب ساعة محاضرته. ولم يكن سره الحقيقي البلاغة أو البساطة، بل الشخصية الصادقة والطوية الحسنة، والقدرة على تحويل تهكمات “فيصل” إلى نكات يتولى هو روايتها.
انتمى كلوفيس مقصود إلى ذلك الجيل الذي سماه المؤرخ البريطاني بول جونسون “جيل باندونغ”. جيل الدول الخارجة للتو من مدار الاستعمار سعياً وراء حريتها وكرامتها وشخصيتها التاريخية. وكانت نيودلهي يومها منارة تلك الحركة، وبدا سفير الجامعة العربية كأنه فرد من عائلة نهرو وجزء من الحكومة الهندية. تخرج كلوفيس من جامعة واشنطن ونال الدكتوراه من اوكسفورد، لكن التجربة الديموقراطية بهرته في الهند حيث ورث نهرو من البريطانيين بلداً فيه 250 مليون هندوسي، و90 مليون مسلم، و6 ملايين سيخ، وملايين البوذيين والمسيحيين والمتفرقات، و 500 “مهراجية” مستقلة، و 23 لغة رئيسية، و200 لهجة شعبية، و 3000 طبقة اجتماعية، و 60 مليون “منبوذ” من الذين لايُقربون. وكان 80% من سكان الهند موزعين على 500 الف قرية أكثرها لا تصلها الطرق.
اكتشف كلوفيس مقصود في كنف نهرو مدى قدرة الارادة الحسنة على تحقيق المعجزات الوطنية، ورأى أن الشعوب تستحق الديموقراطية والحرية والقانون حتى لو كان بينها طبقة تسمى المنبوذين. وفي أي حال اصبح أول “منبوذ” رئيساً للدولة العام 1997.
يصعب احصاء الزعماء والقادة الذين عرفهم كلوفيس من جيل باندونغ: تيتو وسوكارنو وعبد الناصر وياسر عرفات وسواهم. وما بين عقده الفريد في نيودلهي وعقده المتفرد في الولايات المتحدة، عمل المحامي والدكتور في العلوم السياسية صحافيا في “الاهرام” ثم في “النهار”، التي كان يأتي اليها ظهر كل يوم متأبطاً تواضعه وصحفه، وعلى جبينه عرق ممزوج بحبر “الغارديان”. وعندما التقى في الامم المتحدة سفير لبنان غسان تويني، كانا رفيقين سابقين وصديقين دائمين ومودة لها فيض واعماق. وفي السفر الطويل كنت أنا السواق، أو “الشوفور”، باعتباري “الاصغر سناً”. وكنت أسمّى “فيرمان” كما هو شائع في اسماء شوفورية فرنسا ذوي القبعات.
ذات مرة جاءا إلى العشاء عندنا في باريس، مع زوجتيهما. كان المنزل من نحو 50 متراً مربعاً امتلأ بالضحك حتى نسينا أن التاريخ هو 14 تموز. ولما خرجوا إلى الشارع وجدوا أنهم لن يعثروا على تاكسي إلا صباح 15 تموز. ما الحل؟ وقف “المعلم” في وجه اوتوبيس حكومي فارغ من الركاب حتى العمال الافارقة، ولوَّح فوراَ بما في جيبه من أوراق عليها صورة نابوليون. الاول والثاني والثالث. وكان ذلك أول اوتوبيس يصادر إلى تاكسي منذ أن اعلن ميرابو جملته الشهيرة: نحن هنا بارادة الشعب ولن نخرج إلا على اسنة الحراب.
بعد 1967 ناح العرب واستناحوا. كتب نزار قباني النعي العام تحت عنوان “دفاتر النكسة” وتدافع الجميع يندبون أو يشمتون أو يلدغون. وخرج علينا المتفائل الازلي بمحاضرة عنوانها: دعونا نتعلم من اخطائنا. كان خائفا من أن تذهب العروبة، لا تحت الدعس الاسرائيلي، بل في معس الغيارى. ولم يرَ منها بديلا، كأنما كان يسترئي البديل الحالي، في ما هو فشل وحدة الدعس وقيام وحدة الدعش.
ظل كلوفيس مقصود غريبا في لبنان. فمن يريد مارونيا عروبيا اشتراكيا يوكله العرب قضاياهم. كلوفيس مقصود لم يرد نائباً ولا وزيراً في تاريخ لبنان. لم يرد حتى لبنانياً في سياسات لبنان. ماروني لا يطاق وعروبي لا يقبل وعاقل لا مكان له في ماراتون الصفاقة ونهج الصفقات.
استغنى لبنانه عنه فصنع لنفسه لبنان لا غنى عنه. لبنان فيه الشويفات والمصيطبة وطرابلس والقاهرة وفلسطين. لست موضوعيا في موضوع كلوفيس. كان فرنسوا ميتيران يقول عن ادوار بالادور إذا جرحت جلده فلن تجد دماً بل سماً. وتحت جلد اللبنانيين لا تجد سوى اضطهاد وحسد ونكران للتفوق والجهد والنجاح. هذا “جيل باندونغ”، الرؤية الابعد من المحليات، النفس الأرقى من الاقليات، الأفق الأسمى من وطى الجوز ووطى اللوز ووطى المصيطبة. رجال اعلون، عبروا طوائفهم ثم بلدانهم وطافوا الكون دفاعاً عن قضاياهم.
كانت تربطني باللورد مالك سلام مودة لا حدود لها. ولست اذكر عدد الأمثولات التي تعلمتها من رفعته وآدابه. ولكن في ما تعلمت من رفقته، أن علينا ألا نقف سريعاً عند انجازات كلوفيس مقصود. فهذا الباسم ابداً هو العربي الاكثر جدية واجتهادا. والعرق الذي يتصبب على جبينه مجبولا بحبر “الغارديان” كان مجرد علامة عن تعرُّق الداخل وتأمل الأمة.
*يوقع كلوفيس مقصود اليوم في فندق “روتانا جفينور” كتابه “من زوايا الذاكرة: رحلة في قطار العروبة” الصادر عن “دار العربية للعلوم – ناشرون